يبدو أن العمل يجري حاليا، من قبل الولايات المتحدة وبعض حلفائها من الأوروبيين والعرب، لممارسة ضغط جدي على بشار الأسد لإلزامه وإلزام حلفائه الروس والإيرانيين بالقبول بـ«جنيف 1» والتراجع عن حكاية: «إنَّ الأولوية هي لمواجهة التنظيمات الإرهابية».. لكن ما الذي من الممكن عمله إن ركب الرئيس السوري رأسه بدعم إيران وروسيا وأصر على مواصلة القتال حتى وإنْ لم يبق له في سوريا إلاَّ قصره في دمشق وقصره في القرداحة؟!
إن هذا هو الاحتمال الأرجح، ولذلك فإنه يجب الاستعداد ومنذ الآن لتلك اللحظة التي يبدو أنها قد باتت قريبة جدا، التي سينْصب الاهتمام فيها على الانتقال العقلاني للسلطة سواء استقال بشار الأسد أو أجبر على الاستقالة أو لجأ إلى القرداحة أو هرب هو وعائلته، ومعه أبناء الخؤولة والعمومة ومعهم الأموال التي نهبوها من أفواه أبناء الشعب السوري، إلى بعض دول أميركا اللاتينية، وذلك لأن روسيا سوف ترفضه بالتأكيد، ويقال إنها قد رفضت مثل هذه الفكرة سلفا، ولأن إيران لن يبخل عليها معمموها بفتوى تجعلهم يتخلون عن هذا الحليف، الذي إن هو ذهب فإنه لن يعود، وينحازون إلى مصالحهم حتى مع الولايات المتحدة الأميركية.
يجب أن تستعد المعارضة السورية، التي من المفترض أن تتخلص وبسرعة من هذه الشرذمة المخزية، لتلك اللحظة المفصلية والخطيرة منذ الآن، وإلاَّ فإن سوريا العظيمة ستصبح فعلا ماضيا وستتحول إلى عدد بلا نهاية من الدويلات الطائفية والمذهبية والعرقية وهذا هو ما تريده إسرائيل، التي تسعى إلى مكانة بريطانيا في «الكومنولث» البريطاني المعروف في منظومة هذه الدويلات المفترضة التي ستكون النهاية الحتمية لهذه المنطقة كلها إنْ أصبح مصير «قلب العروبة النابض» هو هذا المصير الأسود المرعب.
وهنا فإنه يجب تذكُّرِ ما حلَّ بدولة يوغوسلافيا، التي كانت في عهد جوزيب تيتو تحتل مكانة مرموقة في العالم كله، عندما ركب سلوبودان ميلوسوفيتش رأسه وتصرف كما يتصرف بشار الأسد الآن وعندما أدار ظهره لإرادة غالبية الشعب اليوغوسلافي ووقف في وجه حركة التاريخ وأصر على حلول القوة العسكرية الغاشمة.. لقد كانت نهايته الانتحار، وكانت نهاية كل من كانوا على شاكلته من مساعديه العنصريين أقفاص محكمة الجنايات الدولية في لاهاي.
لم يتصرف ميلوسوفيتش كما تصرف الرئيس التشيكوسلوفاكي السابق غوستاف هوساك الذي تنازل عن الحكم بإرادته وعن طيب خاطر ودون أي مقاومة، لا عسكرية ولا سياسية، للروائي والكاتب المعروف فاتسلاف هافل، وكما تصرف آخر رئيسٍ شيوعي بلغاري وهو تيودور جيفكوف الذي كوفئ من قبل الذين خلفوه بإبقائه في بيته الحكومي وبمنحه راتبا تقاعديا مدى الحياة.
لقد انتقلت أوروبا الشرقية بمعظم دولها، إنْ ليس كلها، انتقالا سلميا من الشيوعية وحكم الحزب الواحد والتبعية الذيلية والذليلة للاتحاد السوفياتي إلى التعددية الحزبية وإلى الديمقراطية الغربية العريقة وإلى أنظمة التداول على السلطة وذلك لأن رؤساءها لم يفعلوا في بلدانهم ما فعله ويفعله بشار الأسد ببلده الآن، ولأن الأحزاب الشيوعية في هذه البلدان، ومن بينها ألمانيا الشرقية التي انضمت إلى ألمانيا الغربية دون عنف ولا مواجهة، قد سلمت بالأمر الواقع ولم تفعل ما يفعله «حزب البعث» الآن، ولذلك فقد كانت هناك ظاهرة الانتقال السلمي هذه التي تعتبر واحدة من أهم ظواهر التاريخ الحديث وهذا لم يكن ممكنا في سوريا لا سابقا ولا لاحقا، فالتجربة مختلفة والولاء في هذا البلد ليس للوطن وإنما لـ«القائد الملهم».. والحزب مجرد شاهد زور لا دور له وهو لا يقدم ولا يؤخر!!
لكن ورغم كل شيء ومع أنَّ المقارنة، بين دول أوروبا الشرقية ورؤسائها وأحزابها في نهايات ثمانينات القرن الماضي وبدايات تسعيناته وبين سوريا الحالية ورئيسها و«حزبها» مجحفة بالتأكيد؛ فإن المنتظر من الشعب السوري ألاَّ يكون ثأريا وألاَّ يكون انتقاميا وأن يترفع على أوجاع وبشاعات كل الجرائم التي ارتكبت بحقه ويحافظ على باقي ما تبقى من بلده وكذلك فإنه على المعارضة السورية أن تبدأ الاستعداد ومنذ الآن للّحظة الحاسمة وأن تضع التصور الحضاري المفترض للمرحلة الانتقالية المقبلة وأن تباشر الاتصال بكل من لم تلوث أيديهم بدماء الأبرياء وبكل المكونات الاجتماعية من طوائف ومذاهب وأول هذه المكونات الطائفة العلوية.
قد تكون هناك محاولات على الطريق لحلٍّ يُبقي على بشار الأسد وعلى نظامه وحكمه مع إضافة بعض «الديكور» الديمقراطي الخادع، ولعل ما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد أبلغ رئيسا عربيا كان التقاه على هامش اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة الأخير بأن روسيا تفكر باستضافة ممثلين للأطراف المتصارعة من أجل التوصل بقدر الإمكان إلى ما يتفق عليه هؤلاء جميعهم، لكن هنا تجب الإشارة إلى أن تجارب هذه الأزمة قد علمتنا وعلمت الشعب السوري والمعارضة السورية قبلنا أن الروس متآمرون وأن هدفهم من كل ما يقومون به هو «تنفيس» هذه الثورة وهو إنقاذ هذا النظام وهكذا، ولأن الواضح أنه لا عودة في الأفق إلى جنيف الأولى فإنه لا بد من مواصلة الضغط على هذا النظام وبالقوة العسكرية الفاعلة والمؤثرة لحمله مرغما على التنحي أو الهروب وهذا يتطلب أن تكون استحقاقات المرحلة الانتقالية جاهزة منذ الآن.. وإلاَّ فإن الفوضى ستكون البديل وأن التشظي سيكون النهاية المؤلمة التي لا غيرها نهاية!!
لا شك في أن المعارضة السورية (المعتدلة) تعاني من أوضاعٍ تنظيمية في غاية الصعوبة ولا شك في أنها قد عانت كثيرا من التجاذبات الإقليمية التي شكلت عبئا ثقيلا عليها وعلى الشعب السوري لكن ومع ذلك فإنه لا عذر لها في مواصلة الاستسلام لهذه الأوضاع وفي عدم إعادة ترتيب صفوفها وبسرعة، فالقضية السورية تمر بلحظة تاريخية حاسمة وهذا يقتضي الارتقاء بالأداء العسكري والأداء السياسي ووضع تصور ومنذ الآن لمتطلبات المرحلة الانتقالية التي لا بد منها لمنع سوريا من الانزلاق إلى حرب طائفية لا نهاية لها وبالتالي إلى الانقسام.
---------------------- الشرق الاوسط