لا يمكن تلمس معالم المرحلة الثانية من الفوضى الخلاقة في العراق دون استيعاب التلازم المهندس سلفا بين تفاعلات الفوضى العراقية مع الفوضى المستحدثة في عموم الشرق الاوسط الكبير، والتي من افرازاتها ما يطلق عليه الربيع العربي، والصراع السني الشيعي في المنطقة، وبشكل من الاشكال احلال ايران محل اسرائيل كطرف رئيسي في نزاعات الشرق الاوسط وكخطر داهم للسلام والامن في المنطقة، فلم يكن دفع وركوب الموجة الشعبية الانفجارية الرافضة لاستمرار الانظمة الفاسدة في المنطقة وتهجين مسارها وتقنين نتائجها، وحتى التلاعب بزخمها وحدودها بحيث يتم تقزيم بعضها وتضخيم بعضها الاخر، من قبل امريكا وحلفائها الغربيين الا امعانا بتنفيذ المشروع الفوضوي الاكبر والذي سيتفاعل بمقدماته ونتائجه مع الفوضى العراقية التي كانت قد انطلقت منذ غزو العراق واحتلاله.
الاخوان المسلمون والسلفيون يتقدمون الصفوف بتفاهمات امريكية تقر لهم بالسلطة مقابل امن اسرائيل وتقر لهم بالدعم مقابل التعاون وبضمانات وتمويلات خليجية، وضمنا فان السعي جاد لبلورة جبهة جهادية سنية عابرة للحدود لمواجهة ما يسمى بالخطر الشيعي القادم من ايران وسورية وحزب الله، اما العراق فان حكومته ستتفكك بتفكك اطرافها التي لابد لها من ان تكون قد ربطت مصيرها بهذه الجبهة اوتلك، لانها غير مؤهلة مجتمعة لاجتراح موقف وطني عراقي مستقل يجعلها بمنأى عن هذا الانزلاق، بل انها اوجدت اصلا وبهذا الشكل لتكون عاجزة عن مقاومة التشظي والتبعية داخليا واقليميا!
ملامح هذه المرحلة من الفوضى الخلاقة في العراق نجدها مشخصة تماما على الصعيدين الداخلي والاقليمي، ففي الداخل تتفاقم الاصطفافات الطائفية والتبعية، النافذون في القيادات الكردية يتبنون الموقف التركي والخليجي نظريا وعمليا من خلال تقديمهم كل الدعم السياسي والعسكري للثورة السورية، وحزب الدعوة الحاكم ومعه اغلب الاحزاب الطائفية الشيعية حريصون على تقديم ما يستطيعون ولو سرا لدعم النظام في سورية بوجه الموقف الاقليمي والدولي الذي لا يرضى باقل من انفكاك سورية عن حلفها مع ايران، والاحزاب الطائفية السنية تقف موقف القادة الكرد في دعمهم للمعارضة المسلحة السورية، وهذا ما ساهم والى حد ما بالتقارب الكردي السني على حساب الحلف التقليدي بين زعامات الاكراد والشيعة، وهنا نجد خصوصية لموقف السيد جلال الطالباني والسبب لا يحتاج للكثير من التدليل فمنطقة نفوذه السليمانية وهي تحت المرمى الايراني سياسيا ولوجستيا وعسكريا وحتى اقتصاديا، لذلك نجده يعاكس البرزاني في مواقفه المتحالفة مع الاتراك، الطالباني يحاول ان يتملص من الموقف برمته لانه لا يريد ان يكون كما المالكي في العيون الامريكية اي انه يريد الحياد ولو الظاهري منه، لانه بالنتيجة سينحاز للموقف الامريكي، وامريكا تحذر المالكي مرارا وتكرارا من السماح لايران بمد يد العون لسورية عبر العراق، كما تحذره من استخدام العراق كواجهة للافلات من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، بنفس القدر هناك جفاء حكومي شيعي مع دول الخليج وهناك تناغم سني كردي معها!
لم تعد سياسة الاجتثاث السيئة الصيت تعني البعثيين بمعزل عن الانتماء الطائفي لهم كما يصرح القائمون عليها، وانما اخذت تقتصر تدريجيا وبحسب الحاجة على الكفاءات غير المروضة من اهل السنة فقط، حتى وان لم يكونوا بعثيين، وان استعصى اثبات بعثيتهم، فان المادة 4 للارهاب خير معين لاجتثاثهم من الوظيفة والحياة كلها، وكواتم الصوت ستكون الحل الامثل الذي لا سائل ولا مسؤول عنه لان فوضى الاتهام والقتل قد جعلت من الموت قتلا حالة يصعب تفحصها!
الامريكان يسحبون جنودهم من افغانستان ويقللون من وجودهم المدني في العراق، وهم على استعداد لتسليم السلطة للمجاهدين الافغان بعد ان تكون الارض قد حرثت لزرع فتنة الجهاد السني ضد الشيعي في افغانستان نفسها وفي باكستان وايران واليمن ناهيك عن العراق، وربما في كل اسيا الوسطى وحتى الصين، وعليه سيكون الجهاد السني في عموم الشرق الاوسط الكبير شبيها بالجهاد الذي خاضه الاسلاميون وبدعم امريكي ضد الوجود السوفياتي في افغانستان، ولكن هذه المرة ضد الوجود السياسي للشيعة المناصرين لايران، ياترى هل سيعيد التاريخ نفسه وينقلب السحر على الساحر كما حصل في افغانستان ذاتها بعد ان فاز المجاهدون بحكمها؟
تسريبات عن حملات شبه منظمة لجماعات سرية تشتري الاسلحة وبكل انواعها من الاهالي بجنوب ووسط العراق، ويشاع انها تفعل ذلك لصالح المسلحين في سورية، ويصرح بعض النواب بان هذه العملية تتصف بالخطورة المبيتة لانها تهز صورة التوازن التسليحي بين الطوائف العراقية مما يؤجج نزعة التفوق لدى طائفة ضد اخرى، الحكومة العراقية وقبل عدة اشهر اصدرت قرارا غريبا يسمح بموجبه لكل عراقي بتملك قطعة سلاح بشرط الترخيص لها في مخافر الشرطة، مما اثار حفيظة الاهالي الذين ينادي جلهم بقصر حمل واقتناء الاسلحة على عناصر الجيش والشرطة لان مثل هكذا قوانين تشرعن للعنف الاجتماعي وتعسكر المجتمع، المحكمة الجنائية تصدر حكما باعدام طارق الهاشمي نائب رئيس جمهورية العراق والمقيم حاليا في تركيا وتحت حمايتها بتهمة الارهاب، حكومة اقليم كردستان تطلب الحكومة المركزية بالموافقة على تمويل حرس الاقليم وبالاعداد التي يقررها الاقليم نفسه، والتي تبلغ بحسب اخر رقم مقترح مابين 300 الف و400 الف عنصر، الحكومة من جهتها ترفض هذا الرقم وتقترح تشكيل فرقتين من قوات 'البيشمركة' بحدود 30 الف عنصر، حكومة المالكي تتهم حكومة الاقليم بمحاولات لشراء اسلحة ثقيلة من دون مراجعتها، وحكومة الاقليم تنفي، لكنها تشترط موافقة قيادة الاقليم على اي صفقات تسليح يجريها المركز مع دول العالم وخاصة في مجال سلاح الجو خشية ان يستخدمها المركز في صراعه ضد الاقليم، ومن هذا الباب تطالب قيادة الاقليم الحكومة الامريكية بايقاف صفقة طيارات اف 16 المقررة للجيش العراقي، ومن نفس الباب تحاول الادارة الامريكية ربط الموافقة على تنفيذ الصفقة بقبول الحكومة المركزية بصفقات النفط المبرمة بين حكومة الاقليم وبعض الشركات النفطية الامريكية، ومازال الامر قابلا للزيادة والنقصان والقبول والرفض وبحسب المصالح الامريكية التكتيكية والاستراتيجية!
هذه ابرز ملامح الطبعة الثانية من الفوضى الخلاقة التي يعيشها العراق ويئن منها كل اهله، الذين لايريدون خروج المحتلين منه فقط، ولا الغاء الاتفاقيات غير المتكافئة معهم فقط، ولا خروج اذنابهم وسفارتهم من المنطقة الخضراء وكل العراق فقط، وانما يريدون ارادة عراقية وطنية حرة ترسم ملامح السياسة الداخلية والخارجية وبمعزل عن اي تدخل امريكي او اجنبي!