الأخيرة التي كانت تمتلك فرصة مهمة خلال السنوات القليلة الماضية لبحث إيجاد آلية تواصل مع هذه الشريحة التي استطاعت في فترة التجاهل بتنظيم نفسها بشكل جيد، إمّا في تكتلات سياسية عبر انخراطها في أحزابٍ سياسية، أو حتّى في منظمات المجتمع المدني العاملة في المجال الإنساني أو/ والنقابات الطلابية التي تفرّع عنها مجموعات طلابية/ شبابية منظمة، مما يشير إلى انعدام الرغبة على الأقل من الطرف الذي يحظى ويحتكر الشرعية في مشاركتها مع هذه الفئة.
يعود ذلك، إلى نقطة جوهرية ومركزية في آليات التفكير السائدة والمسيطرة على ذهنيات هياكل المعارضة، "أبوية السلطة" ومفهوم الأبوية Paternalism)) يعود من الأساس إلى البيت بوصفه مركزاً للسلطة " الهيراركية" الذي حاول "ابن خلدون" معالجته في مقدمته الشهيرة ضمن مفهوم "العشيرة"، فيما يعتبرها كتلة تحمل صفة الترابط العضوي وصلة القرابة في المجتمعات البدوية بوصفها القوّة القادرة على الوصول للحكم.
المعارضة التقليدية استطاعت بالفعل تشكيل هذا النوع من التلاحم لاحتكار التمثيل السياسي بغرض الحفاظ على مصالح أفرداها
قد لا ينطبق مفهوم الترابط العصبي بتعريفه "الإثني" أي المشتركات الثقافية على حالة ديناميات المعارضة السياسية، لكنه بالضبط هو تعبيرٌ من الجائز إطلاقه على المجموعات السياسية المترابطة بنيوياً بالاعتماد على "تقاطع المصالح" أي "الترابط المصلحي" وتشكيلها هذا النوع من العصبة، مما يعني أن المعارضة التقليدية استطاعت بالفعل تشكيل هذا النوع من التلاحم لاحتكار التمثيل السياسي بغرض الحفاظ على مصالح أفرداها، أي جماعة المعارضة والتي تُدار مما يسمّى مجموعة الـ J4 حيث تملك الهيمنة بناءً على تراتبية القوّة والنفوذ.
لذلك، شهدت مؤسسات المعارضة على مدار السنوات عمليات التدوير ضمن دائرة ضيقة للمناصب كان آخرها "الأكثر فجاجة" ترؤس "بدر جاموس" هيئة التفاوض السورية "المعطّلة" وذلك في حزيران/ يونيو، 2022 الذي وصفته تلك الشخصيات بمشهدٍ "ديمقراطي" وفق الاقتراع الداخلي مما أثار حفيظة السوريين وغضبهم، بسبب تضليل الحقيقة.
تعتقد المعارضة بأنّها حققت المعايير الأساسية لـ "النخبة السياسية" مما يمنحها حق إدارة ملف الثورة من الناحية السياسية بكل تفرعاتها بالاعتماد على مفهوم "الشرعية" الذي تستمده في الغالب من الحواضن الاجتماعية. وربما هنا قد نُدخل المعارضة في دوامة المفهوم الوحيد الذي تعتمد عليه لحث المجتمع الدولي على إنهاء الاعتراف بالنظام بكونه فاقداً للشرعية. لكن، الواقع أنّها تتشارك مع النظام ذلك. فكما النظام يحتكر مفهوم السيادة، تحتكر المعارضة الشرعية.
رغم أن "دينكن ميشيل" يُعرف النّخبة (Elite) في معجمه الشهير علم الاجتماع بأنّها مجموعة من الشخصيات التي تحظى بتأثير وحاضنة شعبية أضف للخبرة في ممارسة السلطة، مما يمنحها الحق في تشكيل منظومة حكم تمييزها عن الطبقة المحكومة، ما يؤهلها لإدارة المجتمع. إلّا أنّ السوريين يرون أن المعارضة ليس لديها على مستوى الشخصيات لا الخبرة ولا الحاضنة ولا التأثير فقلما ما يوجد من متخصصي العلوم السياسية ضمن مؤسسات المعارضة هذا من البعد الأكاديمي كذلك على صعيد الخبرة من الصعب إيجاد شخصيات مارست عملاً سياسياً من قبل.
مؤخراً، استطاعت هذه المعارضة، أن تحوّل المميزات التي وفِّرت من القضية السورية، لنفسها خلال تمرير مصالح للدول على حساب المصلحة الوطنية، بعدم الاستفادة من ملفات دولية متداخلة ومعقدة وإبعاد الشباب عن سلطة النخبة "شمولية" مما أعاد نموذج "اللا بديل" للواجهة الذي كان يروج له النظام على مدار عقود حكمه الاستبدادي.
ويُرى في هذه النقطة تقاطع واضح مع الاستبداد على حساب المفاهيم التي تروج لها مما يشي بأنها نجحت في تدوير المفاهيم والثوابت لدى السوريين وتحويلها لأداة قمعية بالطبع بأشكال مختلفة في أسوأ الأحوال تمر بالحفاظ على شكل أجسام المؤسسات الراهنة والتحالفات الداخلية. فالسلطات من هذا النوع بارعة في عملية الاجتهاد.
كما لعله، من المفيد العودة إلى كتاب "بنجامين كارتر هت"، "موت الديمقراطية" لفهم كيف تستغل النخب الأوضاع السياسية والاجتماعية للوصول إلى السلطة ثم بناء نموذج خاص. حيث عالج المتغيرات التي طرأت على الديمقراطية الألمانية، خلال بدايات العقد الثالث من القرن المنصرم، عندما استطاع أدولف هتلر، استخدام نوعية الحقبة كأداة للوصول إلى سدة الحكم. حتّى، عالم الاجتماع الأميركي "شارلز رايت ميلز"، حاول الإجابة بدوره عن أدوات "نخبة السلطة" في استخدام الديمقراطية لإجهاضها وإنتاج تجربة تمثّل مصالح الطبقة بتفسيره أنّ النخب القوية هي بالفعل التي تحكم، وأن الديمقراطية في الغالب ما تتعرض للتفكيك.
في الواقع، من المنطقي الاعتقاد أنَّ المعارضة تعمل بشكل مستمر على التجييش ضد خصومها ممن يسعون لتقويض مكتسباتها الذاتية في إطار المشروع الصلب، وربما فئة الشباب السوري المثقّف والمؤثّر هي أكثر الشرائح التي تقلقها، يدفعها الأمر لإبعادها عن المشهد قدر الإمكان أو القيام بعملية احتواء لها لتقليل فوارق القوّة عبر إعاقة الوصول إلى منبر تخاطب من خلاله الشرائح الاجتماعية التي باتت ترى في الشباب المخلّص الوحيد من المستنقع الذي أُسقطت به القضية السورية.
من الوارد، أنَّ عملية الاحتواء تجري بتشكيل كيانات موازية لتلك الشبابية المستقلة تحت إشراف المعارضة من خلال شخصيات شبابية تميل لها من حيث الولاء، لتضعها في مواجهة بينية "فئوية" داخلية، أي مع الأجسام المستقلة أو/ والشخصيات المستقلة التي لا ترضى عنها المعارضة لتخرج نفسها من دائرة المواجهة المباشرة.
ماعدا الاستثمار، إذ تستمر في التجارة بورقة الشباب والطلبة الجامعي بشكل لافت، فعلى سبيل المثال؛ إذ يحتفي الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارض بإنجازات الطلبة السوريين، لكن دون أن يولي اهتماماً لشؤونهم العامة. مما يثير حفيظة مجموعة من الطلبة والشباب، وهذا يعتبر من حيث تحليل الخطاب، تعبيراً مجازياً عن التوهم في تمثيل تلك الشريحة، وربما لو استطاع الائتلاف، تقديم خدمات للطلبة السوريين بدل الدخول في مواجهات معهم أو الاستثمار لكانت ردة الفعل أقل حدةً.
تعلم المعارضة أنّ الفئة الشبابية لديها من الأكاديمية والخبرة ما يكفي على الأقل لتحظى بتمثيل النخبة السياسية مقارنةً مع شخصياتها
هذا كله لا يلغي، سياسة التجاهل الذي تمارسها المعارضة، فعندما تنجح التنظيمات الشبابية أو الشخصيات في التحرك وفق الهوامش المتاحة وتبيان مدى ضعف كوادر المعارضة على الصعيد الشعبي والدولي تعمد بعدم إظهار أي موقف. فعلى سبيل المثال؛ قدّم عمر الشغري خطاباً مهماً جداً على صعيد القضية السورية خلال جلسة لمجلس الأمن في تموز/يوليو، 2022 ولاقى احتفاءً كبيراً شعبياً غابت عنه المعارضة، مستخدمةً سياسية التجاهل التكتيكي ((Tactical ignoring بغرض صرف الأنظار عنها والتملّص من مسؤولية الرد أو إحراج القوى الدولية كون أن الخطاب كان خارجاً عن المألوف.
في النهاية، تعلم المعارضة أنّ الفئة الشبابية لديها من الأكاديمية والخبرة ما يكفي على الأقل لتحظى بتمثيل النخبة السياسية مقارنةً مع شخصياتها، لاسيما من حيث الأدوات والتأثير والتكنولوجيا والخطاب والانسجام والخروج عن الأنماط التقليدية. وهذا يعتبر العامل الأساسي أمام عرقلة بناء جسور من قبلها مع الفئة الشبابية، لأنه قد يعني انتهاء الامتيازات التي حصّلتها. لكن مع ذلك، يبدو أنَّ لدى الشباب قدرات غير عادية لتجاوز المعارضة خلال الفترة القادمة وهذا يثبت مدى تقوقع المعارضة على نفسها دون محاولة لفهم المتغيرات الخارجية. يبقى الأمل الحقيقي في عملية التغيير التي ينشدها السوريون في الشباب السوري لإعادة الاعتبار للثورة كمشروع دولة ديمقراطية مضاد للاستبداد كمفهوم وليس كياناً فقط.
--------
تلفزيون سوريا