أولاً، لا ينبغي لنا المبالغة في الحديث عن انسحاب روسيا من سوريا. فهو ليس انسحاباً كبيراً، وروسيا سوف تحافظ على قاعدتها البحرية في طرطوس وقاعدتها الجوية في حميميم. لكن، على الأرض في سوريا، هناك تقارير محلية عن سيطرة وحدات الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الحليفة، على نقاط التفتيش الروسية والقواعد الصغيرة، لا سيما في شرق وشمال سوريا. ولدى إيران موارد مالية أكبر للإنفاق على الانتشار العسكري في سوريا.
وكان البنك المركزي الإيراني قد أعلن مؤخراً أن عائدات صادرات البترول في النصف الأول من العام الفارسي، بلغت 18.6 مليار دولار، بزيادة بلغت 8.5 مليار في النصف الأول من العام الماضي. ورغم المشاكل الاقتصادية الداخلية والاحتجاجات، بإمكان طهران حشد مزيد من القوات العسكرية لإرسالها إلى سوريا.
تشير زيارة بشار الأسد إلى طهران، في وقت سابق من هذا الشهر، إلى أن وجود إيران ونفوذها في سوريا سيشهدان نمواً متزايداً.
ومن المؤكد أن الأميركيين سوف ينظرون إلى الوجود العسكري الإيراني المتنامي في شرق سوريا باعتباره تهديداً. وفي العام الماضي، تعرضت بعض القواعد الأميركية الصغيرة لهجوم من طائرات إيرانية مسيرة. وبوسعنا أن نتوقع بعض تبادل إطلاق النار بين الميليشيات الموالية لإيران في شرق سوريا والقوات الأميركية. لكن هذه المعارك ستكون محدودة. فالأميركيون لا يريدون حرباً كبيرة في سوريا، وهم لم يقفوا بعد على مصلحة استراتيجية في سوريا تبرر شن حرب كبيرة هناك.
في المقابل، حددت إسرائيل مصلحة وطنية استراتيجية مرتبطة بالوجود العسكري الإيراني: البرنامج الإيراني المستمر لنشر الصواريخ الموجهة في سوريا يمكن أن يلحق أضراراً جسيمة بالأهداف الإسرائيلية، وبالتالي، يواصل سلاح الجو الإسرائيلي قصف أهداف إيرانية بشكل منتظم. وقد أعطت موسكو بالأساس الضوء الأخضر في الماضي لهذه الهجمات الجوية الإسرائيلية، على الرغم من وجود رسائل غاضبة بعد أن أسقطت صواريخ الدفاع الجوي السورية طائرة نقل عسكرية روسية سنة 2018 في خضم هجوم جوي إسرائيلي، ومقتل 15 جندياً روسياً. وقد أرسل الروس صواريخ «إس - 300» للدفاع الجوي إلى سوريا بعد ذلك الحادث، لكن الإسرائيليين والروس أعادوا التنسيق فيما بينهم، واستمرت الضربات الإسرائيلية.
وإذا أدى الانتشار الإيراني الجديد في سوريا إلى تكثيف الهجمات الجوية الإسرائيلية، فهناك خطران محتملان: الأول أن الإيرانيين لم يردوا حتى الآن على الإسرائيليين. وربما لا حدود لصبرهم، ولا خط أحمر معتمداً فيما يتعلق بالخسائر بين قواتهم في سوريا.
وإذا كان هناك خط أحمر، فإن الإسرائيليين لم يجدوه بعد، والانتقام الإيراني سوف يكون مفاجأة. وسوف يعكس القرار الإيراني بالرد حجم المنافسة السياسية في طهران. فالسياسات الإيرانية الداخلية تراعي اتفاقاً بين إيران والقوى الدولية بشأن البرنامج النووي الإيراني. وإذا ردت إيران، فسوف تُصعد إسرائيل بسرعة. وسوف تكون إسرائيل أقل اهتماماً بالسياسة الإيرانية وأكثر تصميماً على إعادة ترسيخ الردع، وبالتالي سوف تضرب بقوة. وليس واضحاً إلى أين سينتهي التصعيد بين إسرائيل وإيران.
إضافة إلى ذلك، أطلق الروس للمرة الأولى صاروخاً من طراز «إس - 300» على الطائرات الحربية الإسرائيلية أثناء هجومها على مصياف في 13 مايو (أيار). وتخضع هذه الصواريخ للسيطرة الروسية المباشرة، ورغم أن النظام لم يستخدم راداره بشكل كامل، وبالتالي لم يشكل تهديداً كبيراً للطائرة الحربية الإسرائيلية، إلا أن هذه الحادثة كانت رسالة روسية واضحة، ربما لأن «مصياف» تقع على بعد 70 كيلومتراً فقط من القاعدة الجوية الروسية في «حميميم».
ولو استخدم الروس رادارهم وهددوا بالفعل الطائرة الحربية الإسرائيلية، لعبروا خطاً أحمر إسرائيلياً. الضربات الإسرائيلية ضد أهداف روسية في سوريا هي بدورها خط أحمر روسي، وقد اقتربت الضربة الإسرائيلية في 13 مايو من خط أحمر روسي، لكن الرد الروسي كان حذراً.
وبالتالي، في الأسابيع المقبلة، ومع تسبب مزيد من عمليات الانتشار الإيرانية في سوريا في إثارة غارات جوية إسرائيلية مكثفة، فإن كثيراً من سيناريوهات التصعيد ممكنة في سوريا.
وعلى الجانب الإيجابي، تشعر روسيا بعدم الارتياح من بعض الإجراءات الإسرائيلية فيما يتعلق بأوكرانيا، ولكن موسكو لا تريد حرباً كبيرة في الشرق الأوسط الآن، لا سيما في ضوء الحظر التركي على تحليق الطائرات العسكرية الروسية الذي يُعقد الخدمات اللوجيستية الروسية في سوريا.
ومع تطور التوازنات في سوريا وإعادة رسم الخطوط الحمراء، فإن التحدي الماثل أمام الدول هو عدم تجاوز إحداها عن طريق الخطأ.
-----------
الشرق الأوسط