فالخديوي إسماعيل -خامس حكّام مصر من الأسرة العلوية- يُعدّ مضرب الأمثال في الاقتراض والإسراف، بعد أن قام نابليون الثالث ومِن بعده بريطانيا بتوريطه في الديون، خاصة بعد الحفل الباذخ الذي أقامه لافتتاح قناة السويس، والذي كان بداية النهاية للخديوي إسماعيل، فقد بلغ إجمالي ديون حفل الافتتاح وحده مليونًا و400 ألف جنيه، بجانب ديون أخرى تمثلت في التعويضات التي ألزم اتفاق عام 1866 الحكومة المصرية بدفعها، ممّا اضطرّ مصر إلى بيع حصتها في القناة، بالإضافة أيضًا إلى مصاريف السمسرة ونفقات التحكيم، لتبلغ ديون مصر بعد افتتاح القناة 16 مليونًا و800 ألف جنيه مصري، ثمّ قفزت هذه الديون عام 1879 إلى نحو 100 مليون، في حين أن الميزانية المصرية لم تتجاوز 9 ملايين جنيه!
وظهر ذلك خلال حفل افتتاح قناة السويس، وحفل افتتاح دار الأوبرا، وبناء العديد من القصور الفخمة، بالإضافة إلى الإنفاق على بناء قصر الجزيرة -مكان فندق الماريوت حاليًّا- للإمبراطورة أوجيني التي كان مُغرَمًا بها، وأصرّ إسماعيل على توديعها بأسلوب خاص، فأهدى إليها غرفة نوم من الذهب الخالص، بها ياقوتة حمراء كُتِب عليها عبارة توضح أنه سيظلّ مُعجَبًا بها إلى الأبد!
تذكر كتب التاريخ أنه عندما جاءت بعثة “كيف” إلى مصر، لاحظت فرنسا إيفاد الحكومة البريطانية إيّاها أنها تريد الاستئثار بالنفوذ لدى إسماعيل، ولم تكن إنجلترا ترمي إلى النفوذ المالي فقط، بل كانت تقصد أبعد من ذلك، وهو التدخل السياسي، فنشط التنافس بين النفوذين الإنجليزي والفرنسي، ووصل إلى حاشية إسماعيل وبلاطه، ففريق كان ينقاد إلى الإنجليز، وآخر يميل إلى فرنسا، وهذا يدلّ على مبلغ الضعف السياسي الذي ضرب كيان الحكومة بسبب الارتباك المالي، ولا شكّ فالمال هو عصب النفوذ السياسي.
وأرسلت الحكومة الفرنسية هي أيضًا أحد موظفيها، وهو “مسيو فييه” ليعاون إسماعيل على تنظيم ماليته، فكانت تهدف بذلك إلى عدم انفراد الحكومة الإنجليزية بالتدخل في شؤون مصر، فقدّمت مشروعًا أبدى إسماعيل ميله إلى الأخذ به، فاستاءت الحكومة الإنجليزية من رجحان كفة النفوذ الفرنسي، وعارضت عمل إسماعيل بضربة آلمته، كانت على اتفاق معه ألّا تذيع تقرير لجنة “كيف”، حتى لا يسوء مركزه المالي، فلمّا رأت منه ميلًا إلى اتّباع المشورة الفرنسية لوّحت بأنها ستنشر التقرير، فلما احتجّ إسماعيل على إذاعته أوعزت إلى أحد نواب البرلمان البريطاني أن يسأل متى يُنشر التقرير؟ فكان جواب رئيس الوزراء البريطاني “دزرائيلي” أنه لا يعارض نشره، وأن الخديوي هو الذي يمانع في ذلك، فكان هذا الجواب أشد وطأة من نشر التقرير، لأنه ترك الأذهان تعتقد سوء الحالة المالية المصرية، وأدى ذلك إلى هبوط هائل لأسعار السندات المصرية.
كانت الفائدة الاسمية للقروض تتراوح بين 6 و7%، لكن فائدتها الحقيقية تصل إلى 12 و18 و26 و27%، وكان الخديوي كلما أعوزه المال يستدين بفوائد باهظة، وكانت الحكومة تتحايل للحصول على المال بأي وسيلة، ومنها الاستدانة عبر طرح سندات على الخزانة بفوائد فاحشة.
والغريب أن قيمة القروض لم تصل كاملة إلى الخزانة، بل كان أصحاب البيوت المالية والمُرابون يخصمون منها مبالغ طائلة لحساب المصاريف والسمسرة والفوائد وما إلى ذلك، فمثلًا في القرض الذي عُقد عام 1873 بلغ مقداره الاسمي 32 مليون جنيه، لم يدخل منه الخزانة سوى 20 مليونًا و700 ألف جنيه، منها 11 مليونًا نقدا، و9 ملايين سندات.
تُعدّ تجربة الخديوي إسماعيل كاشفة وشاهدة على أن الدولة تنهار عندما يحكمها الفرد بهواه، ولا يستطيع أحد معارضته، وعندما يزداد الحاكم الفرد قوة وسطوة يضعف الشعب، وتسوء الإدارة ويتزايد الفقر، فلا يوجد في العالم فرد يفهم جميع الشؤون، ويستطيع أن يتخذ قرارات صحيحة دون شورى.
ويؤكد التاريخ أن الحكم الاستبدادي سبب هلاك الدول وخرابها، وأنه يمكن أن يؤدي إلى إذلال المستبد وإهانته وسقوطه، وقد يفرح الطغاة بقوّتهم وسطوتهم وقدرتهم على إسكات كل صوت معارض، ولا يدركون أن ذلك قد يكون أهم عوامل السقوط.
-------------
الجزيرة مباشر
مِن الحب ما قتل!كان البذخ الذي عاش فيه الخديوي إسماعيل، ومحاولة تقليد النمط الأوربي، ونقله إلى مصر، هو مدخل المُرابين والدول إلى عقل الخديوي وقلبه للاقتراض، ممّا أدى في النهاية إلى رهن البلد تحت سلطة الدائنين والمحاكم المختلطة، التي وافق عليها مُجبَرًا قبل كل هذا.
وظهر ذلك خلال حفل افتتاح قناة السويس، وحفل افتتاح دار الأوبرا، وبناء العديد من القصور الفخمة، بالإضافة إلى الإنفاق على بناء قصر الجزيرة -مكان فندق الماريوت حاليًّا- للإمبراطورة أوجيني التي كان مُغرَمًا بها، وأصرّ إسماعيل على توديعها بأسلوب خاص، فأهدى إليها غرفة نوم من الذهب الخالص، بها ياقوتة حمراء كُتِب عليها عبارة توضح أنه سيظلّ مُعجَبًا بها إلى الأبد!
تذكر كتب التاريخ أنه عندما جاءت بعثة “كيف” إلى مصر، لاحظت فرنسا إيفاد الحكومة البريطانية إيّاها أنها تريد الاستئثار بالنفوذ لدى إسماعيل، ولم تكن إنجلترا ترمي إلى النفوذ المالي فقط، بل كانت تقصد أبعد من ذلك، وهو التدخل السياسي، فنشط التنافس بين النفوذين الإنجليزي والفرنسي، ووصل إلى حاشية إسماعيل وبلاطه، ففريق كان ينقاد إلى الإنجليز، وآخر يميل إلى فرنسا، وهذا يدلّ على مبلغ الضعف السياسي الذي ضرب كيان الحكومة بسبب الارتباك المالي، ولا شكّ فالمال هو عصب النفوذ السياسي.
وأرسلت الحكومة الفرنسية هي أيضًا أحد موظفيها، وهو “مسيو فييه” ليعاون إسماعيل على تنظيم ماليته، فكانت تهدف بذلك إلى عدم انفراد الحكومة الإنجليزية بالتدخل في شؤون مصر، فقدّمت مشروعًا أبدى إسماعيل ميله إلى الأخذ به، فاستاءت الحكومة الإنجليزية من رجحان كفة النفوذ الفرنسي، وعارضت عمل إسماعيل بضربة آلمته، كانت على اتفاق معه ألّا تذيع تقرير لجنة “كيف”، حتى لا يسوء مركزه المالي، فلمّا رأت منه ميلًا إلى اتّباع المشورة الفرنسية لوّحت بأنها ستنشر التقرير، فلما احتجّ إسماعيل على إذاعته أوعزت إلى أحد نواب البرلمان البريطاني أن يسأل متى يُنشر التقرير؟ فكان جواب رئيس الوزراء البريطاني “دزرائيلي” أنه لا يعارض نشره، وأن الخديوي هو الذي يمانع في ذلك، فكان هذا الجواب أشد وطأة من نشر التقرير، لأنه ترك الأذهان تعتقد سوء الحالة المالية المصرية، وأدى ذلك إلى هبوط هائل لأسعار السندات المصرية.
مصر تحت الوصايةبعد أن أغرق مصر في الديون، تزايدت حالة البلاد سوءًا، ولم تستطع تسديد الفوائد، مما أدى إلى فرض الوصاية الأوربية عليها، وساعدت بريطانيا -بموافقة باريس والباب العالي- على إنشاء صندوق الدين الذي تحكّم في اقتصاد مصر.
كانت الفائدة الاسمية للقروض تتراوح بين 6 و7%، لكن فائدتها الحقيقية تصل إلى 12 و18 و26 و27%، وكان الخديوي كلما أعوزه المال يستدين بفوائد باهظة، وكانت الحكومة تتحايل للحصول على المال بأي وسيلة، ومنها الاستدانة عبر طرح سندات على الخزانة بفوائد فاحشة.
والغريب أن قيمة القروض لم تصل كاملة إلى الخزانة، بل كان أصحاب البيوت المالية والمُرابون يخصمون منها مبالغ طائلة لحساب المصاريف والسمسرة والفوائد وما إلى ذلك، فمثلًا في القرض الذي عُقد عام 1873 بلغ مقداره الاسمي 32 مليون جنيه، لم يدخل منه الخزانة سوى 20 مليونًا و700 ألف جنيه، منها 11 مليونًا نقدا، و9 ملايين سندات.
نهاية الاستبدادبعد كلّ ذلك، أصدر الباب العالي -بإيعاز من فرنسا وبريطانيا- فرمانًا بعزل الخديوي إسماعيل في برقية مُهينة، وتعيين ابنه توفيق باشا بدلًا منه، ليغادر إسماعيل مصر إلى دول أوربية عدّة، ثمّ يستقر في الأستانة (إسطنبول الآن) عام 1888 قبل وفاته ودفنه في القاهرة عام 1895.
تُعدّ تجربة الخديوي إسماعيل كاشفة وشاهدة على أن الدولة تنهار عندما يحكمها الفرد بهواه، ولا يستطيع أحد معارضته، وعندما يزداد الحاكم الفرد قوة وسطوة يضعف الشعب، وتسوء الإدارة ويتزايد الفقر، فلا يوجد في العالم فرد يفهم جميع الشؤون، ويستطيع أن يتخذ قرارات صحيحة دون شورى.
ويؤكد التاريخ أن الحكم الاستبدادي سبب هلاك الدول وخرابها، وأنه يمكن أن يؤدي إلى إذلال المستبد وإهانته وسقوطه، وقد يفرح الطغاة بقوّتهم وسطوتهم وقدرتهم على إسكات كل صوت معارض، ولا يدركون أن ذلك قد يكون أهم عوامل السقوط.
-------------
الجزيرة مباشر