. ماذا تعني هذه الفكرة بالنسبة لعلاقة المسلمين بتراثهم؟
يتبنَّى حنفي رؤية الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل، في معنى الوعي التاريخي، وخلاصتها أنَّ التجربة التاريخية تؤثر بعمق في تشكيل وعي الإنسان وذهنيته. هذه حقيقة لا يسع الإنسان الحديث إنكارها. الإقرار بدور التجربة التاريخية في تشكيل أذهاننا ضروريٌّ لبدء المرحلة التالية، أي استعادة الزمام، بالانتقال من حالة الانفعال الكلي بتلك التجربة، إلى التحكم في حدود تأثيرها علينا.
يختلف إنسان التقاليد عن إنسان الحداثة، بأنَّه مستغرقٌ في الماضي بكليته، مسلّم بما فيه ولمن كان فيه، وهو يفضل أن يصف نفسه كتابع، خشية أن يتهم بالابتداع أو المروق عن حدود الموروث.
أما إنسان الحداثة فطبعه المروقُ والتمرد. وهو واعٍ بأنَّ تاريخه يؤثر فيه سلبياً وإيجابياً. ولذا؛ فهو مهتم بكشف العوامل المؤثرة على ذهنه، سواء كانت قادمةً من التاريخ أو من الحاضر. الإنسان الحديث واعٍ بأنَّ ما يفكر فيه وما يفعله، ليس نتاجَ لحظتِه الراهنة بشكل كلّي، بل هو توليفة من مؤثرات شتى، قديمة وجديدة، عقلانية وعاطفية.
في نهاية المطاف، يريد حنفي أن يسألَ المسلم المعاصر نفسَه: لماذا أهتم بتراث الأسلاف... هل لأنَّه علم يقودني للحقيقة، أم لأنَّه حبل يربطني بأسلافي؟ وإذا كان الأول هو الجواب، فلماذا نرجّح علماً قديماً على علم جديد، وإذا كان الثاني هو الجواب، فما الذي يدفعني للارتباط بالأسلاف، وإلى أي حد أريد الارتباط بهم؟
- لكن لماذا لا نترك هذا التراث تماماً، بدلاً من أن نأخذَ بعضه أو نتحكم في تأثيره؟
يعتقد حنفي أنَّ النهوض الحضاري لن يتحقق، لو اكتفينا بمسايرة الحضارة القائمة والتعلم منها. كما لن نستطيع المساهمة في هذه الحضارة لمجرد التعلم منها.
نحن الآن نتعلَّم الكثير من الغرب. لكنَّنا لا نساهم جدياً في مسارات الاختراع والاكتشاف والتطوير؛ لأنَّنا داخل الإطار التقني لحضارة الغرب، لكنَّنا خارج إطارها الثقافي. لعلَّنا خدعنا أنفسنا حين تصورنا أنَّ مئات الآلاف من الأطباء والباحثين الذين درسوا في الغرب، أو اتبعوا المنهجَ الغربيَّ في البحث العلمي، سوف يشكلون، في نهاية المطاف، مجتمعاً لعلم الطب، شبيه بذلك القائم في الغرب، مجتمع ينتج العلم ويساهم في البحث والابتكار مثلما تساهم الأكاديميات ومراكز الأبحاث الغربية.
لكننا نعلم أنَّ هذا لم يحدث، رغم مرور قرن من الزمن على اتصالنا بالغرب، في هذا المجال العلمي، وفي غيره. ما تحقق فعلياً هو أنَّ أولئك الباحثين والعلماء أقاموا «توصيلة» لعالم الطب الغربي، يشبه توصيلة التلفون، أما السنترال، فما زال هناك، وسيبقى هناك.
الطريق السليمة هي «عصرنة» الثقافة العامة، أي إعادة وصلها بعالم اليوم وما فيه من تيارات وعلوم وهموم. وهذا يتطلب – بالضرورة – التحرر من الارتباط القسري بالموروث، وتحويله إلى موضوع يتحكم فيه الإنسان ولا يسلم له أو يخضع لإملاءاته. سيطرة الإنسان على حياته وخياراته هي الخطوة الأولى لإعادة بناء ثقافة تمدُّ جذورها في أعماق الماضي، وتتشابك في الوقت نفسه مع تيارات الحاضر.
التراث المفيد - وفقاً للمرحوم حسن حنفي – هو التراث الذي يؤسس لرؤية عميقة متينة، تساعدك في فهم العالم، وليس التراث الذي يحبسك في حياة الأسلاف، أو يحوّل حياتك كلَّها إلى تجوال بين القبور أو المتاحف.
----------
الشرق الاوسط
يتبنَّى حنفي رؤية الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل، في معنى الوعي التاريخي، وخلاصتها أنَّ التجربة التاريخية تؤثر بعمق في تشكيل وعي الإنسان وذهنيته. هذه حقيقة لا يسع الإنسان الحديث إنكارها. الإقرار بدور التجربة التاريخية في تشكيل أذهاننا ضروريٌّ لبدء المرحلة التالية، أي استعادة الزمام، بالانتقال من حالة الانفعال الكلي بتلك التجربة، إلى التحكم في حدود تأثيرها علينا.
يختلف إنسان التقاليد عن إنسان الحداثة، بأنَّه مستغرقٌ في الماضي بكليته، مسلّم بما فيه ولمن كان فيه، وهو يفضل أن يصف نفسه كتابع، خشية أن يتهم بالابتداع أو المروق عن حدود الموروث.
أما إنسان الحداثة فطبعه المروقُ والتمرد. وهو واعٍ بأنَّ تاريخه يؤثر فيه سلبياً وإيجابياً. ولذا؛ فهو مهتم بكشف العوامل المؤثرة على ذهنه، سواء كانت قادمةً من التاريخ أو من الحاضر. الإنسان الحديث واعٍ بأنَّ ما يفكر فيه وما يفعله، ليس نتاجَ لحظتِه الراهنة بشكل كلّي، بل هو توليفة من مؤثرات شتى، قديمة وجديدة، عقلانية وعاطفية.
في نهاية المطاف، يريد حنفي أن يسألَ المسلم المعاصر نفسَه: لماذا أهتم بتراث الأسلاف... هل لأنَّه علم يقودني للحقيقة، أم لأنَّه حبل يربطني بأسلافي؟ وإذا كان الأول هو الجواب، فلماذا نرجّح علماً قديماً على علم جديد، وإذا كان الثاني هو الجواب، فما الذي يدفعني للارتباط بالأسلاف، وإلى أي حد أريد الارتباط بهم؟
- لكن لماذا لا نترك هذا التراث تماماً، بدلاً من أن نأخذَ بعضه أو نتحكم في تأثيره؟
يعتقد حنفي أنَّ النهوض الحضاري لن يتحقق، لو اكتفينا بمسايرة الحضارة القائمة والتعلم منها. كما لن نستطيع المساهمة في هذه الحضارة لمجرد التعلم منها.
نحن الآن نتعلَّم الكثير من الغرب. لكنَّنا لا نساهم جدياً في مسارات الاختراع والاكتشاف والتطوير؛ لأنَّنا داخل الإطار التقني لحضارة الغرب، لكنَّنا خارج إطارها الثقافي. لعلَّنا خدعنا أنفسنا حين تصورنا أنَّ مئات الآلاف من الأطباء والباحثين الذين درسوا في الغرب، أو اتبعوا المنهجَ الغربيَّ في البحث العلمي، سوف يشكلون، في نهاية المطاف، مجتمعاً لعلم الطب، شبيه بذلك القائم في الغرب، مجتمع ينتج العلم ويساهم في البحث والابتكار مثلما تساهم الأكاديميات ومراكز الأبحاث الغربية.
لكننا نعلم أنَّ هذا لم يحدث، رغم مرور قرن من الزمن على اتصالنا بالغرب، في هذا المجال العلمي، وفي غيره. ما تحقق فعلياً هو أنَّ أولئك الباحثين والعلماء أقاموا «توصيلة» لعالم الطب الغربي، يشبه توصيلة التلفون، أما السنترال، فما زال هناك، وسيبقى هناك.
الطريق السليمة هي «عصرنة» الثقافة العامة، أي إعادة وصلها بعالم اليوم وما فيه من تيارات وعلوم وهموم. وهذا يتطلب – بالضرورة – التحرر من الارتباط القسري بالموروث، وتحويله إلى موضوع يتحكم فيه الإنسان ولا يسلم له أو يخضع لإملاءاته. سيطرة الإنسان على حياته وخياراته هي الخطوة الأولى لإعادة بناء ثقافة تمدُّ جذورها في أعماق الماضي، وتتشابك في الوقت نفسه مع تيارات الحاضر.
التراث المفيد - وفقاً للمرحوم حسن حنفي – هو التراث الذي يؤسس لرؤية عميقة متينة، تساعدك في فهم العالم، وليس التراث الذي يحبسك في حياة الأسلاف، أو يحوّل حياتك كلَّها إلى تجوال بين القبور أو المتاحف.
----------
الشرق الاوسط