نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


الفحش المصرفي




"المصرف هو المكان الذي يُقرضك الأموال، إذا استطعت أن تثبت أنك لا تحتاجها"
الممثل الكوميدي الأميركي بوب هوب


صعد الرئيس الأميركي باراك أوباما "عاقد الحاجبين" على منصة أحد المؤتمرات الصحافية، وقال موجها كلامه إلى رؤساء المصارف: "أريد أن تعيدوا لنا أموالنا". ولكن كيف؟.. يتابع أوباما: "يجب على المصارف أن تدفع ضرائب جديدة، من أجل استعادة الأموال العامة (الحكومية) التي أُنفقت عليها لإنقاذها". كان غضبه من هؤلاء، في قمة فورانه، ومن الواضح أنه بحث عن تعبيرات، تفي غضبه بلاغة، لكنه لم يجد تعبيرا يلاءم حجم المكافآت "المشينة" التي منحها رؤساء المصارف لأنفسهم سوى "الفحش" obscene.

وهذه الكلمة يمكن أن تُترجَم أيضا ( حسب سياق وخصوصيات التعبير) إلى "فاسق أو فاجر أو قذر أو داعر"!. وطرح الرئيس الأميركي مسألة منطقية، وفق المعادلة التالية: إذا كانت المصارف والمؤسسات المالية في وضعية تسمح لرؤسائها بمكافأة أنفسهم، بكميات هائلة من الأموال، فهي بالتأكيد قادرة على إعادة كل سنت من أموال دافعي الضرائب التي أنقذتها من براكين الأزمة الاقتصادية العالمية. فكل "مكافأة" يمنحُها رئيس مصرف لنفسه ولمساعديه، "تُنتج" غضبا رئاسيا أميركيا، يفوق "المكافأة" حجما.

يبدو أن إصلاح النظام المالي المحلي والعالمي، بصورة تكفل درء الأزمات وضخ الأخلاق، وإيداع الضمير فيه، أشبه بإصلاح مجرم المافيا الأميركي (الراحل) آل كابون، أو ملك المخدرات الكولومبي(المقتول) بابلو أسكوبار، وأشبه أيضا بتحويل "الإمبراطور" الأفريقي (الراحل) بوكاسا من آكلٍ للحوم البشر، إلى نباتي يعيش على الخس والطماطم والخيار!. فعلى الرغم من كل الإجراءات التي اتُخذت – وتتخذ- بقيت المخاوف من سلوكيات المصارف والمؤسسات المالية، حاضرة لدى مالكي صناعة القرار والمُشرعين، وبقيت معها مشاعر الشك والريبة تستحوذ على هؤلاء. فهم يعرفون، أن أبطال الجريمة الكبرى ( الأزمة الاقتصادية) الذين استمروا على الساحة، لن يستطيعوا إزالة آثارها، ليس فقط من حجم قوتها، بل من فرط الأدلة الهائلة الدامغة حولها، ومن فقدان الأخلاق في مسرحها. ولذلك، فالأمر يتطلب أكثر من ضريبة جديدة تفرض على المصارف وما يشبهها من مؤسسات، وأكثر من غضب رئيس دولة هنا وآخر هناك، وأكثر من إجراءات مرحلية، وأكثر من ضوابط موسمية. فحتى الضريبة التي اقترحها أوباما وسيعمل على فرضها، وُضع لها مساحة زمنية – إذا ما فُرضت – لا تزيد عن عشر سنوات!.

والحقيقة أن الرد الأقوى والأمثل والأنجع، على سلوكيات المصارف ورؤسائها، جاء عمليا من تحرك الاتحاد الأوروبي، عبر حث صندوق النقد الدولي، على السعي لفرض ضريبة عالمية على المعاملات المالية – إلى جانب طبعا ضريبة الدخل - للحد من مخاطر حدوث أزمة اقتصادية جديدة، ولوضع الحراك المصرفي العالمي، ضمن نطاق حجمه الحقيقي.. لا الوهمي. ويرى رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروزو، "أنه من المنطقي أن يقدم من تسببوا في الأزمة لاقتصاداتنا ولدافعي الضرائب، مساهمة عملية للاقتصاد بوجه عام". وهذا يعني أن الساعين إلى فرض ضرائب جديدة على المعاملات المالية، يرغبون في استخدام عوائدها في تمويل عمليات إنقاذ محتملة في المستقبل، خصوصا وأن الاقتصاد العالمي سيظل لمدة – أجد صعوبة في إيجاد من يمكنه تحديدها – طويلة، تحسب بالسنوات لا بالأشهر. لا بأس في هذا التوجه. فالأوربيون متحمسون إلى سَن مزيد من القوانين الضابطة للحراك المصرفي العالمي، لكنهم – وهنا الغرابة - اصطدموا بموقف أميركي رافض، لأن واشنطن لا تعتقد بأن مثل هذه الضريبة، سوف تؤدي إلى الحد من الممارسات المصرفية التي تحفها المخاطر من كل حدب وصوب!.

وتكمن الغرابة هنا، في أن موقف إدارة الرئيس أوباما، حيال الإصلاحات المالية العالمية، يتسم بالكثير من المرونة والإقدام، بل والإصرار على إنجاز المهمة بأسرع وقت ممكن، من خلال التعاون الثنائي بين الدول، وأيضا عن طريق المجموعات الدولية، لاسيما "مجموعة العشرين" التي استلمت زمام المبادرة وصنع القرار على الساحة الدولية، في أعقاب اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية. ولمزيد من الغرابة، فقد أنشأت الإدارة الأميركية "هيئة تحقيق لمكافحة الجريمة المالية"، وصفها وزير العدل إريك هولدر بأنها "ستتم بالحزم والصرامة، وذلك بهدف تجنب أزمة مالية (اقتصادية) أخرى". وفي الإطار نفسه، يقول بين برنانكي رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ( البنك المركزي) : "نعمل بالتعاون مع زملائنا في الداخل والخارج، لتعزيز معايير رؤوس أموال المصارف والسيولة وإدارة المخاطر، والحوافز التشجيعية وحماية المستهلك ضمن ميادين أخرى". فالذي يتخذ هذه المواقف، ويُقدِم على تلك الخطوات، ينبغي أن يكون مؤيدا للجهود الأوروبية بفرض ضرائب على المعاملات المالية، ليس فقط لجني الأموال، بل للمساهمة أيضا في معرفة دقيقة وواقعية، لطبيعة هذه المعاملات التي كانت السبب الأول في انفجار الأزمة.
وإذا كانت خطة الإصلاح المالي الأميركي، التي طرحتها الإدارة الأميركية هي الأضخم على الإطلاق منذ ثلاثينات القرن العشرين، تتضمن توصية بادخار مبالغ مالية لاستخدامها في الأزمات وتحمل الخسائر، يبدو طبيعيا أن تقف واشنطن إلى جانب فرض الضرائب على المعاملات المصرفية. هي تخشى من أن يتأثر النشاط المالي من العبء الذي سيتأتى من الضرائب، لكنها -أي واشنطن – تعرف أكثر من غيرها، أن هذه الطريقة هي الأنجع – مع طرق أخرى إلى جانبها- لتأمين نشاط مالي خال من "مسببات" أزمة، وخال من العمليات الوهمية وتلك المُبالغ فيها، وخال أيضا.. وأيضا من "صفقات الفقاعات"، ومن النشاطات الاحتيالية. فعندما تكون أنت مدينا للمصرف بمئة دولار أميركي، فهذه مشكلتك. ولكن عندما تكون مدينا له بمئة مليون دولار، فإنها مشكلة المصرف. وقد أثبت التاريخ، أن أحدا لا يستطيع أن يلغي أو يقلل من رغبة المصرفيين – في كل مكان – بالإقراض، لأنه مجبول في تركيبتهم المهنية - العملية. صحيح أن القوانين التي وضعت، وتلك التي ستوضع في ماكينة النظام المالي، تفرض رقابة على عمليات الإقراض، لكن هذا النوع من العمليات، يشكل "بحرا هائجا"، من السلوكيات الالتفافية، تحول القوانين الصارمة، إلى "قوانين مجاملة"!. وعندما تفرض الضرائب على المعاملات المالية، تكون المتابعة أشد وأكثر إحكاما، مع التأكيد بأنها لن تشكل لوحدها، الرادع الأقوى.

هناك الكثير من الخطوات التي يجب أن تُتخذ لإحكام القبضة "الاقتصادية والأخلاقية"، على الساحة المالية العالمية. وقد كان حاكم بنك انجلترا المركزي ميرفين كينج ( وهو أحد المسؤولين المباشرين عن الأزمة المالية العالمية)، شجاعا عندما طالب بتجزئة المصارف الكبيرة. فهو يعرف أن كل مصرف منها يمكن أن يتحول إلى مارد، يستحيل معه حمايته من نفسه، ووقوعه بالفشل. ويتفق ما يُعرف بـ " مصرف التسويات الدولية"، الذي يتخذ من مدينة بازل في سويسرا مقرا له، مع كينج، ويرى ضرورة حتمية للإصلاح واتخاذ الإجراءات التي تكفل ضوابط أكثر صلابة، في قطاع له القدرة على كسر كل القيود، وعلى تصنيع "الفقاعات"، وعلى تجاوز كل المعايير، بما في ذلك الأخلاقية منها.
يقول المذيع الأميركي الشهير جوني كارسون ساخرا :" في أي وقت يدخل أربعة "نيويوركيين" (يقصد سكان نيويورك)، إلى سيارة تكسي معا، من دون أن يتجادلوا، يعني هذا أن عملية سطو على مصرف تجري في ذلك الوقت". وهو هنا لا يقصد فقط اللصوص والسارقين التقليديين، بل قصد أيضا العمليات السوداء التي تجري داخل المصارف.
إن العالم بعد الأزمة الاقتصادية، لا يحتاج إلى تسويق للمصارف ومنتجاتها وخدماتها، بقدر احتياجه إلى "عقلنتها" أولا، وتنظيفها من رواسب تجمعت على مدى أكثر من عقدين من الزمن. والخوف من تأثر الحراك المصرفي بضرائب على معاملاته، لا مكان له في ظل أزمة، ولدت أصلا من معاملات، يبدو اللون الأسود أمامها، أبيضا!.
------------------

m@karkouti.net




محمد كركوتــي
الخميس 21 يناير 2010