كانت القاعة المخصصة لهذا النقاش ضيقة نسبياً مما حمل بعض المشاركين على تبادل الأماكن بحيث يحل من يعود من منصة الكلام مكان زميله أو زميلته الذين أتى دورهم بالتدخل. وعادة ما يأخذ من يغادر مكانه كل أوراقه وأغراضه الشخصية معه. وفي مبادلة سريعة بين مشاركين عربيين من بلد واحد، نسي من غادر المكان جزءاً من أوراقه التي من المفترض أنه كان يدون عليها بعض النقاط المهمة التي يستفيد منها أثناء الحديث أو بعض الأسئلة التي يود أن يعقب من خلالها على الحديث. وبينما كنت أراقب عملية التبديل هذه، وجدت أن من عاد من المنصة، وأخذ مكان زميل له ذهب بدوره إلى المنصة، قد فتح فاه مندهشا مما قرأه في الأوراق التي تركها صاحبها. وبدا عليه الغضب الشديد وكاد أن يقاطع الحضور محتجاً. حينها أسرعت للسيطرة عليه محاولاً فهم ما حصل وساعياً إلى تجنب "نشر الغسيل العربي" في مرابع الفرنجة.
لم يقبل زميلي أن يهدأ مشيراً إلى أن ما وقع عليه في الأوراق هو تقرير مفصل بما هرف به على المنصة مع ملاحظات في الهوامش تحمل طابعاً أمنياً بامتياز
خرجت بالزميل من القاعة وهو يحمل جزءاً من هذه الأوراق وجلسنا في حديقة المبنى وهو مستمر في إطلاق تعبيرات سلبية بخصوص ابن بلده صاحب الأوراق المتروكة إهمالاً. وبما أننا في لقاء يجمع مبدئيا متخصصين سياسيين واجتماعيين وتاريخيين بالمنطقة العربية ومن مستوى معين علمي، فقد توقعت بسذاجة أنه وقع على عبارات لا تليق أخلاقياً في هذه الأوراق المتفجرة وطلبت منه الهدوء والتروي مشيراً إلى أن اختلاف مستوى الوعي يمكن أن يؤدي بالبعض إلى عدم أخذ الحذر في استعمال غير اللائق من الكلام. لم يقبل زميلي أن يهدأ مشيراً إلى أن ما وقع عليه في الأوراق هو تقرير مفصل بما هرف به على المنصة مع ملاحظات في الهوامش تحمل طابعاً أمنياً بامتياز.
عدنا إلى الأوراق التي خطها زميل باحث له سمعته العلمية وشهرته الأكاديمية، فوجدت فعلاً بأنها مصاغة بطريقة أمنية صرفة فهو يكتب مثلا: "يُحرّض المدعو ... على قلب نظام الحكم معتبرا بأنه استبدادي وفاسد". كما ترد عبارة أكثر وضوحاً حين يكتب: "يجب أن يُحقق معه فور عودته إلى البلاد..". وهكذا دواليك. فأعادتني هذه الصدمة إلى التقارير التي كان يكتبها السوريون بعضهم ببعض بدءاً من وعيهم الأول وصولاً إلى مثواهم الأخير بتشجيع من آلة أمنوقراطية لا تجد الأمان والاستقرار إلا من خلال نشر الشك والخوف والتشهير والنميمة في أوساط المجتمع على مختلف مستوياتها. لكننا الآن أمام أستاذ جامعي مرموق ومن المؤكد بأنه ليس مخبراً تافهاً تزدحم بهم أنفاس المواطنين العرب في حلّهم وفي ترحالهم.
انتقلت بعد هذا الاكتشاف الصادم من مرحلة البحث عن سبل لتهدئة الزميل إلى مرحلة السعي إلى التهدئة الذاتية، لأنني أصبت بالذهول للمستوى الذي أوصلت إليه سلطات الاستبداد البعض من نخبها العلمية والثقافية. واستغرقت في قراءة الأوراق لأتأكد من أننا أمام حالة أكاديمي ذي مستوى علمي رفيع يعمل أو ينشط أو يتبرع لأن يكون مخبراً لدى سلطات بلده المستبدة. ومن المؤكد بأنه ليس بمخبر مكلف بهذه المهمة. ومن المؤكد بأنه رفيع المستوى علمياً، فيصير من المؤكد بأنه "يتبرع" بخدماته الدنيئة هذه للحصول على مكاسب دونية ما. أو أنه يسعى لأن يكون وفياً لمبادئ أيديولوجية يعتقد بأنه، ومن خلال خدمة السلطان، يُحافظ عليها من "أخطار خارجية".
سياسة الإخضاع والترويض والاستقطاب والترغيب التي تتبعها السلطات المستبدة قد أدت إلى إفساد بنيوي لمجموعة لا بأس بحجمها من أكاديمي ومثقفي البلد
هذا الأكاديمي يجد له مثلاء في الأوساط الثقافية والإبداعية أيضاً. ولا يمكن الاتفاق للأسف مع ما يقوله البعض بأن المبدع الحقيقي أو المثقف الفعلي لا يمكن له أن يخطو باتجاه مثل هذه الأفعال القذرة والتي يمكن أن تودي بحيوات زملاء أو أصدقاء حتى. فالاعتقاد الذي تؤكده متابعة الشؤون العربية خصوصاً، كما كان ذلك يُتابع في بلاد المعسكر الاشتراكي المندثر سابقاً، بأن سياسة الإخضاع والترويض والاستقطاب والترغيب التي تتبعها السلطات المستبدة قد أدت إلى إفساد بنيوي لمجموعة لا بأس بحجمها من أكاديمي ومثقفي البلد المعني، والذين أصبحوا كتبة تقارير للحصول على فتات عفن من مائدة المستبد.
أمام هذا الوضع القائم حتى يومنا هذا وفي أوساط مختلفة، يميل الإنسان إلى تفضيل المخبر المثقف أو المطلع نسبياً على موضوعه والذي يقوم بـ "واجبه" ومقابل أجر. فالمُخبر المثقف أقل مضاضة من المثقف المُخبر.
-------
تلفزيون سوريا