يقف فيلسوف العقل جون سيريل مبهوتاً أمام وجود الفجوةGap بين ما هو مادي وما هو وجداني ، فيضطر لرفض القول بأن الشعور "ليس أكثر من ظاهرة مصاحبة للمادة" ليظل الباب مفتوحا ً لمزيد من البحث والاستقصاء ، ليس أمام علماء البيولوجي والفسيولوجي والنيورولوجي فحسب، بل ولفلاسفة الجمال وأيضا ً للقديسين والمتصوفة .
يقول العالم الفيزيائي بولكنجهورن إننا شخصيات " مستديمة " تملك نفوساً روحية تؤدي أدوار التواصل بيننا وبين الآخرين ، ومحال أن نكون مجرد وسائل ملائمة لإطلاق الأحاديث، كأننا حواسيب متطورة بُرمجت لتجيب على الأسئلة، ولهذا فكنجهورن يلقي بالقفاز متحديا ً : فمن إذن المتحدث ؟!
نحن لسنا أبواقاً ، بل كائنات بشرية حرة في أن تتحدث أو تصمت . ولكنني أمضي لما هو أبعد من كنجهورن لأسأل من يكون المتحدث "الحقيقي" ؟ إننا نرى على شاشة التليفزيون شخصاً يحدثنا. ونحن نسلّم بأنه تحدث إلينا فعلا ً، وفي الواقع لقد تحدثتْ إلينا صورتــُه ، أما هو بذاته فموجود خارج الشاشة . هكذا أنا حين أحدثك .. صورة تكلم صورة . وليس في الأمر أي خداع ، بل حقيقة وان كانت نسبية ، فأنا صورة حقيقية لأصلٍ خارج المشهد الفعلي ، ولو كنت أنا أصلا لذاتي لكنت خالقا ً لنفسي ، وهذا باطل واضح .
بهذا الإدراك ، ومستعيرا ً ابن عربي أقول : إن المتحدث على الأصالة هو الخالق ، ونحن - صورَ وجوده - نتحدث بحرية هي منحة خالق كلي القدرة ، ولأن هذا الخالق حر حرية مطلقة فيغدو منطقيا ً أن تكون لمخلوقاته (= صُوَرِه ) نفس الحرية وإن كانت "نسبية" لحلولها في أبدان محكومة بقانون السببية .
فماذا عن الجانب المقابل من الفجوة ؟ ماذا عن الوعي ؟ السر الذي تتعطل السببية إزاءه ، فهو مناط الحرية، والسبيل إلى المعرفة الحقة . أين مكانه ؟ إنه بلا مكان وبلا زمان ، فالكون ذو طبيعة مزدوجة : الأولي مكانية زمانية ، أما الثانية فعالم الأزل المتعالي على الفناء . ولأن الطبيعتين مرتبطتان نرى البدن يتوق الي الخلود مثل صاحبه الوعي، وله الحق في ذلك بحكم الغيرة والجوار وعليه يطمح الناس للبقاء بأجسامهم بعد الموت. فهل ثمة إمكانية لتحقيق المراد ؟
تضع المادية الجدلية المادة َ في مرتبة المعطى الأول في العلاقة بين الملموس والمتصور . والأصح (دياليكتيكيا) تجاهلُ ما يسمى بالمعطى الأول بحيث تكون الأشياء هي ظاهرها Phenomena دون إدخال عنصر الترتيب في مكوناتها، عندئذ لا ُترى الروح كياناً غريباً على المادة أو العكس ، بل ُترى المادة كنسيج للوعي. خذ مثلا ً الكوارك أصغر الجسيمات المكتشفة وسل ماذا في داخله ؟ طاقة ؟ وما الطاقة ؟ إنها ليست مادة ملموسة ولا هي بجوهر Essence فالجوهر لا يتغير ولا يقبل الانقسام، ولا شئ عند الفيزياء النووية لا يقبل الانقسام . لنقل إن الطاقة – كما نحسها - فعاليةٌ Agency وهي بما هي كذلك مصاحبةٌ للمادة من دون أن تكون مادية ، فهي كفعل دائم تمثل روح الأكوان التي لا تفنى ولا تستحدث من عدم . فإذا انتبهنا إلى أن العدم لا وجود له لعلمنا أن موت البدن إنما هو مرحلة من مراحل تحولات المادة ، لا يستبعد منها مرحلة مهمتها إعادة التشكيل .
أيضا ً حين تبشر المسيحية بالقيامة في شخص يسوع الذي عاد من الموت بعد أيام ثلاثة بشهادة والدته – حسب إنجيل يوحنا – فإنها بذلك تكشف عن ديانة ترسخ فكرة البعث ، معتبرة ً أن من يجترح هذه الفكرة لن يكون سوى شخص دنيوي مغرور ضيق الأفق .
أما الإسلام فيشير صراحةً إلى قيامة كل فرد بذاته في الصورة التي تناسبه والتي يستحقها بما قدمت يداه في المرحلة الدنيا. وتلك رؤية تتسق مع متطلبات الوعي الحامل مستقبله في داخله مثلما تُحمل الفراشةُ في بطن دودة القز .
وبهذه الرؤية الأوسع تكتمل الدائرتان الوجودية والمعرفية . وعندئذ – وليس قبل ذلك - يمكن للخطاب الديني أن يجدد نفسه ، لكي يتعامل بجدية مع قضايا الواقع المحدد ، والتي هي شكل من أشكال الحياة الكونية غير المحدودة .