والسر في تعاسة المثقف الحر من الأيديولوجيا، أنه الوحيد القادر على إدراك حقيقة ما يعانيه مجتمعه من تخلف، لأن بقية وسائل الإعلام و التعليم و التديين تُجمع على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، و رجل الدين لا يرى في مجتمع المتقدمين أي تقدم، و يمتدح أوضاعنا الحالية في بلادنا و يراه التقدم الحقيقي، بدليل انتشار الحجاب و النقاب و اللحية و الزي الباكستاني، يمتدح العودة للتفكير حسب زمن القرن السابع الميلادي، حيث خير القرون، بل أن أهل البلاد المتقدمة يعضون علينا الأنامل من الغيظ لما حبانا الله به من عزة و كرامة بالإسلام. و ما نراه على المتقدمين و ما يصلنا من علمهم و ابتكارهم و علاجاتهم و وسائل رفاهتهم هو كله تقدم زائف أدى إلى تخلف المجتمع بدلاً من تقدمه، فتحلل المجتمع و تفككت الأسرة و انتشر الفجور و عمت الرذيلة و ضاعت الأخلاق و انحطت القيم، فأهل الغرب المتقدم بكل علومهم و فنونهم و نجاحاتهم هم في الحضيض بين المجتمعات، أما نحن فأهل القمة، بل نجلس فوق القمة، و هي القمة التي يراها المثقف الحر رأس خازوق عظيم.
ولك هنا أن تعجب من بجاحة هذا المنهج العليل في التفكير و صوته العالي في الشأن القيمي و الأخلاقي، بينما لديه زنى شرعي بألوان زواج لا تشكل أسرة، و لديه اغتصاب شرعي لركوب ملك اليمين و الإماء و الزوجة الطفلة، و لديه الجنة و إن زنى و إن سرق، و له ارتكاب كل المعاصي بشرط غسلها بالحج أو بالتوبة أو باحتمال بعض العذاب الأخروي الذي سيدخل بعده الجنة حتماً، فقط لأنه شهد للإله بأنه الإله و أن محمداً نبيه و رسوله، و هو كله ما لا علاقة له بقيم، أو بأخلاق.
ومع انتشار أجهزة الإعلام الحديثة، و عدم الرغبة في تحصيل المعرفة من مصادرها السليمة لأنها لا لزوم لها، فلدينا القرآن و بعده البخاري، أصح كتابين على الأرض و كفى، تراجعت عادة القراءة في بلادنا و تقزمت، فذبل العقل و عطبت وظيفة التفكير، وهذه الأدوات الإعلامية المتقدمة التي صنعها أهلها لمزيد من التثقيف و التعليم، نستخدمها في بلادنا لتكريس منهج التلقين الجاهز للمحفوظات لوقف استخدام العقل، فكان أن تزايد عدد مثقفي التلقي و المحفوظات لتصبح طبقة الغوغاء و الدهماء هي الأكثر عدداً وحضوراً، وهم ليسوا في حاجة إلى معرفة، و مع تخلي العقل عن وظيفته تحولوا إلى بسطاء في الطاقة العقلية و الاستيعابية للمعارف، حتى أنهم ينفرون حتى من التلقي التلفازي و يعزفون عن متابعة المشاهدة إذا كان المطروح عليهم بحاجة للتركيز و الفهم و المتابعة الدقيقة، و مما ساعد على تلك الكبوة النكراء لمجتمعاتنا خاصة المصري الذي أعرفه، هو الانهيار الاقتصادي الناتج بالضرورة عن سوء السياسات، مما أدى لانهيار مماثل في أسلوب التعليم، مع التكاثر الأرنبي الذي عمل عليه المشايخ بالقرآن و الحديث ليفاخر بنا نبينا الأمم، و تقدم علوم الطب التي أدت لتراجع نسب وفيات الأطفال، فلم تعد المدرسة تتسع لهم، فكان أن تم وضع ثلاث وجبات طلابية لمدارس ثلاثة على التتابع في مبنى مدرسي واحد، في عملية سلق سريع اختفى معها المختبر و التجربة و العمل الذهني، لما يضيعه من وقت غير متوفر، و اختفت معه كل المنافسات الرياضية بين فرق الطلاب، و كذلك الهوايات كالمسرح المدرسي الذي نشأنا على ضرورته على الأقل للاحتفال بالتفوق في نهاية العام بحفل غنائي، و غاب الغناء المحرم و غابت معه الموسيقى و كل الفنون بأخلاقياتها و قيمها و قدرتها على تهذيب الروح و السمو بالقيم، و تحول التعليم إلى محفوظات سريعة، فلا وقت للشرح، مما قضى مبرماً على ملكتيّ التفكير و الابتكار، ليخرج هؤلاء من المدارس أسوأ خلقاً و أقل معرفة ممن علمتهم الحياة عبر الصواب و الخطأ، من الأميين الذين نجد بينهم حكماء، لا نجدهم أبداً بين خريجي مدارسنا أو أزهرنا المبارك.
وهؤلاء الغوغاء هم صفوة جمهور مشايخ الإسلام اليوم، وعندما يستثمر رجال الدين هذه الحالة لتكريسها من أجل سيادتهم على هذا الشارع الجهول و التكسب على حساب جهالته، فإنهم يرتكبون أسوأ ألوان الشرور طُراً.
فجعلوا من الدين مصدر كل معرفة أو ثقافة، و الدين طاعة لا مناقشة فيه، و من ثم تم وأد ملكة النقد، و تراجع القياس و التقدير لغياب المفاضلة، حتى المشايخ أخضعوا أنفسهم لذات المنظومة و الفكرة، فمع ظهور قضايا جديدة لم يعرفها الدين و لم يسبق أن وجد مثيل لها و ما كانت متوقعة، يقدم رجال الدين تأويله للدين او للقضية، ليعيد تشكيل المشهد الجديد ليظهر شبيهاً بالمحفوظات عن الأسلاف، فليس للعقل أن يبحث إلا في المدونات الإسلامية حيث كل الحلول و الإجابة على كل سؤال، و ليس للعقل أن يضع من عنده شيئاً، لأنه سيكون وضعياً، و الوضعي فساد و مروق و اتهام مباشر للمدونات التراثية و محفوظاتها بالقصور و أنها لم تعد مقبولة عقلاً، لأن التفكير و المفاضلة و النقد و التقدير و التمييز بين حلول كثيرة، سيدخل الدين تحت هذه الأدوات الثقافية مما ينزع عنه القداسة المصمتة، حيث سيتم إبداء الرأي في أحد مكوناته.
لذلك يحاربون الجديد حتى لو كان علماً ضرورياً لابد من تقبله، لأننا إن قبلناه فالمعنى أن نترك التفسير الديني له و نستغنى عن هذه الأواني الحافظة و محفوظاتها.
وتكون النتيجة خروج السيادة المجتمعية و الرفاة و السلطان على الناس من أيدي الشيخ إلى العقل و منهج التفكير العلمي، لذلك يتم طرد داروين و تسفيه فرويد و السخرية من الحلول العلمية. ولأن المجتمع قد تم ترحيل معظمه إلى طائفة الغوغاء بما فيهم أساتذة جامعات و إعلاميين تحولوا إلى مشايخ للغوغاء، فإن الناس لا تقرر و لا تفكر و لا تجيب و لا تقدم حلولاً، و يبقى الدور كله بيد رجل الدين الذي سيختار لهم من متعدد من ذات المحفوظات، حيث كل الإجابات التي اجتهد عليها السلف كل الاجتهاد حتى أنهم لم يتركوا شيئاً للسلف ليبحثوا فيه، في أساطير تسمى علوماً كعلوم الفقه و كتب الفتاوي و الموقعين عن رب العالمين. إن المتابع لطبقة أدعياء المشيخة و الدعاة على القنوات الأرضية و الفضائية، سيلحظ بغير مشقة أن هدف هؤلاء ليس الارتقاء بمجتمعهم بل السيطرة على غوغائه، و تحويل الغوغاء إلى طاقة قوة حاضرة في المجتمع يحتسب لها حساب، فيجعلهم أصحاب يد طولى، تجد منهم صحفيين و إذاعيين و إعلاميين يتقاضون أعلى الرواتب و هم مجرد غوغاء. و ذلك ليتم توظيفهم سياسياً عند الطلب، و مثل هؤلاء هم مشكلة حقيقية لأنهم لا يعلمون أنهم غوغاء.
ويميل الغوغاء إلى تقدير القوة العضلية وتوظيف قدرتهم البدنية التي تجلب لهم الفخر أكثر من أي قدرات عقلية لا يؤمنون بجدواها، و يعتمدون في حل مشاكلهم على مشايخهم و فتاواهم لاعتقادهم بأن أي معرفة قاصرة على هؤلاء، لذلك أطلقوا على المشايخ لقب ( العلماء ) لامتلاكهم أصح العلوم و هي علوم الدين الحاوية لكل المعارف، و يقنع الغوغاء بهذه المرجعية و يطلقون لأنفسهم غرائزهم بعد أن يردد أحدهم لزميله " حُطّها في رقبة عالم، تطلع سالم "، و بالتالي الإخلاء التام من المسئولية عن سلوكهم في المجتمع، فيعيشون سعداء بدون تفكير و لا مسؤلية و يسعدون و يحبون الشيخ لأنه يحترم تفكيرهم البسيط و لا يعيبه عليهم و لا يكلفهم جهداً عقلياً، بل هو يغذي حبهم للخرافة و الأسطورة و المعجزة و البطولات، و تسمع تهليلات الحمد و التكبير عند الحديث عن شئ معجز أو بطولة عضلية إسلامية، يحبون الإبهار و تعطيهم معجزة الانتصار في القصص التاريخية على أعداء الدين إحساساً بالمتعة، و أنهم منصورون كما انتصر السلف و هم قلة أذلة بالتدخل الإعجازي، مضافاً إلى هذا زخم المشهد الروحي داخل المسجد و صوت آمين الموحد و الصفوف المرصوصة بعبادة طقوسية مُيسرة و مفهومه. لذلك يتماهي الغوغائي بالمقدس و النبي و بالرب و بالقعقاع و محمد بن القاسم، و يثور لأي حديث لا يعجبه بشأن مقدسه لأنه يشكل إعتداء شخصياً عليه، و لا يدرك أن تحركه العنيف لحماية مقدسه إنما يعني عجز هذا المقدس عن حماية نفسه.
وهكذا فإن الغوغاء قوة لا يستهان بها، فهم يتميزون بالإمكانات العضلية و ضمور الإمكانات العقلية، فتقوى قدرتهم على إحداث الشغب و القلاقل المجتمعية، بأساليب تخلو من الحياء و الخجل، و يميلون إلى حياة الفوضى بما يملكون من غرائز غير محكومة بقيم الضمير السليم، فينفعلون بشدة لأي فعل. و من هنا يقدرون من يقدرهم، و يقدر ممكانتهم البدائية فيقدمونه و يرفعونه ليمهد لهم طريق الجنة، و يعوضهم عن شقاء دنياهم، فتتم للشيخ السيطرة على أفعالهم باحتلاله مكان العقل لديهم، و يدفع أكثر نحو تعجيزهم حتى يعجزون عن اتخاذ أي قرار من أنفسهم لأن السيئة من أنفسنا و الحسنة من الله و رجاله في الأرض، فيرجعون للشيخ في كل كبيرة و صغيرة و في كل تافه ضئيل لا يحتاج جهداً عقلياً، و يطلبون النصح و الإرشاد في التوافه الهينات مع ضمور ملكة التفكير و موت العقل، ذلك الموت الذي يصرخ بالجريمة الكاملة لمشايخنا من أجل حبهم للدنيا و ليس للناس و ليس للدين.
وعملاً بمبدأ (رغبة الجمهور)، قام المشايخ يختصرون الدين في مجموعة طقوس و أدعية جاهزة، تؤدي كل المطاليب، جالبة للخير و مساندة للرب، ساعية بالبركة تسأل الله أن يتولى شئون هؤلاء التعساء بنفسه ليفعل المطلوب بدلاً منهم، فيهزم لهم الأعداء و يدك لهم الحصون و ينهب لهم ثرواتهم و يمكنهم من عيالهم و نسائهم و يصيبهم بالطواعين و المهلكات. مع مجموعة أدعية لا تكلف مشقة غير حفظها و ترديد المناسب منها عند الحاجة، فمنها ما يبعد الشرور، و منها ما يقي من العين الحاسدة، و منها ما يبعد الفقر و المرض. دون أي عناء أو جهد من المؤمنين للتفكير في حل مشاكلهم بأنفسهم. هذا إضافة إلى وضع القواعد التي تنشئ تواصلهم مع ربهم ليتفهمهم و يستجيب لمطالبهم، فيسير المؤمن الغوغائي وفق جدول محكوم كالروبوت الآلي، يخضع لأوامر تسيّره فيما يلبس أو على أي جنب ينام و ماذا يقول عندما يتثاءب أو يعطس ( يسمونه تشميت العاطس )، و بماذا يرد عليه من حوله، و كيف يبول أو يشرب و ماذا يقول بعد ذلك من حمد، و كيف يتغوط او يأكل أو يَنكح أو يُنكح، فكلها علامات تأكيدية كلما زادت و حرص عليها المؤمن كلما أعطى ربه الفرصة لتمييزه و فرزه عن بقية خلقه، هي علامات لتمكين الرب من تمييز عبادة الصالحين عن غيرهم من غير الصالحين.
ومع انتشار الفضائيات و وسائل الإعلام بدأت المنافسة بين المشايخ و بعضهم، لذلك يسعي كل منهم إلى تقديم أجود ما عندهم لمتطلبات السوق، و من ثم يتم اخضاع الدين لآليات الاقتصاد السوقي حسب قانون العرض و الطلب، لنيل إعجاب المستهلكين، فينحدر الخطاب الديني إلى مستوى شعبولا و مُغني الخضروات و الحمير، إلى مستوى غوغاء الشعب الدهماء من أصحاب الذوق المتدني غير الرهيف و غير الرفيع، يستهويهم الخبط و الرقع و الصوت العالي و الخرافة و الأسطورة، فيهبط الشيخ بالدين من مكانه السامي لمستوى طلب المستهلك، ليرضيهم بمنتجه سعياً لمزيد من الانتشار و الانتصار في المنافسة. يهبط بالدين لمستوى ذوق العوام بمحسنات تعجبهم بينما هي تشينه و تشوهه، لأن الإسلام بصورته البكر على وفاق مع زمنه و مجتمعه و لم يكن بحاجة لدعاة ومغيثين و تزويق و مُحسنات لونية، و عندما يصبح هدف الدعاة هو الحشد العددي للأتباع، فقل على الدين و الدنيا السلام. لأن هذا الحشد جاء على حساب سمو الدعوة، و تسطيح الإسلام و اختصاره في شعارات سهلة الحفظ و الفهم لا تحتاج جهداً عقلياً لمحاورتها أو مناقشتها أو التأكد من مدى صحتها.
وهكذا تجد الشيخ لا يستحي أن يتحدث عن نفسه كنجم محسود (مثل الشيخ خالد عبد الله، نجم قناة الناس)، رجل الدين صار يسعى ليصبح نجماً فنياً إزاء منافسة شديدة من فنانين آخرين، لذلك يبذل كل جهده ليستهوي الجمهور، بزي مميز، بإسلوب خطابة رنان مسجوع، بطريقة في الإلقاء تقطع و تصل و تصمت وتصرخ و تجأر و تبكي و تسخر في تمثيلية مُحسنة الترتيب، و بجرأة من يملك وحده المعرفة المطلقة والنهائية الصحيحة، و التي يجهلها الجميع، و يجب على أي سؤال، ويشرح كل غامض.
و يعزز الدور الفني للشيخ توزيع الإضاءة في الأستوديو و للديكورات الفخمية و المؤثرات التصويرية و الصوتية الملائمة لطبيعة الموقف شاعرياً أم حزيناً، الخطاب عن الجنة له إخراج، و الخطاب عن النار له إخراج، و كلما أنتشر اسم الشيخ زاد توزيع مطبوعاته و إيراداته و تهافتت عليه الفضائيات بعظيم رزقها و ابهتها و جاءته الهدايا و النفحات من كل صوب، في مقابل تحويل إسلامنا إلى سلعة شعبية كالأغاني الشعبية المتدنية و الهابطة، و ليته كان شعبياً كما كان ( مصرياً ) بأوليائه الصالحين و موالدهم و كرنفالاتهم، فقد اختفى التدين الشعبي المصري الحقيقي أمام مسخ شائه حرّم كل العلوم و الفنون ليبقى هو العارف الوحيد و العازف الوحيد.
------------------------------
elqemany@yahoo.com
* القاهرة
ولك هنا أن تعجب من بجاحة هذا المنهج العليل في التفكير و صوته العالي في الشأن القيمي و الأخلاقي، بينما لديه زنى شرعي بألوان زواج لا تشكل أسرة، و لديه اغتصاب شرعي لركوب ملك اليمين و الإماء و الزوجة الطفلة، و لديه الجنة و إن زنى و إن سرق، و له ارتكاب كل المعاصي بشرط غسلها بالحج أو بالتوبة أو باحتمال بعض العذاب الأخروي الذي سيدخل بعده الجنة حتماً، فقط لأنه شهد للإله بأنه الإله و أن محمداً نبيه و رسوله، و هو كله ما لا علاقة له بقيم، أو بأخلاق.
ومع انتشار أجهزة الإعلام الحديثة، و عدم الرغبة في تحصيل المعرفة من مصادرها السليمة لأنها لا لزوم لها، فلدينا القرآن و بعده البخاري، أصح كتابين على الأرض و كفى، تراجعت عادة القراءة في بلادنا و تقزمت، فذبل العقل و عطبت وظيفة التفكير، وهذه الأدوات الإعلامية المتقدمة التي صنعها أهلها لمزيد من التثقيف و التعليم، نستخدمها في بلادنا لتكريس منهج التلقين الجاهز للمحفوظات لوقف استخدام العقل، فكان أن تزايد عدد مثقفي التلقي و المحفوظات لتصبح طبقة الغوغاء و الدهماء هي الأكثر عدداً وحضوراً، وهم ليسوا في حاجة إلى معرفة، و مع تخلي العقل عن وظيفته تحولوا إلى بسطاء في الطاقة العقلية و الاستيعابية للمعارف، حتى أنهم ينفرون حتى من التلقي التلفازي و يعزفون عن متابعة المشاهدة إذا كان المطروح عليهم بحاجة للتركيز و الفهم و المتابعة الدقيقة، و مما ساعد على تلك الكبوة النكراء لمجتمعاتنا خاصة المصري الذي أعرفه، هو الانهيار الاقتصادي الناتج بالضرورة عن سوء السياسات، مما أدى لانهيار مماثل في أسلوب التعليم، مع التكاثر الأرنبي الذي عمل عليه المشايخ بالقرآن و الحديث ليفاخر بنا نبينا الأمم، و تقدم علوم الطب التي أدت لتراجع نسب وفيات الأطفال، فلم تعد المدرسة تتسع لهم، فكان أن تم وضع ثلاث وجبات طلابية لمدارس ثلاثة على التتابع في مبنى مدرسي واحد، في عملية سلق سريع اختفى معها المختبر و التجربة و العمل الذهني، لما يضيعه من وقت غير متوفر، و اختفت معه كل المنافسات الرياضية بين فرق الطلاب، و كذلك الهوايات كالمسرح المدرسي الذي نشأنا على ضرورته على الأقل للاحتفال بالتفوق في نهاية العام بحفل غنائي، و غاب الغناء المحرم و غابت معه الموسيقى و كل الفنون بأخلاقياتها و قيمها و قدرتها على تهذيب الروح و السمو بالقيم، و تحول التعليم إلى محفوظات سريعة، فلا وقت للشرح، مما قضى مبرماً على ملكتيّ التفكير و الابتكار، ليخرج هؤلاء من المدارس أسوأ خلقاً و أقل معرفة ممن علمتهم الحياة عبر الصواب و الخطأ، من الأميين الذين نجد بينهم حكماء، لا نجدهم أبداً بين خريجي مدارسنا أو أزهرنا المبارك.
وهؤلاء الغوغاء هم صفوة جمهور مشايخ الإسلام اليوم، وعندما يستثمر رجال الدين هذه الحالة لتكريسها من أجل سيادتهم على هذا الشارع الجهول و التكسب على حساب جهالته، فإنهم يرتكبون أسوأ ألوان الشرور طُراً.
فجعلوا من الدين مصدر كل معرفة أو ثقافة، و الدين طاعة لا مناقشة فيه، و من ثم تم وأد ملكة النقد، و تراجع القياس و التقدير لغياب المفاضلة، حتى المشايخ أخضعوا أنفسهم لذات المنظومة و الفكرة، فمع ظهور قضايا جديدة لم يعرفها الدين و لم يسبق أن وجد مثيل لها و ما كانت متوقعة، يقدم رجال الدين تأويله للدين او للقضية، ليعيد تشكيل المشهد الجديد ليظهر شبيهاً بالمحفوظات عن الأسلاف، فليس للعقل أن يبحث إلا في المدونات الإسلامية حيث كل الحلول و الإجابة على كل سؤال، و ليس للعقل أن يضع من عنده شيئاً، لأنه سيكون وضعياً، و الوضعي فساد و مروق و اتهام مباشر للمدونات التراثية و محفوظاتها بالقصور و أنها لم تعد مقبولة عقلاً، لأن التفكير و المفاضلة و النقد و التقدير و التمييز بين حلول كثيرة، سيدخل الدين تحت هذه الأدوات الثقافية مما ينزع عنه القداسة المصمتة، حيث سيتم إبداء الرأي في أحد مكوناته.
لذلك يحاربون الجديد حتى لو كان علماً ضرورياً لابد من تقبله، لأننا إن قبلناه فالمعنى أن نترك التفسير الديني له و نستغنى عن هذه الأواني الحافظة و محفوظاتها.
وتكون النتيجة خروج السيادة المجتمعية و الرفاة و السلطان على الناس من أيدي الشيخ إلى العقل و منهج التفكير العلمي، لذلك يتم طرد داروين و تسفيه فرويد و السخرية من الحلول العلمية. ولأن المجتمع قد تم ترحيل معظمه إلى طائفة الغوغاء بما فيهم أساتذة جامعات و إعلاميين تحولوا إلى مشايخ للغوغاء، فإن الناس لا تقرر و لا تفكر و لا تجيب و لا تقدم حلولاً، و يبقى الدور كله بيد رجل الدين الذي سيختار لهم من متعدد من ذات المحفوظات، حيث كل الإجابات التي اجتهد عليها السلف كل الاجتهاد حتى أنهم لم يتركوا شيئاً للسلف ليبحثوا فيه، في أساطير تسمى علوماً كعلوم الفقه و كتب الفتاوي و الموقعين عن رب العالمين. إن المتابع لطبقة أدعياء المشيخة و الدعاة على القنوات الأرضية و الفضائية، سيلحظ بغير مشقة أن هدف هؤلاء ليس الارتقاء بمجتمعهم بل السيطرة على غوغائه، و تحويل الغوغاء إلى طاقة قوة حاضرة في المجتمع يحتسب لها حساب، فيجعلهم أصحاب يد طولى، تجد منهم صحفيين و إذاعيين و إعلاميين يتقاضون أعلى الرواتب و هم مجرد غوغاء. و ذلك ليتم توظيفهم سياسياً عند الطلب، و مثل هؤلاء هم مشكلة حقيقية لأنهم لا يعلمون أنهم غوغاء.
ويميل الغوغاء إلى تقدير القوة العضلية وتوظيف قدرتهم البدنية التي تجلب لهم الفخر أكثر من أي قدرات عقلية لا يؤمنون بجدواها، و يعتمدون في حل مشاكلهم على مشايخهم و فتاواهم لاعتقادهم بأن أي معرفة قاصرة على هؤلاء، لذلك أطلقوا على المشايخ لقب ( العلماء ) لامتلاكهم أصح العلوم و هي علوم الدين الحاوية لكل المعارف، و يقنع الغوغاء بهذه المرجعية و يطلقون لأنفسهم غرائزهم بعد أن يردد أحدهم لزميله " حُطّها في رقبة عالم، تطلع سالم "، و بالتالي الإخلاء التام من المسئولية عن سلوكهم في المجتمع، فيعيشون سعداء بدون تفكير و لا مسؤلية و يسعدون و يحبون الشيخ لأنه يحترم تفكيرهم البسيط و لا يعيبه عليهم و لا يكلفهم جهداً عقلياً، بل هو يغذي حبهم للخرافة و الأسطورة و المعجزة و البطولات، و تسمع تهليلات الحمد و التكبير عند الحديث عن شئ معجز أو بطولة عضلية إسلامية، يحبون الإبهار و تعطيهم معجزة الانتصار في القصص التاريخية على أعداء الدين إحساساً بالمتعة، و أنهم منصورون كما انتصر السلف و هم قلة أذلة بالتدخل الإعجازي، مضافاً إلى هذا زخم المشهد الروحي داخل المسجد و صوت آمين الموحد و الصفوف المرصوصة بعبادة طقوسية مُيسرة و مفهومه. لذلك يتماهي الغوغائي بالمقدس و النبي و بالرب و بالقعقاع و محمد بن القاسم، و يثور لأي حديث لا يعجبه بشأن مقدسه لأنه يشكل إعتداء شخصياً عليه، و لا يدرك أن تحركه العنيف لحماية مقدسه إنما يعني عجز هذا المقدس عن حماية نفسه.
وهكذا فإن الغوغاء قوة لا يستهان بها، فهم يتميزون بالإمكانات العضلية و ضمور الإمكانات العقلية، فتقوى قدرتهم على إحداث الشغب و القلاقل المجتمعية، بأساليب تخلو من الحياء و الخجل، و يميلون إلى حياة الفوضى بما يملكون من غرائز غير محكومة بقيم الضمير السليم، فينفعلون بشدة لأي فعل. و من هنا يقدرون من يقدرهم، و يقدر ممكانتهم البدائية فيقدمونه و يرفعونه ليمهد لهم طريق الجنة، و يعوضهم عن شقاء دنياهم، فتتم للشيخ السيطرة على أفعالهم باحتلاله مكان العقل لديهم، و يدفع أكثر نحو تعجيزهم حتى يعجزون عن اتخاذ أي قرار من أنفسهم لأن السيئة من أنفسنا و الحسنة من الله و رجاله في الأرض، فيرجعون للشيخ في كل كبيرة و صغيرة و في كل تافه ضئيل لا يحتاج جهداً عقلياً، و يطلبون النصح و الإرشاد في التوافه الهينات مع ضمور ملكة التفكير و موت العقل، ذلك الموت الذي يصرخ بالجريمة الكاملة لمشايخنا من أجل حبهم للدنيا و ليس للناس و ليس للدين.
وعملاً بمبدأ (رغبة الجمهور)، قام المشايخ يختصرون الدين في مجموعة طقوس و أدعية جاهزة، تؤدي كل المطاليب، جالبة للخير و مساندة للرب، ساعية بالبركة تسأل الله أن يتولى شئون هؤلاء التعساء بنفسه ليفعل المطلوب بدلاً منهم، فيهزم لهم الأعداء و يدك لهم الحصون و ينهب لهم ثرواتهم و يمكنهم من عيالهم و نسائهم و يصيبهم بالطواعين و المهلكات. مع مجموعة أدعية لا تكلف مشقة غير حفظها و ترديد المناسب منها عند الحاجة، فمنها ما يبعد الشرور، و منها ما يقي من العين الحاسدة، و منها ما يبعد الفقر و المرض. دون أي عناء أو جهد من المؤمنين للتفكير في حل مشاكلهم بأنفسهم. هذا إضافة إلى وضع القواعد التي تنشئ تواصلهم مع ربهم ليتفهمهم و يستجيب لمطالبهم، فيسير المؤمن الغوغائي وفق جدول محكوم كالروبوت الآلي، يخضع لأوامر تسيّره فيما يلبس أو على أي جنب ينام و ماذا يقول عندما يتثاءب أو يعطس ( يسمونه تشميت العاطس )، و بماذا يرد عليه من حوله، و كيف يبول أو يشرب و ماذا يقول بعد ذلك من حمد، و كيف يتغوط او يأكل أو يَنكح أو يُنكح، فكلها علامات تأكيدية كلما زادت و حرص عليها المؤمن كلما أعطى ربه الفرصة لتمييزه و فرزه عن بقية خلقه، هي علامات لتمكين الرب من تمييز عبادة الصالحين عن غيرهم من غير الصالحين.
ومع انتشار الفضائيات و وسائل الإعلام بدأت المنافسة بين المشايخ و بعضهم، لذلك يسعي كل منهم إلى تقديم أجود ما عندهم لمتطلبات السوق، و من ثم يتم اخضاع الدين لآليات الاقتصاد السوقي حسب قانون العرض و الطلب، لنيل إعجاب المستهلكين، فينحدر الخطاب الديني إلى مستوى شعبولا و مُغني الخضروات و الحمير، إلى مستوى غوغاء الشعب الدهماء من أصحاب الذوق المتدني غير الرهيف و غير الرفيع، يستهويهم الخبط و الرقع و الصوت العالي و الخرافة و الأسطورة، فيهبط الشيخ بالدين من مكانه السامي لمستوى طلب المستهلك، ليرضيهم بمنتجه سعياً لمزيد من الانتشار و الانتصار في المنافسة. يهبط بالدين لمستوى ذوق العوام بمحسنات تعجبهم بينما هي تشينه و تشوهه، لأن الإسلام بصورته البكر على وفاق مع زمنه و مجتمعه و لم يكن بحاجة لدعاة ومغيثين و تزويق و مُحسنات لونية، و عندما يصبح هدف الدعاة هو الحشد العددي للأتباع، فقل على الدين و الدنيا السلام. لأن هذا الحشد جاء على حساب سمو الدعوة، و تسطيح الإسلام و اختصاره في شعارات سهلة الحفظ و الفهم لا تحتاج جهداً عقلياً لمحاورتها أو مناقشتها أو التأكد من مدى صحتها.
وهكذا تجد الشيخ لا يستحي أن يتحدث عن نفسه كنجم محسود (مثل الشيخ خالد عبد الله، نجم قناة الناس)، رجل الدين صار يسعى ليصبح نجماً فنياً إزاء منافسة شديدة من فنانين آخرين، لذلك يبذل كل جهده ليستهوي الجمهور، بزي مميز، بإسلوب خطابة رنان مسجوع، بطريقة في الإلقاء تقطع و تصل و تصمت وتصرخ و تجأر و تبكي و تسخر في تمثيلية مُحسنة الترتيب، و بجرأة من يملك وحده المعرفة المطلقة والنهائية الصحيحة، و التي يجهلها الجميع، و يجب على أي سؤال، ويشرح كل غامض.
و يعزز الدور الفني للشيخ توزيع الإضاءة في الأستوديو و للديكورات الفخمية و المؤثرات التصويرية و الصوتية الملائمة لطبيعة الموقف شاعرياً أم حزيناً، الخطاب عن الجنة له إخراج، و الخطاب عن النار له إخراج، و كلما أنتشر اسم الشيخ زاد توزيع مطبوعاته و إيراداته و تهافتت عليه الفضائيات بعظيم رزقها و ابهتها و جاءته الهدايا و النفحات من كل صوب، في مقابل تحويل إسلامنا إلى سلعة شعبية كالأغاني الشعبية المتدنية و الهابطة، و ليته كان شعبياً كما كان ( مصرياً ) بأوليائه الصالحين و موالدهم و كرنفالاتهم، فقد اختفى التدين الشعبي المصري الحقيقي أمام مسخ شائه حرّم كل العلوم و الفنون ليبقى هو العارف الوحيد و العازف الوحيد.
------------------------------
elqemany@yahoo.com
* القاهرة