ولئن كانت هذه المعايير هي الغالبة في تركيبة وبنية جيش النظام منذ تأسيس الدولة الأسدية بعد انقلاب حافظ الأسد 1970، إلا أن منعطف الثمانينيات قد عزّز هذا المنحى، بل جعل من معيار الإخلاص لنظام الحكم ولرأس النظام على وجه التحديد هو المحدّد الأبرز لمعايير الترقي في الرتب والمناصب العسكرية، فضلاً عن القول إن الولاء للحاكم أو إرضاءه يجب أن يكون أيضاً ضمن نواظم معينة تحدّدها حاجات الحاكم وتقديراته.
لعل هذه مقدمة تبدو ضرورية قبل الوقوف عند إجراء أقدم عليه رأس النظام مؤخراً بتعيين اللواء علي محمود عباس وزيراً للدفاع عوضاً عن سلفه العماد علي أيوب.
ثمة ما بات معلوماً لدى الجميع أن شخصية وزير الدفاع في عمر الدولة الأسدية باتت شخصية نمطية لها سمات شبه معروفة حتى لدى العامة، إذ عرف السوريون أن وزير الدفاع يجب أن يكون مطلق الولاء دون أي تردد، كما يجب أن تكون هذه الشخصية سطحية التفكير وكذلك ليس لديها أي امتداد أو نفوذ في أوساط الجيش.
بعد مغادرة العماد مصطفى طلاس لهذا المنصب الذي شغله لأكثر من ثلاثة عقود، تعاقب عليه في عهد بشار الأسد خمسة أشخاص لا تكاد تفارقهم هذه السمات النمطية السابقة هم: العماد حسن تركماني (تركماني سني)، العماد علي حبيب (علوي)، العماد داود راجحة (مسيحي)، العماد فهد الجاسم (سني)، العماد علي أيوب (علوي).
ما ينبغي التأكيد عليه أنّ منصب وزير الدفاع لم يكن يوما فاعلاً أو مقرراً أو له أي تأثير في صياغة السياسات العسكرية للدولة الأسدية، لكن في الوقت ذاته كان وجوده ضرورياً جداً من الناحية الشكلية ليكون جاهزاً لتحمل كل التبعات التي يريد رأس النظام رميها عليه
ما ينبغي التأكيد عليه أنّ منصب وزير الدفاع لم يكن يوما فاعلاً أو مقرراً أو له أي تأثير في صياغة السياسات العسكرية للدولة الأسدية، لكن في الوقت ذاته كان وجوده ضرورياً جداً من الناحية الشكلية ليكون جاهزاً لتحمل كل التبعات التي يريد رأس النظام رميها عليه، فهو مشجب احتياطي ليعلق عليه كل ما يراه من أخطاء وفشل.
من خلال عقود مضت من عمر حكم آل الأسد يتبيّن للجميع أن من كان يتولى التوقيع على كل أحكام الإعدام الصادرة عن المحاكم الميدانية أو المحاكم الاستثنائية هو وزير الدفاع الذي لم يكن صاحب قرار إصدار مثل تلك الأحكام وليس بوسعه أن يغيّر فيها شيئا، وإنما تنحصر مهمته بالتصديق عليها وتحمل وزرها القانوني.
بناء عليه فإن معظم التصفيات الجسدية التي نفّذها نظام الأسد بحق خصومه السياسيين ومعارضيه منذ بداية استيلائه على الحكم، وهي أعداد تتجاوز عشرات الآلاف، وجميع هؤلاء الضحايا رمى نظام الأسد الأب والابن أوزارهم على وزراء الدفاع، في حين أن الذين نفّذوا تلك التصفيات هم ضباط في تشكيلات أمنية أخرى لا يملك وزير الدفاع عليها أي نفوذ أو سلطة.
يمكن الإشارة هنا إلى أن مواقع النفوذ داخل المنظومة العسكرية لجيش النظام منذ منتصف السبعينيات لم تعد خاضعة لتراتبية عسكرية متعارف عليها في أنظمة الخدمة التي تنص في مقدمتها على الانضباط وإطاعة أوامر القائد الأقدم، وإنما أصبحت وخاصة بعد أحداث الثمانينيات تخضع للنفوذ الشخصي للضباط أصحاب المهام الأمنية ومن كان يعول عليهم حافظ الأسد لحماية نظامه.
فعلى سبيل المثال لا يملك العماد مصطفى طلاس أو رئيس هيئة الأركان العماد حكمت الشهابي أو أي رتبة عسكرية أخرى أي نفوذ واضح أو سلطة على بعض التشكيلات وقادتها مثل سرايا الدفاع (العميد رفعت الأسد)، الحرس الجمهوري (اللواء عدنان مخلوف)، الوحدات الخاصة (اللواء علي حيدر، اللواء علي ديب، العميد هاشم معلا)، المخابرات العسكرية (اللواء علي دوبا، العميد أحمد عبود)، الفرقة الأولى (اللواء إبراهيم الصافي)، الفرقة الثالثة (اللواء شفيق فياض)، سرايا الصراع (اللواء عدنان الأسد) وغيرهم الكثيرين من طائفة رأس النظام الذين كان لهم دور كبير في تثبيت أركان حكمه من خلال ارتكاب مجازر كبيرة في حلب وحماة وجسر الشغور تشبه إلى حد كبير مجزرة حي التضامن، التي نشرت تفاصيلها صحيفة "غارديان" البريطانية، قبل أيام.
في ضوء كل ما تقدم يمكن لنا التساؤل ما الذي يحمله إجراء رأس النظام بتعيين وزير دفاع جديد، وما أثاره من جدل وتكهنات حول الأسباب والدوافع التي أدّت الى اختيار مثل هذه الشخصية لهذا المنصب في مثل هذا التوقيت؟!
لعل حاجة النظام لهذه الشخصية الجديدة إنما تمليها طبيعة المرحلة التي يخوضها، وهي ليست مرحلة مواجهات عسكرية كما كانت في السنوات العشر الماضية، فالرجل المعروف بشخصيته الضعيفة في الأوساط العسكرية، رغم اتباعه العديد من الدورات في بلدان أجنبية، إلا انه لم يتقلّد مناصب قيادية معتبرة، وإنّما كان مدرباً في الأكاديمية العسكرية.
المرحلة الراهنة التي يُعدّ "الأسد" نفسه لها، هي مرحلة تتداخل فيها القطاعات الاستخباراتية والدبلوماسية والسياسية على نطاق واسع، خاصة في ظل توقعات تشير إلى أنّ المظلة الحديدية الروسية سوف تنزاح من فوقه وستتركه وحيداً يواجه الهجمات الدبلوماسية والاستخباراتية الغربية
المرحلة الراهنة التي يُعدّ "الأسد" نفسه لها، هي مرحلة تتداخل فيها القطاعات الاستخباراتية والدبلوماسية والسياسية على نطاق واسع، خاصة في ظل توقعات تشير إلى أنّ المظلة الحديدية الروسية سوف تنزاح من فوقه وستتركه وحيداً يواجه الهجمات الدبلوماسية والاستخباراتية الغربية، ومن هنا فهو بحاجة إلى أركان حكم هم أقرب إلى هذه المهام.
فالوزير الجديد معروف بقربه من استخبارات الأسد، بل ربما على ارتباط مع مخابرات دول أخرى تم تجنيده بها خلال الدورات الخارجية التي تم إيفاده إليها، والنظام منذ عهد الأسد الأب يُتقن جيداً التعامل مع مثل هذه الحالات ويوظفها لتحسين علاقاته بالدول، وهذا ما هو بحاجته الأسد الآن في ظل وجود مطالبات إسرائيلية وبعض الدول العربية التي تدور في فلكها تدعو لعودته إلى الجامعة العربية، وقد يكون اختيار الأسد لهذه الشخصية السنية رسالة واضحة الى بعض الأطراف الخليجية التي بادرت بخطوات تطبيعية معه.
لا يمكننا تجاهل العلاقة الجيدة للواء علي محمود عباس بأسماء الأسد التي تسعى للسيطرة والتحكّم بكل المفاصل المهمة للدولة وعلى رأسها الجيش والأمن، إذ أحدث تعيينه خرقاً كبيراً في معايير الترقي وتولي المناصب، فقد احتاج الأسد لتعيينه تجاوز سبعة عشر ضابطاً أقدم منه وأحق بالمنصب، أذكر منهم ثلاثة من نوّاب رئيس الأركان يتقدمونه في القدم العسكري هم: اللواء سليم حربا، اللواء جمال شحود، اللواء صالح العلي، وأيضاً اللواء كفاح ملحم (رئيس شعبة المخابرات العسكرية)، اللواء غسان بركات إسماعيل (مدير إدارة المخابرات الجوية) وآخرين أحيل تسعة منهم على التقاعد، ويمكننا القول إن الأسد أراد التخلص من هذه الشخصيات التي لم يعد وجودها يجسد ضرورة، بل ربما باتت عبئاً عليه.
على أية حال مهما اجتهد بشار الأسد في هندسة منظومته العسكرية ومهما بذل من جهد في غربلة ما هو مهترئ، فإن الجيش الذي أسّسه والده لم يكن أحد يتوقع أن ينحو باتجاه المهنية والمعايير العسكرية التي تعطي الجيوش هيبتها وتوصيفها الصحيح، ذلك أن الجيش في الدولة الأسدية بشطريها لم يكن يوماً مدافعاً عن الوطن وحامياً للبلاد والعباد، وإنما كان وسيلة لقمع الشعب وإهانته والتسلّط عليه، وبهذا انتهى إلى طغمة عسكرية تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى ميليشيات تعمل بأوامر من جيوش محتلة كالإيرانيين والروس.
-----------
تلفزيون سوريا