يمكن لنا أن نفكر في العمل الفني وكأنه كبسولة زمن. فبما أن كل عمل فني هو نتاج عصره ووقته، فهو يحمل الشيفرة الشعورية لذلك الزمن. عندما نتلقى العمل في زمن لاحق، تكون مهمته أن يعيد خلق ظروف الزمان والمكان الشعوريين في نفس المتلقي، مثل أن نستمع إلى أغنية قديمة، أو نشاهد مسلسلاً قديماً، تعيدنا هذه التجربة بالزمن إلى الوراء، أو بالأحرى يأتي الزمن إلينا محفوظاً في كبسولة الزمن هذه لينفلش أمام أيدينا وداخل وعينا. مسلسل الوادي الكبير ليس إلا كبسولة زمن مثالية1: مسلسل بالأبيض والأسود، من إنتاج السبعينات، ينتمي لعصره، أي للتلفزيون القديم بأدواته البدائية. ويتناول في نفس الوقت فترة تاريخية أقدم منه فيصوّر لنا حال الأندلس قبل قرون بعيدة، ولكونه مسلسلاً غنائياً بالدرجة الأولى، جاء السيناريو والحوار والتمثيل درجةً ثانية مقارنة بصنعة الموسيقى والأغاني عالية الجودة. وككل المسلسلات التاريخية القديمة، جاءت حكايته بسيطة وحبكته بطيئة وحواراته مكتوبة بلغة فصحى لا تخلو أحيانا من الركاكة ولا من سذاجة النهايات السعيدة. بعد تطور حبكة الحكاية بشكل بطيء تتبدى خيوط الخير من خيوط الشر، فالشرير بشار جاسوس خطير ينكشف تسريبه لمستندات فيها معلومات مخابراتية للإسبان، ويقوم المطرب وحراسه بكشف هذه المخططات بشكل غرائبي وبالصدفة البحتة. فتنقلب الأيدي ويكسب الوالي معركته ضد الإسبان، لينتهي الأمر بالعودة المظفّرة من الجبهة والقصاص من الخائن بشار بقطع رأسه. هكذا تتغير مشاعر الوالي تجاه المطرب حين يصبح بطلاً وطنياً ساعده في كشف مخططات الأعداء، بعد أن كان قد أمر بطرده من إشبيلية لما عرف نيّته التقرب من ابنته الأميرة هزار، تلك التي تدخل بدورها في حالة اكتئاب شديدة بعد طرد المطرب لا يخرِجها منها إلا الأخبار السعيدة التي تصلها عن مباركة أبيها لهذا الحب. فيتم في نهاية المسلسل زواج المطرب والأميرة، ويعمّ الخير في أرجاء الديرة.
على حد علمي، كانت هذه المرة الوحيدة التي يقوم فيها صباح فخري بالتمثيل، وأعذره على قلة انتاجه التلفزيوني، فهو كشريكته في هذا العمل وردة الجزائرية لم يَكُنِ التمثيلُ حرفتهما، ويبدو ذلك واضحاً في حضورهما الخجول كممثلين. لماذا شارك صباح فخري إذاً في هذا المسلسل؟ الجواب بسيط جداً في ظني. ففيه يتركّز جوهر اهتمام صباح فخري الفنّان؛ إحياء التراث الغنائي التقليدي ولبس عباءة المطربين القدامى ليكون امتداداً لهم. فاستقى كتّاب الأغنية من نبع موشحات الأندلس وألّفوا الألحان بروح الموسيقى التقليدية الأندلسية التي تشكّل أحدَ روافدِ موسيقانا. واختار كاتب المسلسل لحكايته مطرباً متخيلاً من عصر الأندلس يقعُ في غرام ابنة الوالي ويجعلهُ في قلب الحبكة، لتكون الأغاني موضوعاً من مواضيع هذه الحكاية البسيطة2 التي تشبه الكثير من الحكايات الشفوية العتيقة. حيث نجد في حبكتها صراع الخير والشر، واصطفاف شخصيات المسلسل على جانبي الخطّ، الضابط خلدون والمطرب والأميرة في معسكر الخير، والشرير بشار وأعوانه في معسكر الشر... بينما تبقى شخصية الوالي الأبويّ المتسلّط وحدها تقفز فوق ذلك الخط الواهي الذي يفصل بين الخير والشر. تتغير شخصيّته مع حلقات المسلسل ليصبح أقل تسلطاً وتحكّما في النهاية فيطلق طيوره من الأقفاص لتنعم بحريّتها.
تبدو ثيمة الحنين لماض بعيد واضحة في المسلسل، بخاصة كلماتها وألحانها وطريقة أدائها وحتى اللوحات الراقصة فيها التي تحاكي الفنون الأندلسية، الأمر الذي يجعل من هكذا مسلسل كبسولة زمن تركّز عدداً من عناصر الماضي في بوتقتها وتقدّمها للمتفرج الحاضر. لتكون الأغنية كبسولة في قلب كبسولة أكبر، تحمل ماضي الأندلس بتفاصيله الفنّيّة، حافظة له من أثر الزمن، قدر الإمكان. أليس هذا ما كان يحاول صباح فخري فعله في أعماله الموسيقية؟ أليست هذه دعوى التقليديين من الموسيقيين؛ أنْ نسمعَ صوتَ نغمِ الماضي يتردد بصداه عبر الأجيال، أو حتى دعوى المجددين، إلى حد أبعد، فَمَنْ يدّعي أصلاً الخلق من فراغ؟ أليست كلّ أغنية هي صدى لحظي للأغنية الأولى، تلك التي غنّاها البشر الأولون في تجمعاتهم بغرض درء الخوف والتعبّد وإبعاد المرض ومباركة الحب وتنظيم العمل، بإيقاعات خالدة بنيَتْ عليها الموسيقى. فالمتعمّق في أصل الأغاني الشعبية يدرك كَمْ من الوظائف حَمَلَتْ تلك الأغاني لمجتمعاتها التشاركية، وظائف قلّت حاجتنا لها في عالمنا المتشرذم اليوم، حيث نتغرّبُ كأبناءِ مجتمع واحد ضمن أوطاننا وخارجها، أو نتغرّب عمّا حولنا بواقع التكنولوجيا أياً كنا فنكون عرضة للإغتراب. عندها تظهر وظيفة أخرى للأغنية كتِرْيَاقٍ للحنين.
3
بعد الانتهاء من مشاهدة مسلسل الوادي الكبير للمرة الأولى، عكفتُ على سماع أغانيه3 وكأنني أكتشف ألبوماً غنياً بالأغاني والموسيقى العربية الكلاسيكية. هكذا لأتعرف بشكل حميم على ما يزيد عن أربعين أغنية، تمثل بحجم إنتاجها كنزاً حقيقياً نسيهُ الوقت. وعلى الرغم من أن أغاني هذا «الألبوم» ليست كلها على نفس السويّة الجمالية إلا أنَّ الوادي الكبير يشكل عملاً موسيقياً متقن الإنتاج في وقته، كان قد تمّ تلقّيه بترحيب واسع من جمهور زمانه. غنّت فيه وردة الجزائرية من ألحان الموسيقار بليغ حمدي، فيما نوّع صباح فخري من ملحّنيه فاشتغل مع العديد منهم أمثال محمد محسن وإبراهيم جودت.
ولعل أجملَ أغانيه في هذا المسلسل هي تلك القصيدة التي أنقذته من الغرق. قصيدة طاب النسيم والتي غنّاها بعوده على قارب وسط نهر الوادي الكبير، وهو غير عارف بما يهدده. أغنية ذات لحن جميل وحزين، يغنّي فيها صباح فخري ثمانية أبيات من شعر يملؤه الحنين على مقام النهاوند فيقول:
طابَ النسيمُ وغنّتِ الوَرقاءُ وطغى على الوادي الكبير ضياءُ
يا نهرَ حمص آزمتكَ مسرّةٌ والعمرُ قربَكَ مُتعةٌ وهناءُ
حُبّي إليكَ معَ الزّمانِ مُجَدَّدٌ كمْ طالَ فيه تذكّرٌ وعَنَاءُ
ثم يزيد انشادا بتلوين مقام الكرد بعُرب لحنية وزخارف بديعة مشدّداً على كلمة «الحنين» حين يقول:
لولا الحنينُ لأرضِ حمص ما جَرى دمعي ولا شَمِتَتْ بيَ الأعداءُ
لينتقل المطرب إلى مقام الرست:
بلدٌ إذا ما لاحَ طيفُ خياله رَقَصَتْ لهُ في مُهجتي الأحناءُ
ومن ثمّ إلى النوا أثر:
كمْ لي بهِ من ذي وفاءٍ لم يَخُنْ عهدي وينمو في الودادِ وفاءُ
فَتراهُ يَحنو سائلاً متلهفاً عن حالتي إن قَلَّتِ الأنباءُ
قبل أن يعود إلى أصل النهاوند:
في بُعدِهِ لا الصُّبح يُشرقُ نُورهُ عندي ولا تتبدّلُ الظلماءُ
عَرِفتُ هذه الأغنية قبل أن أعرف المسلسل، وسَحَرني جوها كثيراً، خاصة أن صباح فخري كان له حرية تلوينها وزخرفتها على هواه، فهو المتمكن ذو الحرفة والصّنعة في المواويل أجاد غناء هذه القصيدة مفلوتة الإيقاع، ومع جمال وعذوبة اللحن نسمع ألفاظاً سهلة ومعنى شفيفاً يفيض بالحنين إلى مكان بعيد وزمن هانئ سعيد.. فما الذي كان المطرب يحاول قوله في هذه الأغنية؟ وما أصل هذه القصيدة التي نسبوها لشعر قديم - ولحّنها الملحن السوري إبراهيم جودت - وما هي حمص هذه التي يتغنى الشاعر بها ويحن إليها؟ أهي مدينة حمص السورية، أم أنّها إشبيلية، حمص الأندلس، كما كنّاها العرب عندما استوطنوا بلاد الإسبان؟
من العجب ألّا نجد لكلامِ القصيدةِ أصلاً كاملاً في كتب الشعر، خاصّة على الشكل الذي غنّاه به صباح فخري، ولكنْ نجدُ منها أشطراً وأبياتاً متفرقة على لسان شاعرٍ ورحالةٍ أندلسي اسمه نور الدين ابن سعيد4 عاش في القرن الثالث عشر. كان ابن سعيد قد سافر إلى مصر وبلاد الشام وكَتَبَ حنيناً إلى حمص الأندلس، إشبيلية، قصيدة طويلة من ثلاثين بيت جاء فيها:
أنَّ الخليج وغنّتِ الورقاءُ هل بَرَّحا إذ هاجتِ البُرَحاءُ
يا نهرَ حمصٍ لا عَدَتْكَ مسَرَّةٌ ماءٌ يسيلُ لديكَ أم صهباءُ
ودّي إليكَ مع الزّمانِ مُجَدَّدٌ ما إنْ يَحُولُ تذكُّرٌ وعَنَاءُ
لولا تشَوُّق أرضِ حمصٍ ما جرى دمعي ولا شَمِتَتْ بيَ الأعداءُ
بلدٌ متى يَخطُر له ذكرٌ هفا قلبي وخانَ تصبُّرٌ وعزاءُ
إلى آخر القصيدة. فكيف تحولت كلمات ابن سعيد الأندلسي المكتوبة منذ قرون، من قصيدة قديمة يصعب على بعضنا أن يتلقاها كاملة لِقِدَمِ لغتها نسبياً وغرابةِ بعض ألفاظها، إلى أغنية يغنّيها صباح فخري في سبعينات القرن الماضي؟ مَنْ انتشلها من تحت غبار الكتب القديمة وقام بإعادة ترتيبها وتطعيمِ القديمِ فيها بالجديد والسّهلِ من القول، في سبْكٍ شعري غنائي يفتح القصيدة على قابلية اللّحن ويسهّلها على لغتنا العربية المعاصرة؟ أغلب الظنّ أنّه كاتب المسلسل نزار مؤيد العظم5، فالأسلوب يشبه أسلوب قصائده الأخرى التي كتبها للمسلسل، حيثُ نجح هنا بحرفيّة أن يستحضر نظماً شعرياً مَنسياً من ماضي الأندلس فينفث فيه الروح من مفردات ومعاني الحاضر، وكأنّه يقومُ بفعلِ ترجمة ضمن اللغة الواحدة، من لغة عربية قديمة إلى لغة عربية أجدد، محافظاً على روح الشعر، أكثر من محافظته على أصل المعنى. الترجمة هنا تغليفٌ للّغة الأصلِ بأنسجة من لغة الحاضر، مع مراعاة تغيّرِ اللغة الأصل بمرور الوقت، وكأني أراه يبحث عن اللغة النقية، تلك التي كتب عنها فالتر بنيامين6، والتي هي روح اللغة؛ ما ضرب عليه ابن سعيد الأندلسي بعصاه السحرية في قديم الأزمان، روح اللغة التي يسعى خلفها المترجمون عندما يعيدون خلق نصٍّ من جديد. ربما نجح نزار العظم في «العثور على ذلك الأثر المنشود في اللغة المُترجَم إليها، الذي يُحدث فيها صدىً للأصل...» حين قام بترجمة قصيدة ابن سعيد بشكل يحافظ على صداها الشعوري، مُصلحاً ما أحدثته يد الزمن على اللغة القديمة من تبديل، فها هي القصيدة الجديدة «المترجمة» تنجحُ بتحريك مشاعرنا في هذا الزمان، أوليسَ هذا فعل كبسولات الزمن؟ فالآن وبتأثير الكبسولة يسهل لنا أن نعودَ بخيالنا قروناً من الزّمن ونتخيّلَ مغنّياً يُغنّي ويُنْشِدُ كلمات الرحّالة ابن سعيد الأندلسيّ، فنشعر بوقْعِ ما يقوله عندما نسمعه بصوت صباح فخري يتردّدُ في نهر الوادي الكبير، يتردّد وكأنه صدى لأغنية عتيقة.
4
حنينٌ على حنين، دوائر من الحنين. أنا المهاجر أحنّ إلى أرضي وناسي بانغماسي بموسيقى أجدادي، وابن سعيد الرحالة الأندلسي يجوب المشرق ويحنّ لبلاده الأم إشبيلية، وعرب استوطنوا الأندلس يحنّون إلى بلادهم الأصل الشام فَيُلَقّبون إشبيلية بحمص، وكاتب المسلسل في السبعينات يحنّ إلى ماضي الأندلس، وفي نفس الوقت يحنّ صباح فخري لماضي الغناء التقليدي وإلى «أرض حمص» وهو يجلس في القارب على نهر مفترض في الأندلس، لتتقاطع دوائر الحنين وتتكامل. ولكن من أين يأتي كلّ هذا الحنين؟ فلا حنين بلا اغتراب. ولا فرق بين غربة الجغرافيا وغربة الذات. الكلّ يولّد حنيناً، خصوصاً غربة الفنّان في أهله وزمانه، فالعالم الموسيقي الذي عاش فيه صباح فخري هو عالم تقليدي محافظ موسيقياً يعيش في ماض ذهب ولن يعود، مما جعل منه غريب الذات موسيقياً. فبينما كان معاصروه يجددون في اللحن كانت ميول أذنه تعشق ألحان زمان ولّى... ألم يُسمّى حارساً للتراث؟ فكيف لا يكون غريباً إذن... ومن غربته هذه حنينُه الدائم، وطربُ شعوره...فالحنينُ في اللغة الشّديدُ البُكاء والطربْ، ويقالُ صوتُ الطربِّ عن حزن أو فرح7. والحنينُ الشّوقُ والتوقانُ، فالمطربُ إذ يحنُّ، يتوق إلى زمن أغنية راح، فيتلبّس الزمن ويعيد خلقه، والحنينُ وظيفة المُشتاق، ومهمّة الرحّالة، وهو الاستمرار في وجه الانقطاع والغياب.
ولكن ما هو هدف شعور الحنين، ولماذا نَحِنُّ؟ تجيب على هذا السؤال الباحثة وعالمة النفس الأميركية كريستين باتشو8 بإجابة غير متوقعة. فللوهلة الأولى قد يبدو لنا أن الحنين هو تجربة نفسية غير مفيدة لأنها تريدُ لنا أن نعيش في ماضٍ انتهى. ولكنها في الحقيقة تجربة نفسية مريحة ومفيدة كما تقول باتشو، فالحنين يساعد الإنسان على أن يبقى واحداً مع نفسه. فهويّتنا تتغير بشكل مستمر ويلزمنا إحساس بالاستمرارية في مواجهة انتقالات الحياة العظيمة، كتغيير المكان والمجتمع طوعاً أو كراهية... الحنينُ تأمّلٌ في الماضي يؤمِّنُ لنا هذا الإحساس بالاستمرارية والوجود، نخلقُ به معنى لحياتنا عن طريق ملاحظة كَمْ تغيرَ العالمُ حولنا وكَمْ تغيّرنا نحنُ، فالحَنَّانُ يتأملُ بحنينه ما مضى ليُكامِلَ حاضرَه بصورةٍ من ماضيه.
ولكن كل ما يفيد قد يؤذي. ففي حالاته المؤذية يمكنُ للحنين أن يعزلنا عمَّن حولنا، خاصة إذا كان محيطنا لا يفهم ما مررنا به. كحالِ المغتربِ يحنُّ في عزلته الباردة الى دفء الأوطان ناسياً تناقضاتها ومشاكلها، منعزلاً عن مجتمعه الجديد وناسه، فيهربُ بالحنين من الواقع، طريقة انسحاب شعورية، ولو لحظية. انسحاب يؤذي عند الانغماس فيه من دون مجموعة تشاركه إياه، فيصبح الخلاص الوحيد هو مجموعة من المغتربين تلتقي وتتشارك حنينها وحياتها وموسيقاها. فالموسيقى وسيلتنا لنشتبك مع حاضرنا وماضينا في نفس الوقت. والحنين مُعدٍ، اسألوا المهاجرين، خاصة أبناء البلد الواحدة؛ كمْ استهلكت من أحاديثهم مواضيع الحنين هذه: الحنين للأماكن والشوارع، والموسيقى، والأكل. الحنين طبقٌ فيه حلوٌ ومرّ، كما تصف باتشو، مع حلاوة الذكريات السعيدة، هناك دوماً مرارة اليقين بأن الوقت قد مضى، ولا يمكننا مطلقاً العودة بالزمن إلى الوراء.
5
مَنْ يسمع منّا صباح فخري يغني طاب النسيم لا بد أن تتحرّك فيه مشاعر شتّى من بينها شعور الحنين، ذلك الحنين الذي يجيء بعد غربة وبُعد، ولكن إلى ماذا يحنُّ المطرب هنا؟ هل يحنُّ إلى زمن الوصل مع المحبوب، أم إلى بلاد وأهلها، أم هو حنين يتلو غربة ذاتٍ عما حولها. للحنين أنواع كثيرة، ربّما كان حنيناً للتاريخ، وفيه يحنّ البشر لفترة زمنية ولّت ولم يعيشوها، سببه غالباً عدم الرضى عن واقع الحال. «سقى الله» يقول عرب اليوم لأنفسهم وهم يحنّون للأندلس، نظراً لضيق واقع حالهم، تُغذّي مخيّلتهم ذخيرة انطباعات خادعة اللمعان عن الماضي تتبدّى لهم في المسلسلات والأدب متناسين تعقيد هذا الماضي وسيرته الملطّخة بالدم وصراعات السلطة، مرسّخين مسوّغات الاستيطان العديدة.9
ولكن يمكن للحنين أن يكون حنيناً شخصياً، وهو حنين المرء لماضي حياته عندما يمرّ بأيام انتقالية صعبة، فالتصالح مع التغيير أمر عسير خاصة عندما نمرّ بأمور خارجة عن سيطرتنا، كأن نُنفى عن أوطاننا، حيث يهددّنا التغيير من الداخل وتهتز له صورة الذات فيصبح من الضروري أن نرجع للماضي لنرى مَنْ كنّا ومَنْ نكون فعلاً، قد يساعدنا خَيَارُ الحنين أن نفكّر أنّه في زمان ما كانت الأمور «بخير» حتى ولو كان هذا الخير انتقائياً ومتعلّقاً بمشاعر وذكريات مرتبطة بمحبة الأهل أو الأصدقاء أو مرح الطفولة ولهو الشباب الزائلين، أي بعضاً مما يَخرجُ من صندوق الذاكرة عندما نمدّ أيدينا العمياء إلى الداخل.
ولكن احذَرْ عندما تتذكّر، فالذاكرة مخاتلة ومتغيّرة ولا يُعتَمَدُ عليها، تؤكد باتشو مستعينة بسنين طويلة من الأبحاث الإدراكية التي تشير إلى أن عملية استعادة الذكريات هي عملية غير دقيقة بالمطلق، وفيها غربلة دائمة للتفاصيل وإعادة خلق للذكرى في كلّ مرة. حيث يجنح البشر بشكل عام لتذكر الأوقات الطيبة ونسيان الأوقات الصعبة بتفاصيلها الحسّية والشعورية10.فنحنُ حين نَحنُّ نرأبُ صدعَ الوقت نرجو صورة لمّاعة تُعجبنا لما كان. «الزمن الجميل» كما يطلق عليه الحنّانون لمّا يضيق بهم الحاضر، بغضّ النظر إنْ كان الماضي جميلاً حقاً، فالذاكرة التي تنتقي تفاصيلَها لا يُعوَّلُ عليها، ولكنّها جزء لا يتجزّأ منّا يتغيّر بتغيّرنا ويعتمدُ على مزاجنا وحالتنا النفسية كأنْ نميلَ لتذكُّرِ الجيّد عندما نكون سعداء والسّيء عندما نكون مكتئبين، وهكذا.
لا داعي لليأس هنا، فمازال لدينا ما نقوم به حيال هذه الذاكرة المخاتلة، حيث يتحكمُ نوعُ الناس الذين نحيطُ بهم أنفسَنا بانتقائية الذاكرة، الناس الذين يُمكِنُ لنا بحضورهم أنْ نُخْرِجَ أفضلَ سردية ممكنةٍ من صندوق ذكرياتنا. قُلْ لي مَنْ تُعاشر أقلْ لكَ مَنْ أنت، ويطبق المثل على ما نستمع إليه من الأغاني أيضاً: قُلْ لي ما تسمع أقُل لك من أنت. الأغنية تُحضر معها المشاعر والمشاعر بدورها تشد الذّكريات خارج صندوق الذاكرة. لا يهمّ من أين تأتي هذه الأغنية الفاعلة، من أي بلد أو أي زمان، من حفلة أو مسلسل أو فيلم أو مسرحية أو برنامج أطفال، طالما تصلنا في وقت مناسب، فنشتبك معها وندخل عالمها، بينما نترك لها حرّية التسربل في تجربتنا الشعورية.
6
لا تفشل أغنية طاب النسيم في أن تحرك مشاعري عندما أسمعها أو أرددها، نفس الشيء أقرّ به العديد من أصدقائي السوريين ممن طلبت منهم أن يستمعوا لها. إنها حقاً أغنية تحرّك المشاعر، أغنية تغرورق لها دموع بعضنا اليوم، ولكن كيف تقوم بهذا الفعل؟ أثر الأغنية في النفس معروف ومُختَبَر خاصة في أوقات الشدّة والفقدان وفقاً لما كتبه أوليڤر ساكس11، طبيب الأعصاب والكاتب البريطاني الشهير عن تجربته مع الفقدان وتأثير الموسيقى عليه. كان أوليڤر شغوفاً بخالته لين، ولطالما شعر أن لها فضلاً في إنقاذه من الجنون، إنْ لم يكن إنقاذ حياته، عندما تمَّ ارساله بعيداً عن بيت طفولته في لندن أثناء الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من أن موتها لاحقاً ترك فراغاً كبيراً في نفسه، لم يستطع أوليڤر أن يحزن على فقدانها لسبب غامض، فاستمرّ يؤدي عمله ويعيش حياته بشكل ميكانيكي بينما في داخله حالة خدر شعوري وعاطفي استمرّت لأسابيع، حتى قررَ في ليلة أن يحضر حفلة موسيقية على أملِ أن تبعَثَهُ الموسيقى من حالة الغيبوبة الشعورية تلك، ولكنّه لم يجد الشفاء حيث طلب فتتالى عزف المقطوعات الواحدة تلو الأخرى وهو يجلسُ في مقعده متململاً إلى أن وصلت الحفلة إلى مقطوعتها الأخيرة، مقطوعة لم يكن أوليڤر قد سمعها من قبل، اسمها مراثي إرميا12 أغنية دينية من أسفار العهد القديم لمؤلف تشيكي من معاصري باخ اسمه زيلينكا. فجأة وبينما كان أوليڤر يستمع لمراثي إرميا وجد عينيه وقد اغرورقتا بالدموع، وعواطفه المتجمّدة لأسابيع وقد بدأت بالتحرّك، كسرت مرثية إرميا تلك سدّ المشاعر المنيع لأوليڤر ساكس وحررته.
ولكنّنا لسنا أمام وصفة جاهزة ومضمونة المفعول، يقول د. ساكس. بينما يذكرُ أوقاتاً أخرى من حياته لم تستطع الموسيقى وحدها أن تشفيه كيوم توفيت والدته، حيث لم تفلح موسيقى شوبرت بمساعدته إلا بشكل مؤقت وغير مضمون المفعول. الفنون ليست أدوية مخدّرة، على قول إي. إم. فورستر13، لا نضمن أن تقوم بعملها في حال تناولنا لها. «فقبل أن تُعطي الفنون مفعولَها لابدّ أن يتحرّرَ الدافعُ الإبداعيُ، ذلك الشيء الغامض والغريب فينا». هناك الكثير من العوامل الأخرى التي تلعب دوراً في تأثير الأغاني علينا، مثل شخصيتنا الفردية وتاريخنا الشخصي وثقافتنا ونوع الموسيقى التي استمعنا إليها في طفولتنا، والأهمُّ هو اللحظة التي نسمع فيها الأغنية أو نشتبك معها. للمفارقة، في قصة تأثّر أوليڤر ساكس بمراثي إرميا، كان ساكس طبيباً ملحداً لا يؤمن بدين، والأغنية التي أحدثت فرقاً شعورياً وعاطفياً عليه كانت أغنية دينية قديمة. دليلٌ أنّ الجانب الشعوري للأغنية، أي كيف نشعر لحظة تلقّينا لها، يتجاوز الجانب الإدراكي والتحليلي. على عكس الفنون الأخرى، لا يعتمد تأثير الأغنية كثيراً على ما «تقوله» بقدر ما يعتمد على ما تُحركه فينا من مشاعر. فربما لو سمع أوليڤر مراثي إرميا في لحظة سعيدة من حياته، من دون أن يكون الفقدان قد غلّف روحه بسدّه المنيع، لما تأثر بها لهذا القدر. وربّما تركَ جانبه التحليلي يرفض تذوّقها لمجرد كونها أغنية دينية، بنفس الشكل الذي لا يهمّني فيه اليوم ما يقوله المطرب في أغنية طاب النسيم وما سبب حنينه، طالما تحرّك الأغنية مشاعري في أوقات الضيق وتهَدهِد آلام الغربة لتغفو قليلاً.
الأغنية كيان معقّد، فيه تزاوج لعناصر الكلمة واللحن والصوت في سبك مقدّس تخرج فيه الأغنية وكأنها نازلة من السماء، كما يقول موزارت. كائن أسطوري له باع العرّافين في علاج النفس من غيمة الكآبة والضيق وحرقة الفقدان والحنين. لا يختلف الكثيرون على أنّ الموسيقى هي أقرب الفنون إلى المشاعر وأقلّها ارتباطا بالعالم المحسوس حولنا، فهي إنْ تقومُ بمفعولها، تقومُ به داخل النفس البشرية. نجح علم الأعصاب الحديث في تفكيك هالة الغموض حول الموسيقى عندما أظهر الصلة العميقة بين شبكات الأعصاب التي تصل قشرة الدماغ السمعية التي تتلقى إحساس السمع بمراكز أكثر عمقا مثل الاميغدالا (اللوزة) والثالاموس (المِهاد) مهد الأحاسيس والمشاعر والذاكرة. فعندما تعمل الأغنية على المراكز الشعورية، تحرّك فينا بأصابع خفيّة نواة المشاعر، ومعها عضلات الجسد فنتحرّك ونرقص على إيقاعات الأولين بينما تغذّي الألحان مُخيّلَتَنا التي أعطشها الحنين. فلا يروي الحنين إلا كبسولات الزمن من الأغاني، ثلاث كبسولات يومياً عند الحاجة، واسألوا المغتربين. لا يستغرب أحد منّا أن يُغَنّي صباح فخري لمدة عشرة ساعات متواصلة على المسرح ويدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية أمام جمهور المغتربين في كاراكاس، أبناء الشام وأحفادهم الذين هاجروا على دفعات في أوائل القرن الماضي، فما الذي يدفع مغنياً أن يَصرف من طاقته فوق المنتظر إلا سلطنته وانسجامه مع جمهورٍ محمومٍ بالحنين؟ تصوّروا فقط كمية الحنين الهائلة التي احتاجت لعشر ساعات من الطرب لترويها.
ألا يساعد هذا أيضاً على تفسير سبب استمرارية صباح فخري كفنان ذو صلة بجمهور العالم العربي اليوم من الكبار والصغار؟ فالكلّ يعرف صباح فخري ويطرب له. حتى معظم أصدقائي من محبّي الهيبهوب والموسيقى البديلة لا بدّ إلا أن يطربوا له، قد لا يستمعون إليه يومياً، إلا أن أغلبهم يطرب ويستزيد عندما يسمع. فقد استطاع صباح فخري أن يتمثّل حالة شعورية خاصة وعامّة في نفس الوقت، حالة الحنين التي يمكن لأيّ كان أن يَطرُقَ بابها ويزورها ولو للحظات، فلا ننسى أن «الطرب» و«السلطنة» هي حالات شعورية أكثر منها مصطلحات موسيقية. كما استطاع صباح فخري أن يُبقي عدداً هائلاً من الأغاني القديمة على قيد الحياة، ونجح في أن يكون جسراً بين مدرسة الغناء القديم التي ازدهرت في القرن التاسع عشر وبين مدرسة الطرب الكلاسيكي الجديد، التي أسس لها أساتذته في النّصف الأول من القرن الماضي، ليصلَ بين الأجيال بزخم مشروعه واستمراريته.
ولنا أخيراً أن نتفكّرَ في مسيرته حين بزغت مواهبه باكراً ليلقَّب بالطفل الأسطورة في حلب، ويستحوذ على اهتمام كبار الموسيقيين الحلبيين الذين تبنّوه وساهموا في توجيهه... فيعدل صباح فخري عن الذهاب إلى مصر ليبقى «أصيلاً» قريباً من منبع أجداده المحلّي، وليشكل بقاؤه في حلب برأيي نقطة فارقة في تاريخ الموسيقى السورية. لنا أن نتخيّل كوناً موازياً يُهمل فيه صباح فخري نصائح محيطه ويتجه إلى مصر كما كانت عادة بعض فنّاني الشام في تلك المرحلة ليشتغل مع مجددي الموسيقى العربية مثل محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي، ولنا أن نتخيل كم كان مشروعه الغنائي ليتغير بتغيّر ظروف وقرارات حياته، فربما كنّا سمعناه يُغنّي ألحانا جديدة بنكهة مصرية وربّما كنّا شاهدناه يشارك كممثل خجول في العديد من الأفلام المصرية ذائعة الصيت. صراحة، من حسن حظّنا أنْ بقي صباح فخري في حلب.
7
توفي صباح فخري الخريف الماضي بعد عقود من النشاط الفني المتقّد. هكذا تنتهي حياة الأعلام كما غيرهم، مثلما بدأت، من عدم إلى عدم، ولا يبقى إلا العمل والأثر. في عالم الأغاني تبقى الأغنية بعد موت صاحبها، لتتناقلها أصوات غيره من المغنين كما فعل هو ذات يوم في طقسٍ أبدي. مع علمي بهذا كلّه، باغتني خبر وفاته في خضم متطلبات حياة الاغتراب اليومية. على قدرِ ما كانَ الخبرُ متوقعاً على قدر ما كان مباغتاً، فقد كانت أنباء موت المرحوم تظهر كل شهر أو شهرين ليتم تناقلها ثم تكذيبها سريعاً على السوشال ميديا، وكأنّ حقيقة موته المحتوم كانت واضحة ومسلّماً بها كحقّ كل إنسان بالموت، خاصة بعد توّقفه عن الغناء لسنوات طويلة مع تقدّمه في السّنّ. ولكنّه كان خبراً ثقيلاً أيضاً لأن وقعَه كان وقع حدثٍ جَلَل، موت آخر أبناء جيل كامل، جيل أجدادنا14 كأجراس تدقُّ وتعلن نهاية حقبة، أو تكبيرات مآذن تنذر باقتراب موعد جيل آبائنا، ليصيبني حزن فقدانه بمقتل كما لو أنني أسمع صوته المخملي يؤذّن من مكبّر مسجد قريب يُنذرني باقتراب موت أمي… ولكي أتعامل مع تلك المشاعر التي اجتاحتني دون استئذان توجّهت نحو العمل والكتابة عن الوادي الكبير، الذي كان قبلها مشروعاً منسياً في دفاتري أنفضُ عنه الغبار الآن، فبموت صباح فخري انقطع تواصلنا مع جلّ من اشتغل على ذلك العمل… فكما خسرنا بليغ حمدي ووردة الجزائرية، نخسر صباح فخري، ورويداً رويداً ينقطع الحبل الذي يصلنا بنبع الأغاني المقدّس، ذلك النبع الذي غذّى أرواحنا عبر التاريخ برواته، المغنيين والموسيقيين منذ معبد وزرياب إلى صباح فخري الذي يشكّل امتداداً لهم.
انتابني يوم وفاته إحساس مألوفٌ بالفقدان، ولكنه فقدان من نوع خاص. فمثل الكثير من محبّي فنّه في عالمنا لم أعرفه شخصياً ولم يكنْ لي الحظّ في أنْ أحضرَ حفلاته التي لاحقتها هالة أسطورية من الطرب والسلطنة. معرفتي بكينونته كانت ولاتزال معرفة مجرّدة عبر صوته وتسجيلاته، أي معرفة غير فيزيائية، الأمر الذي يخفّف عادة من ألم الفقدان، فاليوم كما البارحة، لا يزال صباح فخري حاضراً في حياتي بكل تجلّياته، يصدحُ صوته في شقق وردهات الغربة، نردّدُ أغانيه على ألسنتنا كما فعلنا دائماً، نجلو بها صدأ قلوبنا ونسلّي عفاريت الاشتياق. ندرّب عضلات الموسيقى أو نداوي حرقة البعد والفقدان. مازال صباح فخري كما عهدته دائماً في قارب على نهر الوادي الكبير بشاربه الخجول ممسكاً عوده ينشد «لولا الحنين لأرض حمصٍ ما جرى دمعي ولا شمِتَتْ بي الأعداء» بينما تنتظره الأميرة هزار على نافذة القلعة بشوقها وحنينِ صوتها الدافئ، تحفظهم لنا كبسولة الزمن من الغياب.