وتلبية ندهة الكتابة في سنوية لقمان، تحتمل إعادة قراءة "القتل المستهدف كأداة سياسية في يد رُعاته"، على ما وصفه بيان "أمم".
تبيّن الأدبيات البحثية في الاغتيال السياسي أنه كان محدوداً خلال العقدين الأوّلين بعد الحرب العالمية الثانية، لكن عددها بدأ يتصاعد بشكل لافت منذ بداية السبعينات، والسبعينات عقد مفصلي معروف الرمزية البطّاشة بالسياق اللبناني. غالبية الاغتيالات لمسؤولين ورسميين أجرتها مجموعات عنفية مرتبطة بالدولة أو متمردة عليها بالفوضى المزودة بوقود صراعات مفتوحة الآجال. فيما غالبية الاغتيالات لقادة المعارضة، بحسب المراجع، نفذتها النخب السياسية الحاكمة أو وكلاؤها. والمفارقة والتناقض اللبناني ههنا، يبرز بكون الإرهاب هذا، صِلة وَصل وعنصراً مُشتَرَكاً بين ما يسمى بالدولة، وبين الجماعات المنقضّة عليها والمناقضة لها، حيث يبلغ التشارُك حد التداخُل والتطابق والتماهي.
منافسة سياسية، بالشكل السلميّ والشرعي، مقيّدة. استقطاب وتشظٍّ شديدا الحِدّة، والمكوّنات الأكثر استنارة ورُشداً، محدودة التأثير في العملية السياسية، والكلام عن فاعلين سياسيين بالمعنى الذي ينصف كلمة سياسة، ومثقفين، منتجي أفكار وصنّاع رأي، بحّاثة ومتقصّين ومسلّطي الضوء بالمعلومات والشواهد والتوثيق على الخصائص الجُرميَّة للسلطة القديمة-الجديدة والقابضين الحقيقيين عليها، من قبل تفجير مرفأ بيروت ومن بَعد... هكذا تنحسر آليات البقاء والاستمرار الطبيعيَين، وتصدح التفجيرات والمسدسات التي لا كواتم صوت لدويّ دمائها.
من نافل الكلام أنه حينما تفقد الدولة سيطرتها أو سيادتها على جزء من البلاد، لصالح مجموعات ذات أجندات فوق وطنية وفوق سياسية، فإن الجهتين تصبحان أكثر ميلاً لاستخدام الاغتيال السياسي من أجل تفعيل نفوذ كل منهما ونيل الاعتراف أو الهيبة والرهاب المُتنافَس عليهما جماهيرياً، وبالتالي مقاليد السلطة. كل منهما يريد أن يصبح الحاكم الفعلي والوحيد للكيان السياسي المُتنازَع عليه. فكيف الحال إذا ارتبطت الجهتان بوشائج النظام الطائفي الزبائني والفساد ونسف المؤسسات القضائية والدستورية، لتصبحا "حالة" واحدة حاكمة متحكمة؟ لهذه المعضلة الأحجية إسم: لبنان. واليوم أكثر من أي وقت مضى.
ليس اللبنانيون في حاجة إلى دراسات وبحوث ليوقنوا "تمتّعهم" بنزر يسير، إن لم يكن معدوماً، من الديموقراطية في نواحي حياتهم كافة، ما أدى بمفعول الدومينو أيضاً إلى تفجير البُنى الاقتصادية والمالية والاجتماعية. لكن ملاحظة، قد تبدو بديهية لكنها شديدة التعقيد في النص اللبناني المستعصي، تأخذ "القراءة" إلى سويّة أخرى، سوريالية ربما. فبقليل من التمحيص في الدراسات التي تناولت ظواهر الاغتيالات السياسية في العالم، يُستخلَص أن البلدان الأقل تمتعاً بالديموقراطية، حيث القيادة السياسية أو الحكومة أو النظام الحاكم، تستأثر بالسلطات بلا منازع ولا ناقِد مؤثّر، فإن الزُّمَر المتنفذة لا تملك الديناميات اللازمة لإفراز قيادات جديدة أو مغايرة بعد اغتيال أحد عناصرها، وهذا يعني أن منفذي الاغتيالات يحققون نجاحاً في الدفع باتجاه تغيير سياسي عبر الاغتيالات. والصعوبة نفسها تنسحب على تُربة المعارضة حين تُقتلع إحدى أشجارها بالاغتيال على أيدي مُستشعِري تهديد ما من صوب مُعارضيهم.
في لبنان، الاغتيال يصيب الفئة المُشاركة في الحُكم أو المنضوية فيه، بالبلاء نفسه الذي يرميه على معارضيها جماعاتٍ وأفراداً. وبالتالي، فإن أرباب الاغتيال، رغم تربّعهم في قلب النفوذ والتحكّم، يستأصلون أحياناً الأطراف التي يرونها مُنسلّة من النسيج الحاكم (رؤساء جمهورية، رؤساء حكومات، قادة طوائف، مرجعيات دينية، قضاة، مسؤولين أمنيين..)، وأحياناً أخرى يجتثّون من يصنفونه خطراً في المعارضة (كتّاباً، مثقفين، صحافيين، حقوقيين،..).
يزداد استهداف قادة المعارضة في الديموقراطيات الضعيفة أو الأنظمة الاستبدادية. قد تبدو المقولة هذه تذكيراً بما لا حاجة للتذكير به. لكن الـ"كيف" هنا ليس بهذه البساطة، إذ يشتمل على الشيء وعكسه. فالبيئة السياسية المريضة والمؤذية تنتج المناخ المؤاتي لنمو معارضتها بطبيعة الحال، بل ومعارضة ناجحة كونها مُحقة. لكن البيئة نفسها، وفي الوقت نفسه، ترفد القوى المهيمنة بالأدوات و"الشرعية" اللازمة لقمع المعارضة الناجحة. والنتيجة غالباً لصالح الظالم: اضطرابات عميمة، عنف محلي، وتقويض استقرار. دائرة مُفرغة لا سبيل إلى كسرها إلا برفع السجادة التي تُراكَم تحتها المَظالم، مرة واحدة وكاملة ونهائية، وإلا فلا نفع يُرتجى من انتخابات ولا إصلاحات، وسيبقى العنف، خصوصاً الاغتيال، أكثر الآليات "شعبية" في "حلّ" النزاعات ودرء الأخطار بحسب أجندات الأكثر بأساً في إمساكه بمقاليد السياسة والاجتماع والاقتصاد.
لقد وثّقت "أمم" 220 جريمة قتل ومحاولة قتل ذات دوافع سياسية منذ استقلال البلاد في العام 1943. كم منها بلغ خواتيمه بالعدل؟ لا عقل يتوقع مثل هذه الخواتيم طالما أن الاغتيال ناجح، منذئذ، كأداة سياسية فعّالة، وحتى اللحظة الراهنة... اللحظة التي نشدّها إلى حيازتنا الآن، بالحقّ المجرّد من كل شيء إلا قيمته، ولو فقط بالكتابة.
--------
المدن
عيون المقالات
حلقة برباغندا إيران انتهت مدة صلاحيتها
26/11/2024
- د. منى فياض
الفرصة التي صنعناها في بروكسل
26/11/2024
- موفق نيربية
(هواجس إيران في سوريا: زحمة موفدين…)
24/11/2024
- محمد قواص
مستقبل لبنان بعهدة شيعته!
23/11/2024
- فارس خشان
هل تخشى إيران من الأسد أم عليه؟
23/11/2024
- ضياء عودة
المهمة الفاشلة لهوكستين
23/11/2024
- حازم الأمين
نظام الأسد وحرب النأي بالنفس عن الحرب
21/11/2024
- بكر صدقي
الأسد الحائر أمام الخيارات المُرّة
17/11/2024
- مالك داغستاني
العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب
17/11/2024
- العميد الركن مصطفى الشيخ
إنّه سلام ما بعده سلام!
17/11/2024
- سمير التقي
تعيينات ترامب تزلزل إيران ورسالة خامنئي للأسد تتعلق بالحرب التي لم تأتِ بعد
17/11/2024
- عقيل حسين
هذا التوجس التركي من اجتياح إسرائيلي لدمشق
16/11/2024
- عبد الجبار عكيدي
السوريات في الحياة الأوروبية والتجارب السياسية
15/11/2024
- ملك توما
هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟
13/11/2024
- أمين قمورية
بشـار الأسـد بين علي عبدالله صـالـح وحسـن نصر الله
13/11/2024
- فراس علاوي
“وقف الحروب” اختبارٌ لترامب “المختلف”
13/11/2024
- عبد الوهاب بدرخان
( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )
13/11/2024
- عبد الباسط سيدا*
قنبلة “بهتشلي”.. ماذا يحدث مع الأكراد في تركيا؟
13/11/2024
- كمال أوزتورك
طرابلس "المضطهدة" بين زمنين
13/11/2024
- د.محيي الدين اللاذقاني
حين تمتحن سورية تلك النبوءات كلّّها
12/11/2024
- ايمن الشوفي
|
الكتابة على ضفاف لقمان سليم
|
|
|