تغيّرت الآن تلك الصيغة العربية الثلاثية، التي اختصّت بالشرق الأوسط وبالقضية الفلسطينية تحديداً، بسبب أوضاع سوريا التي باتت مناطق نفوذ للدول الإقليمية الثلاث، إضافة الى روسيا والولايات المتحدة. هناك محاولات لملء الفراغ الذي تركته سوريا، أو لمساعدتها في العودة الى دورها، وربما تأتي مبادرات الإمارات والأردن في هذا السياق، إلا أن فاعليتها تصطدم بطبيعة النظام السوري وبتعقيدات الواقع على الأرض، بمقدار ما تتوقّف على وفاق أميركي – روسي لا يزال صعباً. وفيما يعاني الشرق الأوسط والخليج من سباق محاور داخلية أو مرتبطة بالإشكالات الدولية والإقليمية، لا يبدو المغرب العربي بأفضل حال، خصوصاً بعد القطيعة التي قرّرتها الجزائر مع المغرب على خلفية رفضها الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وما رافقه من تطبيع للعلاقات المغربية – الإسرائيلية. ثم إن الأزمة الليبية وتداعياتها فرضت أيضاً تنافساً مغاربياً ومحاولات لرسم محاور ضائعة بين التدخّلين التركي والروسي، وبين أدوار أميركية وأوروبية دائمة التقلّب بين تفاهمات وتناقضات.
فشلت الانتفاضات الشعبية العربية، وانكفأ ما سُمّي "الربيع العربي"، بعدما استثار كل الانقسامات الاجتماعية. تأذّى العالم العربي كثيراً جرّاء هذا الفشل، وتعرّضت قضاياه العادلة لأسوأ الأضرار. لم تسنح الفرصة التاريخية لتحقيق "التغيير" الذي صدحت به الشوارع والساحات، أما "قوى التغيير" المُفترَضة فجرّبت وجازفت، لكن من دون جدوى، إذ إن نقص الخبرة وهوس التسلّط والنهم الى المكاسب لم تمكّنها من إنتاج أنظمة بديلة أكثر عدالة أو من إنهاض الاقتصادات من عثراتها وتخلّفها. فالذين خرجوا بالأمس للدفاع عن حقوقهم الأساسية، يخرجون اليوم للمطالبة بحد أدنى من العيش السويّ. لا أحد يتذكّر أن تلك الانقسامات كانت إرث الأنظمة المتساقطة لشعوبها، أو أن الاقتصاد - "الاستقرار" كان صامداً فقط بتوفّر غطاء سياسي خارجي لتلك الأنظمة، وليس بفضل استغلال جيّد للموارد الداخلية والمساهمات الدولية أو حسن إدارة لديناميات الإنتاج والنمو. والأسوأ أن أحداً لا يريد الاعتراف بأن تصحيح مسارات البلدان المأزومة يبدأ بالضرورة من معالجة الانقسامات، لئلا تتحوّل الى حروب أهلية بلا أي آفاق.
طوال العقد الماضي، أظهرت الانتفاضات الشعبية، إذاً، ما عندها من تحوّلات سياسية وانهيارات اقتصادية وتوتّرات اجتماعية. وعلى قاعدة إخفاقاتها، يبدو العقد الحالي مفتوحاً على تحوّلات عربية على مستوى الدول والحكومات، لكن في اتجاه القوى الإقليمية وبداية تغيير في نمط العلاقات. تتقدّم مصر خطوةً خطوة نحو تطبيع علاقاتها مع تركيا، وتتحاور السعودية مع إيران في بغداد، وتؤسس الإمارات نموذجاً متكاملاً، إذ تفتح صفحة جديدة مع تركيا وتطوّر توافقاً مع إيران من دون أن يؤثّر ذلك في التطبيع الذي أقامته مع إسرائيل. من الواضح أن تركيا وإسرائيل تحاولان التكيّف مع هذا التوجّه، وإنْ بطرق ومفاهيم مختلفة، أما إيران فلا تبدو جاهزة بعد، وإلا لكانت طبّقت أقوالها عن "الانفتاح على الجوار"، والمقصود به السعودية، بأفعال، ما دام حوارها مع الرياض يقوم على خفض التوتّرات. أما إثيوبيا، وهي دولة إقليمية مطلوب التوافق معها، ففوّتت فرص الوئام مع مصر والسودان بتعنّتها في قضية "سدّ النهضة"، حتى أنها لم تستجب للوساطات الخليجية، وها هي الآن تستفز السودان برغم انشغالها بحرب أهلية طاحنة.
تركيا وإيران تحاولان التقارب، كما اعتادتا دائماً، على قاعدة أن المصالح الاقتصادية أولى من الخلافات السياسية، خصوصاً عندما تكون أنقرة في فترة حرجة مع واشنطن، أو يكون هناك اشتباك "تفاوضي" بين إيران والدول الغربية، لكن الإشكالات كثيرة بينهما، من سوريا الى العراق وأذربيجان والسباق الى الخليج. وتبذل تركيا جهداً لجعل العلاقة السياسية مع إسرائيل بمستوى الازدهار التجاري بينهما، آملةً أن يساهم اللوبي الإسرائيلي في تخفيف الضغوط الأميركية عليها، لكن أنقرة ستكون مدعوّة الى "تصحيح" مواقف أردوغانية تتعلّق بإسرائيل "دولة الإرهاب" أو بالتعاطف التركي مع حركة "حماس"، كما كانت حالها ولا تزال بالنسبة الى عقبة جماعة "الإخوان المسلمين" في ملف التطبيع مع مصر. وإذ تبقى تصفية الخلافات مع السعودية من أبرز الاهتمامات الإقليمية لأنقرة، فإنها خطت فيها خطوات متقدّمة، لكنها غير كافية بعد لتوقّع لقاء قريب على مستوى القمّة. وعموماً، تبحث تركيا في كل مساعي التقارب عمّا يقوّي أوراقها في سوريا وليبيا، حيث تتفق مع روسيا وتتواجه معها في آن.
لا تزال إسرائيل تتطلّع فقط الى المصالح التي تتوخّاها من اتفاقات التطبيع التي وقّعتها مع أربع دول عربية، ولا تعتبر نفسها ملزمة بشيء حيال الشعب الفلسطيني وحقوقه، وهذا نقص فادح في العملية برمّتها، من شأنه أن يترك المجتمعات مشكّكة ومتوجّسة من هذا التطبيع. وفي الوقت نفسه، لم يُسجّل دخول إسرائيل على الخط الإقليمي التأثير المُتوقّع في موازين القوى أمنياً أو عسكرياً، وسط الاختلال الذي تشهده المنطقة بسبب تقليص الوجود الأميركي وإعادة النظر قي تموضعاته. ربما يُعزى ذلك الى اختلاف تطبيق الاستراتيجية الأميركية بين الإدارتين السابقة والحالية، إلا أن جو المواجهة الذي تتبادل إيران وإسرئيل فرضه على المنطقة لم يتغيّر، وهو مقلق جداً للدول العربية التي تريد تجنّب الانجرار الى حرب جديدة أو الوقوع في صراع عسكري قابل للتوسّع. لذلك ينبغي مراقبة التقاربات من زاوية المواجهة المحتملة إذا فشلت مفاوضات فيينا.
-------
النهار العربي
-------
النهار العربي