نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

30/10/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

المعارضات السورية... فالج لا تعالج

30/10/2024 - علي العبدالله

إيران وتجرّع كأس السم

30/10/2024 - هدى الحسيني

كيف صارت إيران الحلقة الأضعف؟

23/10/2024 - مروان قبلان

الأسد والقفز بين القوارب

20/10/2024 - صبا مدور

هل ستطول الحرب الإسرائيلية نظام الأسد؟

20/10/2024 - العقيد عبد الجبار عكيدي


بعض تحدّيات تجديد الفكر القومي




لا بد بداية من التأكيد أن الفكر لا يُجَدَّد في ندوةٍ أو مؤتمر. وأن التجديد عملية يقوم بها أفراد على التقاطع بين مسار حاجات تـنـتجها العملية الاجتماعية التاريخية ومسار تاريخ الأفكار. لقد نشأت الحاجة إلى مفكرين من نوع مفكري النصف الأول من القرن الماضي ليطرحوا الفكرة العربية. ولا بد أن تـنجب الحاجة للتجديد مفكرين جدداً. والمؤتمرات والمنتديات هي مجرد تعبير عن مثل هذه الحاجة للتجديد وعن الاعتراف بضرورتها. ولكن مهمة التجديد الفكري في النهاية هي مهمة إبداع فردي.


وبما أن الفكر العربي الذي يحمِل أو يحمَّل صفة القومي ليس فكراً موحداً، فإن التجديد لن يكون موحداً أيضاً. فالعناصر المشتركة التي تميزه عن غيره من التيارات الفكرية العربية قليلة جداً، وهي التي تصنع الفرق بينها. ولكن هذا الفرق بحد ذاته غير كافٍ لتأسيس فكر. فلا شيء يجمع بين الفكرة القومية إذا كانت ديموقراطية ليبرالية مع فكرة قومية فاشية، لأن القومية المشتركة هي بذاتها ليست فكراً، بل انتماء أو تسييس لانتماء.
ويمكننا أن نتصور حامل فكرة تسييس الانتماء القومي هذه كقاعدة للحركة المطالبة بالسيادة فاعلاً ديموقراطياً، كما يمكن تصوره فاعلاً سياسياً فاشياً. وإذا تحوّلت الحركة القومية من إدراكٍ لهويةٍ ثقافيةٍ جامعةٍ تقيم جماعة متخيلة وتسيّسها، إلى إيديولوجية صافية، فهي في هذه الحالة لا يمكن إلا أن تكون شمولية وهزيلة في الوقت ذاته. شمولية، لأنها سوف تتوق إلى تحديد موقف من كل ظاهرة، بناءً على مبدأ واحد، وهزيلة لأنها سوف تفعل ذلك بناءً على مبادئ محدودة وضامرة لا تحمل الكثير من الأجوبة.
فكرة تحوّل القومية إلى السيادة عبر أمة ديموقراطية ذات سيادة هي فكرة حديثة، وكذلك الفكرة الفاشية... ولكنهما فكرتان متناقضتان.
ماذا يميز الفكر القومي العربي؟ أولاً، الاعتراف بوجود قومية عربية لديها الحق بأن تصبح أمة ذات سيادة. وثانياً، الادعاء (الذي يجب أن يُبَرّر بالممارسة) أن منطلق التنظير وصياغة البرامج السياسية المشتقة منه هو مجمل مصلحة الأمة، خلافاً للانطلاق من مصلحة جزء منها: طائفة، عشيرة، ناحية... الخ.
هذا يكفي للتميّز عمن لا يعترف بهوية قومية عربية أصلاً. ولكن هذا طبعاً لا يكفي برنامجاً لإدارة بلد مثلاً، أو لتحديد موقف من الديموقراطية أو حقوق المواطن أو السياسة التعليمية أو التأمين الصحي... ولذلك أيضاً تـنوعت إجابات العروبيين على قضايا بلدانهم الملحة في فترة مبكرة.
وهذا هو بالضبط السبب الذي يدفع شخصاً مثلي للاعتقاد أن أفضل تعبير عن إرادة الأمة هو الديموقراطية، وأن الوجه الآخر لسيادة الأمة هو مبدأ المواطنة المتساوية وحقوق المواطنة، ويعتقد أن الحقوق الاجتماعية مثل التأمين الطبي والتعليم المجاني وحقوق العامل هي جزء من عملية بناء الأمة... وهذا ما قد يدفع شخصاً آخر إلى الاعتقاد أن ترجمة الفكرتين اللتين يتضمنهما الفكر القومي في أساسه يجب أن يجري بشكل مختلف.
ولأن الأشكال التي تجلى فيها هذا الفكر حتى الآن، أنظمة وحركات، تبدو حالياً بحاجة إلى التجديد.
وتتحجر الفكرة إذا هَمَّش حاملوها أنفسهم العملية السياسية والاجتماعية المعارضة خارج الحكم، حيث لا يشاركون في الحكم، وتتحجر إذا تحوّلت إلى مجرد إيديولوجية تبريرية لنظام حكم.
وإن العائق الأساسي أمام تطور الفكر السياسي المنطلق من وجود قومية عربية لها الحق أن تتحوّل إلى أمة ذات سيادة، هو ممارسات حاملي هذا الفكر في الحكم في دول مثل مصر وسوريا والعراق. وهذا عائق رئيسي يمس جوهر الفكرة ذاتها، أي فكرة الأمة ذات السيادة، وذلك لعدم تمكنهم من تحقيق وحدة، حتى في ما بينهم، عندما حكموا دولاً متجاورة... وكل محاولة لإيجاد مبررات لعدم إنشاء الوحدة بين الدول في هذه الحالات تزيد من التورط في الفضيحة السياسية. وإن تجربة القوميين في الحكم تمثّل عائقاً أمام التجديد في قضايا الديموقراطية وحقوق المواطن، لأن ممارسة القوميين العرب في الحكم في قضايا حقوق المواطن والرقابة الشعبية على السلطة والحريات المدنية، تخدش مصداقية التجديد الفكري الذي يضطلع به غيرهم من العروبيين بهذا الشأن.
والعائق الثاني هو تهميش القوميين لأنفسهم في المجتمعات التي لا يشاركون فيها بالحكم، واكتفاؤهم في المعارضة بترداد فكرة الوحدة العربية ورفض التطبيع مع إسرائيل، بدل طرح البديل الديموقراطي في كيفية إدارة المجتمع. لا يمكن أن يتطور الفكر خارج الإجابة على التحديات التي تطرحها هموم المواطن العينية. ومن ضمن هذه التحديات قضية الحقوق الاجتماعية وحقوق المواطن والديموقراطية وقضية الهوية.
ولا يمكن أن يشتق الموقف أو البرنامج السياسي بشأن هذه القضايا مباشرة من الفكرة القومية بحد ذاتها. فهي لا تتضمن أجوبة عن هذه الأسئلة. وتقع مهمة تقديم الأجوبة على عاتق حملة الفكرة، لا على عاتق القومية. وبقدر ما تكون لديهم برامج سياسية، وبقدر ما يقدمون إجاباتٍ عن هذه الأسئلة الملحة، بقدر ما يطوّرون الفكر القومي. لا يتطور الفكر في هذه الحالة خارج القضايا العينية، كما لا يشتق الموقف من هذه القضايا استـنباطياً من فكرة الأمة. وكل محاولة كهذه هي محاولة إيديولوجية أولاً، وهي تؤدي إلى الفكر الشمولي ثانياً.
إن مهمة تطوير الفكر القومي العربي هي مهمة حسم موقفه إلى جانب الديموقراطية وحقوق المواطن الاجتماعية والمدنية، وهي مهمة تتضح من خلال الممارسة. فالممارسة في تيار المجتمع والسياسة المركزي لا تطرح الأسئلة فقط، بل تخفف من طوباوية الأجوبة النظرية التقريعية الغاضبة، التي تمثّل الوجه الآخر للغة المتحجرة والخشبية، فكلاهما لغة هامش بعيد عن حياة الناس وحيوية العمل السياسي والاجتماعي.
شتم العرب والمجتمعات العربية والانسحاق تحت أرجل التجربة الإسرائيلية، ودور الاستعمار التنويري دون نقده من جهة، والتعصب والتحجر دفاعاً عن التجربة العربية مع نقل التهمة إلى المؤامرات الخارجية من جهة أخرى ... هما وجهان لعملة واحدة.
سوف يضطر الفكر القومي إلى تجديد نفسه في الشأن الديموقراطي ومسألة المواطنة كعضوية في الدولة لا كعضوية في القومية. وعندها سوف يجد أن الطريق إلى الوحدة العربية هي الديموقراطية، كما في حالة الاتحاد الأوروبي بوجود أمتن، أكثر في حالة العرب لو كانت دولهم منصاعة لضرورات التعاون الاقتصادي القائمة، ولو كانت ديموقراطية، وهذه ليست مسألة نظرية.
تماماً كما سوف يجد الليبرالي العربي أن لغته متحجرة وخشبية ووعظية إذا بقيت مهمشة، بعيداً من العمل السياسي والاجتماعي، ومرتبطة بالتدخل الخارجي، وقد تصل حد الإعجاب بـ«الديموقراطية الإسرائيلية»، في حين أن الممارسة في الأوساط الشعبية تجعله لا يفكر إلا بنبذ النموذج الإسرائيلي كنموذج كولونيالي، كما تدفعه إلى رؤية منجزات القوميين العرب لا مثالبهم فحسب.
وعندما يتعامل حامل الفكرة القومية، إذا كان ديموقراطياً ومنفتحاً، مع حاجات الناس والشباب المباشرة، فسوف يكتشف مصادر قوته ذاتها. فمثلاً سوف يكتشف أن الهوية ليست مسألة نظرية، بل هي شاغل أساسي وملح بالنسبة إلى الناس والشباب، مثل بقية حاجاتهم الأساسية، كما سوف يكتشف أن الجواب المتمثل بالهوية العربية في مقابل الطائفية والعشائرية هو أحد مصادر قوة التيار العروبي وفكره.
الفكرة القومية بعنصريها الأساسيـين ليست فكرة تقليدية، بل فكرة حديثة. القومية جماعة متخيلة، ولكنها ليست متخيلة من لا شيء، بل من عناصر قائمة في الواقع مثل اللغة والثقافة وعناصر التاريخ المشترك (الإثنية هي تخيل أصل مشترك). والحداثة هي التي توفر الأدوات اللازمة، من الطباعة ووسائل الاتصال وحتى نشوء الطبقة الوسطى، لتحويل هذه العناصر الثقافية والتاريخية القائمة إلى جماعة متخيلة، تسعى عبر الحركة والإيديولوجية القومية إلى التحول إلى أمة ذات سيادة.
والقومية العربية لا تختلف عن غيرها في حداثتها. القومية هي غير العروبة القائمة منذ أكثر من ألف عام. وهي بالتأكيد غير الإثنية العربية المتخيلة من أصل مشترك. وقد استوعبت في داخلها الكثير من غير العرب (بالتعريف الـ«إثني» للعرب) عندما كانت عروبة مدينية قوامها مثقفون وطبقات وسطى صاعدة وضباط من الجيش العثماني وفئات تجارية. القومية العربية ليست رابطة دم ولا عرق، بل هي جماعة متخيلة بأدوات اللغة ووسائل الاتصال الحديثة، تسعى لتصبح أمة ذات سيادة. التبرير والتنظير لهذا السعي هو الإيديولوجية القومية العربية.
وقد راج هذا النوع من التنظير في حالات بلدان الرأسمالية المتأخرة التي نعرفها، لأن السوق الرأسمالي المتطور لم يكن قائماً فيها ليتولى عملية توحيد السوق والدولة بشكل طبيعي، ولا قامت بهذه المهمة دولة الملكية المطلـقة. لذلك نرى أن حالة الإيديولوجيات القومية الشهيرة نشأت من انهيار امبراطوريات لا بناءً على تطور «طبيعي» من دولة الملكية المطلقة إلى الدولة ـــ الأمة: خذ مثلاً حالة القومية التركية ثم العربية من رحم الامبراطورية العثمانية، وحالة القوميات المنبثقة عن انهيار امبراطورية آل هبسبورغ، القوميات التي ما زالت تتبلور وتجد عنها تعبيرات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
ولا شك في أنها تتخذ تعبيرات عصبوية كلما ازدادت تأخراً ورغبة في تبرير ذاتها. ولكن ليست كل إيديولوجية قومية مبررة، ولا سبب في الدنيا لكي لا يرى القومي الديموقراطي العيش في دولة ديموقراطية متعددة القوميات أمراً محبذاً. فقد كان ممكناً تحوّل يوغوسلافيا إلى دولة ديموقراطية متعددة القوميات من هذا النوع مثلاً، بدل سلسلة المذابح والتطهير العرقي نحو إقامة «دول ديموقراطية». طرح «النقاء القومي» كحالة انفصالية، وكشرط لقيام الدولة تليه الديموقراطية، قد يؤدي ليس فقط إلى مذابح وترانسفير للآخر المختلف، بل أيضاً إلى إيديولوجية شمولية في أوساط القومية ذاتها.
لذلك فعند حديثنا عن تجديد الفكر القومي العربي بشأن المواطنة، علينا أن نذكر أيضاً أنه مثلما القومية العربية هي جماعة متخيلة كجماعة سياسية، كذلك فإن هنالك جماعات أخرى غير عربية تعيش في الأقطار العربية، ولأعضائها ليس فقط حقوق مواطن في الدول العربية، بل يجب الاعتراف بحقوق جماعية للجماعات التي تصر على تعريف نفسها كغير عربية عبر حركاتها القومية.
هذه بعض تحديات تجديد الفكر القومي. وكلها تحديات لا يمكن الاضطلاع بها دون إبداع في التعامل مع قضايا الناس، كذلك لا يمكن القيام بها دون التواضع اللازم المتجلي في التعامل باحترام لا يلغي النقد مع التراث الفكري والعملي الذي خلّفته أجيال من القوميين العرب.





عزمي بشارة
الاحد 26 أبريل 2009