.
وبعد أن ينتهي من سرد شهادته على الحرب التي تتشابه إلى حد بعيد مع الثورة السورية فيما يمكن اعتباره تكراراً نادراً للتاريخ، يقدم أورويل باباً بعنوان (عودة إلى الحرب الإسبانية) كتبه بعد ست سنوات من انتهاء هذا الصراع (الذي دام عامين ونصف!)، يحلل فيه أسباب فشل الحلم الثوري، وهو أهم بابٍ في الكتاب بالنسبة لقارئ مهتم بالمقارنات التاريخية واستخلاص العبر من دروس الأمس.
يتبنى أورويل–بانسجام واضح مع ميوله الفكرية- التفسير الطبقي للحرب، مشدداً على أن تناقضات المجتمع الإسباني هي الدافع الرئيسي للثورة، مع إبرازه لدور التحالف بين الكنيسة والأرستقراطية وفرانكو.
ومع أن القارئ يدرك بنفسه منذ الفصول الأولى صعوبة تحقيق انتصار حاسم للثوار بسبب شح الذخيرة والمؤن وانحسار التسليح، وتشعب خريطة الكتائب المقاتلة وتشرذمها وسوء تنظيمها، والخصومات الصغيرة المتضخمة حتى بين أبناء الأيديولوجيا الواحدة، إلا أن أورويل يقلل من أهمية العامل الداخلي في تقهقر القوات الجمهورية، بل يميل إلى تصديق أن "الحرب حسمت في لندن وباريس وروما وبرلين"، في إشارة إلى الدور "القذر" الذي لعبه المجتمع الدولي في انتصار فرانكو.
يتحدث أورويل في هذا الباب التاريخي عن التآمر الدولي على الثورة (لا سيما ممن يزعمون مناصرتهم لها في العلن، على حد تعبيره!)، وعن تضخيم المساندة الروسية للثوار (السعودية وقطر مثلاً، في الحالة السورية)، وخوف الدول الأوربية "الحرة" من انتصار الثورة الجمهورية في إسبانيا، مع تأييد خفي للجنرال فرانكو بالتغاضي عن فظاعات جيشه والتعتيم على جرائمه.
ويشير أورويل إلى ضعف إمداد السلاح للثوار رغم وعود براقة من أطراف شتى لم ينفذ أيٌّ منها، بينما كان معسكر فرانكو يتلقى المساعدة بانتظام كما يقول: "لقد زود الفاشيون أصدقاءهم (فرانكو) بالسلاح، أما الديمقراطيات الغربية فلم يقدموا شيئاً لمن يفترض أنهم أصدقاؤهم (الجمهوريون)"، فهو يعرب عن دهشته من تقاعس فرنسا وبريطانيا عن نصرة الجمهوريين: "بضعة ملايين من الجنيهات كانت كافية لانهيار فرانكو وضعضعة قواته".
ويشعر أورويل بحزنٍ لأن "لندن تلقت أنباء قصف مدريد ببرود"، متحسراً على أن بلاده أيدت فرانكو دون أن تصرح بذلك، بل "سلمته إسبانيا"، على حد قوله.
ومن خلال ما سرده أورويل من وقائع يومية، يمكن للقارئ أن يتكهن بمصير ثورة تنازعتها الأيديولوجيات المتناحرة حتى نسيت خصمها الرئيس، فالأناركيون اهتموا بتطبيق مبادئهم الفوضوية وقوانينهم الطوباوية، والنقابيون انساقوا وراء أحلام العدالة العمالية بحماس مفرط، والانفصاليون كانوا معنيين برفع العلم على كل مبنى يصلون إليه، بينما الشيوعيون -الذين انقسموا إلى تيارات متفرقة- أعماهم الولاء المطلق لموسكو عن الانتقائية الفجة التي مارسها الروس في التمويل والدعم –على قلتهما- وهو ما أدى إلى تخلخل موازين القوى بين الكتائب في الصف الواحد.
ولأن أورويل اندفع بحماس مثقف عضوي (بتعبير غرامشي) إلى حمل السلاح والدفاع عن مبادئه، فهو يعيب على طبقة المثقفين (الأنتلجنسيا) تناقض شعاراتهم قبل الحرب مع مواقفهم خلالها (لدى السوريين العشرات من هؤلاء)، كما ينتقد ميل فئة كبيرة منهم – بخواءٍ تنظيري مريع- إلى التفرغ لهجاء الحرب واعتبارها شراً محضاً، لذلك فهو يقول: "الحرب شر، لكنها غالباً ما تكون الشر الأقل الذي لا بد منه، فالذين يشهرون السيف، يؤخذون بالسيف".
ليس من مقاصد المقالة أن تتحول إلى موعظة، لكن التشابه المفزع بين الحرب الإسبانية والثورة السورية ينبغي أن يشغل السوريين ليتداركوا أمرهم متدبرين قول أورويل: "صمدتْ جيوش الجمهورية بسلاحها الضعيف وملابسها الرثة سنتين ونصفاً، وهي مدة أطول مما كان يتوقع أعداؤهم"، لكنها هزمت في النهاية واستعاد فرانكو السيطرة على أرض إسبانيا.
--------------------
أورينت نت
وبعد أن ينتهي من سرد شهادته على الحرب التي تتشابه إلى حد بعيد مع الثورة السورية فيما يمكن اعتباره تكراراً نادراً للتاريخ، يقدم أورويل باباً بعنوان (عودة إلى الحرب الإسبانية) كتبه بعد ست سنوات من انتهاء هذا الصراع (الذي دام عامين ونصف!)، يحلل فيه أسباب فشل الحلم الثوري، وهو أهم بابٍ في الكتاب بالنسبة لقارئ مهتم بالمقارنات التاريخية واستخلاص العبر من دروس الأمس.
يتبنى أورويل–بانسجام واضح مع ميوله الفكرية- التفسير الطبقي للحرب، مشدداً على أن تناقضات المجتمع الإسباني هي الدافع الرئيسي للثورة، مع إبرازه لدور التحالف بين الكنيسة والأرستقراطية وفرانكو.
ومع أن القارئ يدرك بنفسه منذ الفصول الأولى صعوبة تحقيق انتصار حاسم للثوار بسبب شح الذخيرة والمؤن وانحسار التسليح، وتشعب خريطة الكتائب المقاتلة وتشرذمها وسوء تنظيمها، والخصومات الصغيرة المتضخمة حتى بين أبناء الأيديولوجيا الواحدة، إلا أن أورويل يقلل من أهمية العامل الداخلي في تقهقر القوات الجمهورية، بل يميل إلى تصديق أن "الحرب حسمت في لندن وباريس وروما وبرلين"، في إشارة إلى الدور "القذر" الذي لعبه المجتمع الدولي في انتصار فرانكو.
يتحدث أورويل في هذا الباب التاريخي عن التآمر الدولي على الثورة (لا سيما ممن يزعمون مناصرتهم لها في العلن، على حد تعبيره!)، وعن تضخيم المساندة الروسية للثوار (السعودية وقطر مثلاً، في الحالة السورية)، وخوف الدول الأوربية "الحرة" من انتصار الثورة الجمهورية في إسبانيا، مع تأييد خفي للجنرال فرانكو بالتغاضي عن فظاعات جيشه والتعتيم على جرائمه.
ويشير أورويل إلى ضعف إمداد السلاح للثوار رغم وعود براقة من أطراف شتى لم ينفذ أيٌّ منها، بينما كان معسكر فرانكو يتلقى المساعدة بانتظام كما يقول: "لقد زود الفاشيون أصدقاءهم (فرانكو) بالسلاح، أما الديمقراطيات الغربية فلم يقدموا شيئاً لمن يفترض أنهم أصدقاؤهم (الجمهوريون)"، فهو يعرب عن دهشته من تقاعس فرنسا وبريطانيا عن نصرة الجمهوريين: "بضعة ملايين من الجنيهات كانت كافية لانهيار فرانكو وضعضعة قواته".
ويشعر أورويل بحزنٍ لأن "لندن تلقت أنباء قصف مدريد ببرود"، متحسراً على أن بلاده أيدت فرانكو دون أن تصرح بذلك، بل "سلمته إسبانيا"، على حد قوله.
ومن خلال ما سرده أورويل من وقائع يومية، يمكن للقارئ أن يتكهن بمصير ثورة تنازعتها الأيديولوجيات المتناحرة حتى نسيت خصمها الرئيس، فالأناركيون اهتموا بتطبيق مبادئهم الفوضوية وقوانينهم الطوباوية، والنقابيون انساقوا وراء أحلام العدالة العمالية بحماس مفرط، والانفصاليون كانوا معنيين برفع العلم على كل مبنى يصلون إليه، بينما الشيوعيون -الذين انقسموا إلى تيارات متفرقة- أعماهم الولاء المطلق لموسكو عن الانتقائية الفجة التي مارسها الروس في التمويل والدعم –على قلتهما- وهو ما أدى إلى تخلخل موازين القوى بين الكتائب في الصف الواحد.
ولأن أورويل اندفع بحماس مثقف عضوي (بتعبير غرامشي) إلى حمل السلاح والدفاع عن مبادئه، فهو يعيب على طبقة المثقفين (الأنتلجنسيا) تناقض شعاراتهم قبل الحرب مع مواقفهم خلالها (لدى السوريين العشرات من هؤلاء)، كما ينتقد ميل فئة كبيرة منهم – بخواءٍ تنظيري مريع- إلى التفرغ لهجاء الحرب واعتبارها شراً محضاً، لذلك فهو يقول: "الحرب شر، لكنها غالباً ما تكون الشر الأقل الذي لا بد منه، فالذين يشهرون السيف، يؤخذون بالسيف".
ليس من مقاصد المقالة أن تتحول إلى موعظة، لكن التشابه المفزع بين الحرب الإسبانية والثورة السورية ينبغي أن يشغل السوريين ليتداركوا أمرهم متدبرين قول أورويل: "صمدتْ جيوش الجمهورية بسلاحها الضعيف وملابسها الرثة سنتين ونصفاً، وهي مدة أطول مما كان يتوقع أعداؤهم"، لكنها هزمت في النهاية واستعاد فرانكو السيطرة على أرض إسبانيا.
--------------------
أورينت نت