.
على كل حال، وعت النخب السورية البلد الذي كانت تصارع من أجله أو تسهم في إدارته كبلد عربي أكثر مما هو إسلامي. وعمل مسلمون ومسيحيون معا في مواجهة سلطات الانتداب لتجريدها من سلاح حماية المسيحيين الذي كانت تتوسله للتفريق بين المحكومين. لكن شروط الاحتلال الأجنبي ذاتها كانت أقل مؤاتاة لإعادة النظر في العلاقة الموروثة بين الدين والدولة. كانت سياسة «الوحدة الوطنية» في مواجهة المحتلين تتوافق، بالأحرى، مع تجنب إثارة مشكلات اجتماعية ودينية.
والملف الذي لم يفتح قبل الاستقلال لن يفتح بعده. منهج ترحيل المشكلات إلى مستقبل غير محدد بذريعة أن الوقت غير مناسب كان، ولا يزال، ساريا في الأوساط السياسية والثقافية السورية. الهيمنة السنية الموروثة من السلطنة في مجالات التعليم الديني والأحوال الشخصية، استمرت في الدولة الحديثة، وانضاف لها حضور تفضيلي في وسائل الإعلام العامة. فكان أن حصلنا على عامّين وسيادتين، عام الدين وعام الدولة، وسيادة الدين وسيادة الدولة. سيادة الدين، والمقصود الإسلام السني، جزئية وتتمثل في ولاية عامة على غير المسيحيين في مجال التعليم الديني، وولاية عامة جزئية أيضا في مجال قوانين الأحوال الشخصية لغير المسيحيين والدروز، وهذا دون خيار في تعلم الدين أو عدم تعلمه، ودون خيار أيضا للزواج المدني وأحوال شخصية مدنية.
ولا يبدو أن في هذا الشرط ما يسوء النظام الأسدي الذي صار يسمي الاستفتاء الدوري على رئاسة حافظ الأسد «تجديد البيعة» منذ أوساط الثمانينات (بعد مذبحة حماة)، ويعلن أبدية حكمه، ويصفه بـ«الأب القائد»، ويتوقع الطاعة التامة من الرعايا، مع احتفاظه باحتكار العنف والولاية العامة على السوريين جميعا، أو بالسيادة العليا. يناسبه، بالأحرى، ضرب من تقاسمٍ للسيادة لا ينال من عموم ولايته واستئثاره بوسائل العنف، ويرفع عن كاهله أعباء تشريعية وتعليمية ليس مؤهلا للنهوض بها. هذا فوق كون الولاية الدينية دون العامة لأجهزة سنية تناسبه لابتزاز قطاعات من محكوميه من المجموعات الدينية والمذهبية الأصغر من جهة، ولامتصاص ضغوط السنيين الأكثر تشددا من جهة ثانية. بعبارة أخرى، يجد النظام أنسب له تقديم امتياز سيادي لأجهزة دينية سهلة الاستتباع، على تشارك سياسي فعلي مع أي قطاعات نشطة من محكوميه. هذا بالطبع عكس سلوك الدولة الوطنية التي هي المقر الحصري للسيادة، بما فيها التشريع العام، فيما تكون السياسة أرضا مشاعا للمجتمع كله.
ليست هذه المقدمات هي ماقادت على نحو خطي إلى التفجر الاجتماعي والديني الراهن في سوريا، لكن هذا التفجر غير منقطع الصلة بوجود مشكلة بنيوية غير معالجة: تشكل سلطاني محدث للعلاقة بين الدين والدولة، يشارك بموجبه الدين في التشريع والتعليم الملزمين، لكنه مندرج ضمن هياكل حكم سلطاني جديد. هذا يقوم على سلطة شخصية مطلقة وراثية، تطييف ركائز الحكم الأساسية أو «الدولة الباطنة» وتمكين تفضيلي لها من الموارد العامة، وحصص للجماعات الدينية والذهبية في «الدولة الظاهرة».
لم نمر بانقطاع مؤسس مثلما جرى في تركيا على يد أتاتورك. عبر انقطاع سياسي (إلغاء الخلافة) وقانوني (قوانين مدنية) ورمزي (اعتماد الحرف اللاتيني في الأبجدية التركية) طوى مصطفى كمال صفحة السلطانية، وأتاح سجل تراكم جديد في تركيا.
لكن يبدو أن المشكلات التي لم نواجهها في الماضي تواجهنا اليوم، وستبقى في مواجهتنا إن لم ننجح في تأسيس جديد، لا نراه ممكنا دون قطيعة أو انفصال عن تنظيمات قديمة مورثة.
جذر المشكلة اليوم يتمثل في اندراج الثنائية القانونية والسيادية في الحكم السلطاني الذي حول سوريا إلى مملكة وراثية، ينال المتغلب البيعة والطاعة فيها من الرعايا بالقوة، وبمباركة الأجهزة الدينية. هذا التطور لم يحصل فقط لأنه يناسب طاغية تورط في مذابح طائفية تتصل بالعلاقة بين الدين والدولة، ويريد الاحتفاظ بالحكم في سلالته، ولكن لأن ثنائية الدين والدولة لا تفسح مجالا لغير هذا المشروع الأسدي، أو مشروع مجموعات إسلامية، تريد سلطانية جديدة، في زمن وأوضاع مغايرة.
أو قد تطوى سوريا كدولة ـ أمة ممكنة، لمصلحة كيانات أخرى، على ما يشير واقع الحال. نحصل على مملكة أسدية وراثية، أشد عدوانية وعنصرية حيال رعاياها من اي وقت سبق، وعلى مملكة أو خلافة سلفية سنية، لا تقل عن الأسدية وحشية وعنصرية، وربما إمارات هنا وهناك، تتحارب مع المملكة والخلافة، وفيما بينها، لكنها تتشارك جميعا في الانحطاط والبؤس.
في مواجهة هذا الواقع لم يفقد الدفاع عن الكيان السوري الموحد فرصته وأفضليته. لدينا كيان عمره سلفا نحو قرن، يشكل إطارا للترقي السياسي والأخلاقي والمادي لا يقارن بالمملكة والخلافة والإمارات. أيا تكن أوجه هشاشتها، سوريا عنوان لقضية تقدمية، خلافا للقضايا الأخرى، القضية السلالة الأسدية، وقضية الخلافة، وقضية الإمارات.
ولعله يتعين علينا التفكير في معالجة المسألة السورية على نحو شامل ومتكامل، فلا نستطيع التخلص من المملكة الطائفة الأسدية دون التخلص من خلافة داعش الطائفية، وإمارات الطوائف الأخرى، وبالعكس صحيح أيضا. ليست داعش حلا للمشكلة الأسدية، وليست الإمارات السلفية حلا لمشكلة داعش، وليست الأسدية حلا لأي مشكلة وطنية سورية. هذا النظام هو منبع مشكلاتنا الوطنية ومنبع العنف في البر السوري وما حوله.
ومن أجل معالجة جذرية وشاملة لمشكلاتنا، وإعادة بناء الدولة الوطنية في سوريا، ربما يمكن التفكير في حركة تحرر تحرر وطني جديدة، تعمل على تحرر البلد من الاحتلال الأجنبي الحالي، الإيراني والداعشي، وطي صفحة السلطانية، هياكل وثقافة.
سوريا بحاجة ملحة اليوم إلى مشروع تحرري. ونرى أن التخلص من المملكة والخلافة والإمارات، وتوحيد البلد، والجمهورية القائمة على المواطنة، هي الأسس الأولى لهذا المشروع.
------------------
القدس الغزبي
والملف الذي لم يفتح قبل الاستقلال لن يفتح بعده. منهج ترحيل المشكلات إلى مستقبل غير محدد بذريعة أن الوقت غير مناسب كان، ولا يزال، ساريا في الأوساط السياسية والثقافية السورية. الهيمنة السنية الموروثة من السلطنة في مجالات التعليم الديني والأحوال الشخصية، استمرت في الدولة الحديثة، وانضاف لها حضور تفضيلي في وسائل الإعلام العامة. فكان أن حصلنا على عامّين وسيادتين، عام الدين وعام الدولة، وسيادة الدين وسيادة الدولة. سيادة الدين، والمقصود الإسلام السني، جزئية وتتمثل في ولاية عامة على غير المسيحيين في مجال التعليم الديني، وولاية عامة جزئية أيضا في مجال قوانين الأحوال الشخصية لغير المسيحيين والدروز، وهذا دون خيار في تعلم الدين أو عدم تعلمه، ودون خيار أيضا للزواج المدني وأحوال شخصية مدنية.
ولا يبدو أن في هذا الشرط ما يسوء النظام الأسدي الذي صار يسمي الاستفتاء الدوري على رئاسة حافظ الأسد «تجديد البيعة» منذ أوساط الثمانينات (بعد مذبحة حماة)، ويعلن أبدية حكمه، ويصفه بـ«الأب القائد»، ويتوقع الطاعة التامة من الرعايا، مع احتفاظه باحتكار العنف والولاية العامة على السوريين جميعا، أو بالسيادة العليا. يناسبه، بالأحرى، ضرب من تقاسمٍ للسيادة لا ينال من عموم ولايته واستئثاره بوسائل العنف، ويرفع عن كاهله أعباء تشريعية وتعليمية ليس مؤهلا للنهوض بها. هذا فوق كون الولاية الدينية دون العامة لأجهزة سنية تناسبه لابتزاز قطاعات من محكوميه من المجموعات الدينية والمذهبية الأصغر من جهة، ولامتصاص ضغوط السنيين الأكثر تشددا من جهة ثانية. بعبارة أخرى، يجد النظام أنسب له تقديم امتياز سيادي لأجهزة دينية سهلة الاستتباع، على تشارك سياسي فعلي مع أي قطاعات نشطة من محكوميه. هذا بالطبع عكس سلوك الدولة الوطنية التي هي المقر الحصري للسيادة، بما فيها التشريع العام، فيما تكون السياسة أرضا مشاعا للمجتمع كله.
ليست هذه المقدمات هي ماقادت على نحو خطي إلى التفجر الاجتماعي والديني الراهن في سوريا، لكن هذا التفجر غير منقطع الصلة بوجود مشكلة بنيوية غير معالجة: تشكل سلطاني محدث للعلاقة بين الدين والدولة، يشارك بموجبه الدين في التشريع والتعليم الملزمين، لكنه مندرج ضمن هياكل حكم سلطاني جديد. هذا يقوم على سلطة شخصية مطلقة وراثية، تطييف ركائز الحكم الأساسية أو «الدولة الباطنة» وتمكين تفضيلي لها من الموارد العامة، وحصص للجماعات الدينية والذهبية في «الدولة الظاهرة».
لم نمر بانقطاع مؤسس مثلما جرى في تركيا على يد أتاتورك. عبر انقطاع سياسي (إلغاء الخلافة) وقانوني (قوانين مدنية) ورمزي (اعتماد الحرف اللاتيني في الأبجدية التركية) طوى مصطفى كمال صفحة السلطانية، وأتاح سجل تراكم جديد في تركيا.
لكن يبدو أن المشكلات التي لم نواجهها في الماضي تواجهنا اليوم، وستبقى في مواجهتنا إن لم ننجح في تأسيس جديد، لا نراه ممكنا دون قطيعة أو انفصال عن تنظيمات قديمة مورثة.
جذر المشكلة اليوم يتمثل في اندراج الثنائية القانونية والسيادية في الحكم السلطاني الذي حول سوريا إلى مملكة وراثية، ينال المتغلب البيعة والطاعة فيها من الرعايا بالقوة، وبمباركة الأجهزة الدينية. هذا التطور لم يحصل فقط لأنه يناسب طاغية تورط في مذابح طائفية تتصل بالعلاقة بين الدين والدولة، ويريد الاحتفاظ بالحكم في سلالته، ولكن لأن ثنائية الدين والدولة لا تفسح مجالا لغير هذا المشروع الأسدي، أو مشروع مجموعات إسلامية، تريد سلطانية جديدة، في زمن وأوضاع مغايرة.
أو قد تطوى سوريا كدولة ـ أمة ممكنة، لمصلحة كيانات أخرى، على ما يشير واقع الحال. نحصل على مملكة أسدية وراثية، أشد عدوانية وعنصرية حيال رعاياها من اي وقت سبق، وعلى مملكة أو خلافة سلفية سنية، لا تقل عن الأسدية وحشية وعنصرية، وربما إمارات هنا وهناك، تتحارب مع المملكة والخلافة، وفيما بينها، لكنها تتشارك جميعا في الانحطاط والبؤس.
في مواجهة هذا الواقع لم يفقد الدفاع عن الكيان السوري الموحد فرصته وأفضليته. لدينا كيان عمره سلفا نحو قرن، يشكل إطارا للترقي السياسي والأخلاقي والمادي لا يقارن بالمملكة والخلافة والإمارات. أيا تكن أوجه هشاشتها، سوريا عنوان لقضية تقدمية، خلافا للقضايا الأخرى، القضية السلالة الأسدية، وقضية الخلافة، وقضية الإمارات.
ولعله يتعين علينا التفكير في معالجة المسألة السورية على نحو شامل ومتكامل، فلا نستطيع التخلص من المملكة الطائفة الأسدية دون التخلص من خلافة داعش الطائفية، وإمارات الطوائف الأخرى، وبالعكس صحيح أيضا. ليست داعش حلا للمشكلة الأسدية، وليست الإمارات السلفية حلا لمشكلة داعش، وليست الأسدية حلا لأي مشكلة وطنية سورية. هذا النظام هو منبع مشكلاتنا الوطنية ومنبع العنف في البر السوري وما حوله.
ومن أجل معالجة جذرية وشاملة لمشكلاتنا، وإعادة بناء الدولة الوطنية في سوريا، ربما يمكن التفكير في حركة تحرر تحرر وطني جديدة، تعمل على تحرر البلد من الاحتلال الأجنبي الحالي، الإيراني والداعشي، وطي صفحة السلطانية، هياكل وثقافة.
سوريا بحاجة ملحة اليوم إلى مشروع تحرري. ونرى أن التخلص من المملكة والخلافة والإمارات، وتوحيد البلد، والجمهورية القائمة على المواطنة، هي الأسس الأولى لهذا المشروع.
------------------
القدس الغزبي