أما بقية جوانب الشخصية، فقد جمعها السوريون من هنا وهناك، من مذكرات وأقاصيص، ومن كتاب “الصراع على سوريا” للكاتب البريطاني باتريك سيل. جميع هذه المصادر صوّرت الشيشكلي على أنه رجل عسكري صارم، محب للسلطة ومتغطرس، لا يختلف كثيراً عن حسني الزعيم، مهندس الانقلاب الأول ومؤسس مرحلة حكم العسكر في سوريا والعالم العربي .
وقد ظهر هذا التشبيه مجدداً في فيلم الجزيرة، وهنا يجب الإشارة أن هناك فارق كبير، لا بل كبير جداً، بين أديب الشيشكلي وحسني الزعيم.
التشابه الوحيد هو أن كليهما كانا عسكريين، قادا انقلابات عسكرية في فترات زمنية متقاربة جداً (الزعيم في 29 مارس/آذار 1949 والشيشكلي في 19 ديسمبر/كانون الأول من نفس العام). أما بعد ذلك، فلا شيء يجمع بين الشيشكلي والزعيم، ومن الظلم المقارنة بينهما. أولاً: الأسرة
أديب الشيشكلي كان ابن عائلة ثرية ومتنفذة جداً في حماة، لها أملاك زراعية شاسعة صودرت في زمن جمال عبد الناصر، وكان والده من الأغوات وابن عمه توفيق من رموز الحركة الوطنية.
هذا ما جعله مرتاحاً من الناحية المادية طوال حياته، حيث أنه لم يعتمد على راتبه العسكري للعيش حياة كريمة، عكس حسني الزعيم، المعدم مادياً (وهو ابن شيخ جامع في حلب ذو دخل محدود).
في الوقت الذي كان حسني الزعيم مطروداً من الخدمة العسكرية، يتجول على مقاهي دمشق ليجد من يقدم له كوب من الشاي أو نفس أركيلة، كان أديب الشيشكلي يصرف من جيبه على أفراد أسرته وعلى فقراء حماة وريفها.
ثانياً: ماضي الرجلين في مرحلة الانتداب الفرنسي
حسني الزعيم وأديب الشيشكلي عملا معاً في جيش الشرق التابع لسلطة الانتداب الفرنسي في سوريا.
الزعيم قبِل لنفسه أن يكون أداة في يد الفرنسيين، حيث شارك في قمع المظاهرات واعتقال الزعماء الوطنيين في الثلاثينيات.
أما الشيشكلي، فقد رفض أن يفتك بشعبه، وقد أدى هذا الامتناع إلى تأجيل ترفيعه، وإلى تعيينه (أو نفيه) في مناطق نائية مثل ريف البوكمال، عقاباً على عصيانه لأوامر وكثرة انتقاداته للفرنسيين.
ثم قام الشيشكلي بالانشقاق عن جيش الشرق يوم القصف الفرنسي على مدينة دمشق في 29 مايو/أيار 1945، وقاد عصياناً عسكرياً مع أخيه، قام فيه باحتلال قلعة حماة، تمهيداً للزحف نحو العاصمة دمشق.
ثالثاً: سوء الأمانة المالية
في سنة 1941، استدعي حسني الزعيم إلى مكتب المفوض السامي هنري دنتز في بيروت، الذي قدم له مبلغاً من المال لتشكيل عصابات مسلحة للوقوف في وجه الجيش البريطاني وقوات فرنسا الحرة الزاحفة نحو مدينة دمشق لتحريرها من الحكم الموالي للنازية.
ولكن الزعيم هرب مع المال المذكور دون تنفيذ المهمة، فتم اعتقاله وتسريحه من الجيش، وظلّ سجيناً لغاية جلاء القوات الفرنسية عن سوريا سنة 1946. ولا يوجد أي قضية مماثلة في سجل أديب الشيشكلي المهني والعسكري، ولم يُتهم الرجل بالفساد المالي أو سوء الأمانة.
حتى بعد سقوط حكمه ونفيه خارج البلاد سنة 1954، قامت الدولة السورية بجرد ممتلكاته وفتحت تحقيقاً حول ثروته، ولكن الملفات أغلقت واحدة تلو الأخرى لعدم توفر أي دليل على فساد مالي أو رشوة أو قضايا اختلاس وسرقة.
رابعاً: حرب فلسطين
لم يشارك حسني الزعيم في جيش الإنقاذ، الذي تطوع فيه أديب الشيشكلي نهاية عام 1947، ولم يدخل ميدان القتال في فلسطين.
ولكنه كان يحب تضخيم ماضيه العسكري، فيتحدث عن معارك وهمية مع الصهاينة، وعن دوره في الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين (والذي لا دليل على مشاركته فيها بالمطلق).
صحيح أنه عيّن رئيساً لأركان الجيش في الأسبوع الأول من حرب فلسطين في مايو/أيار 1948، إلا أن مشاركته ظلّت عن بعد، مشرفاً من مكتبه في وسط دمشق، بعيداً من معاناة الجنود وهمومهم. أما الشيشكلي، فقد دخل الميدان مجدداً من قوات الجيش السوري في 15 مايو/أيار 1948، وعاش تحت القصف الإسرائيلي، كما عانى من الجوع والعطش ومن سوء الإمداد، وهذا ما جعله أقرب إلى الجنود وضباط الميدان.
خامساً: العلاقة مع أمريكا وإسرائيل
أثبتت الوثائق التاريخية أن حسني الزعيم كان عميلاً للمخابرات الأمريكية، التي شاركت في التخطيط وتنفيذ انقلابه الأول سنة 1949. وقد جاء هذا الكلام بداية على لسان ضابط الـ CIA مايلز كوبلاند في كتابه الشهير “لعبة الأمم” المنشور سنة 1969، ومن ثم في أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية، الذي فتح بعد مرور 50 سنة على انقلاب حسني الزعيم سنة 1999.
وقد قررت الاستخبارات الأمريكية العمل مع الزعيم، “المتعطش للسلطة” بحسب تقاريرها، للتخلص من الرئيس المنتخب شكري القوتلي، ولكي يوقع الزعيم على اتفاقية هدنة مع إسرائيل ويأمر بتنفيذ مرور آبار النفط الأمريكية (TAPLINE) عبر الأراضي السورية.
وعندما نفذ حسني الزعيم كل ما طلب منه بدقة متناهية، حاول الدخول في مفاوضات سلام مباشرة مع الإسرائيليين ولكنه قتل قبل أن يتمكن من ذلك فجر يوم 14 أغسطس/آب 1949.
أمّا عن أديب الشيشكلي، وعلى الرغم من مرور 73 سنة على انقلابه الأول، فلم تظهر أية وثيقة تثبت أنه تعامل مع المخابرات الأمريكية أو تلقى دعماً منها، لا في انقلابه الأول ولا في الثاني. مع ذلك لم يخفِ الشيشكلي قربه من الأمريكيين، بصفتهم حلفاء لا أولياء نعمة، وفي عهده كانت أول زيارة رسمية لوزير خارجية أمريكي إلى سوريا، وهو جون فوستر دالاس. ولكن الشيشكلي تعامل معه بشكل ندي، ليس كتابع أو عميل.
ومن المعروف جيداً أن دالاس جاء إلى دمشق ليعرض على الشيشكلي دعماً عسكرياً أمريكياً للوقوف في وجه الشيوعية، شرط ألا يُرفع هذا السلاح في وجه إسرائيل. ولكن الشيشكلي رفض إعطاء تعهد من هذا النوع ويُعتقد أن هذا الموقف هو ما شجع الأمريكيين على دعم، أو عدم اعتراض، الثورة العسكرية التي انطلقت ضده نهاية عام 1953.
سادساً: العلاقة مع السياسيين
حسني الزعيم أمر باعتقال الرئيس شكري القوتلي وزجه في سجن المزة، مكبلاً مهاناً، ولكن أديب الشيشكلي رفض أن يعتقل رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي، لا عند انقلابه الأول سنة 1949 أو الثاني عام 1951.
في المرة الأولى كان ضحيته الوحيد هو قائد الجيش سامي الحناوي، وفي الثانية، أمر باعتقال رئيس الحكومة معروف الدواليبي والوزراء كافة، ولكنه لم يقترب من رئيس الجمهورية الذي فضل الاستقالة من منصبه احتجاجاً على تدخلات الجيش في السياسة، يوم 3 ديسمبر/كانون الأول 1953.
وقد ظلّ الأتاسي حراً طليقاً، حتى بعدما دعا إلى مؤتمر كبير في داره بحمص، أعلن فيه رفضه الاعتراف بشرعية حكم الشيشكلي وطالب بإسقاطه بكل الطرق المتاحة عسكرياً. رد الشيشكلي باعتقال نجله عدنان، ولكنه أبقى على حرية هاشم الأتاسي.
------------
الناس نيوز