مثل هذه المواقف تفرض قراءة مشحونة بالأحكام المسبقة والانفعالات، موضوعها ما نفهمه مما صدر عن الآخرين من وثائق أو مواقف أو آراء، أو ما يعزى لهم في أحيان كثيرة. هنا، لا يقرأ المرء ما تقع عيناه عليه، بل ما يضعه هو أو ما يريد رؤيته فيه من تفسيرات. يحدث هذا بصورة شبه دائمة في أيامنا، حيث تشكلت هيئات وأطراف فهمت أن المعارضة تكون متحدة بقدر ما تتفق مواقفها مع مواقفه وآرائه ووجهات نظره، وإلا فإنها لا تكون مختلفة معه وعنه، وإنما تكون غير وطنية وحتى خائنة. لا داعي للقول: إن هذا المنطق يضع أغلبية السوريين خارج الوطنية أو خارج الصواب، ويحشرهم في عداد الضالين والخونة، بعد أن يقوِّلهم ما لم يقولوه بالفعل، ويضع في أفواههم ما قد يكون معاكسا تماما لما نطقوا به أو أفصحوا عنه، وهذا سلوك ينم عن ازدراء جلي لعقل من يتوجه إليه، وتجاهل مهين لقدرته على فهم ما يبلغ مداركه ووعيه بمؤهلاته وملكاته الخاصة، وهو سلوك لا يكتفي بليِّ أعناق الكلمات، بل هو يلوي معانيها أيضا، لافتراضه أن من يخاطبهم أغبياء وقاصرون لن يتمكنوا من ملاحظة ما يفعله، وأن ألعابه ستنطلي عليهم، مع أن التجربة تشير إلى عكس ما يعتقد، وتؤكد أن المواطن السوري يستطيع غالبا قراءة ما بين السطور في أي تصريح أو بيان، وأنه لا يحتاج إلى مساعدة مغرضة و«ملغومة» وذات مآرب تضليلية.
من عبقرية العوام والبشر العاديين إيمانهم بحق الإنسان في الخطأ، وبأن الكمال لله وحده، واعتقادهم أن عالم البشر ناقص ويحتاج إلى تحسين مستمر. بالمقابل، يتناقض خطاب تنظيمات معارضة سورية عدة مع وعي العوام، ويؤكد في كل ما يصدر عنه أنه لا حق للإنسان في الخطأ، إلا إذا كان ينتمي إلى جماعتنا، وأن الخطأ لا يمكن ولا يجوز أن يكون بريئا، بل هو دوما فعل خيانة معلنة أو مضمرة، فلا بأس بقراءة «تفضحه»، تلوي عنقه و«تثبت» أنه فعل خيانة. يحدث هذا بطريقة تبعث على اليأس، تقتل قدرتنا على صياغة إدراكات جامعة أو مشتركة حول المسائل المصيرية التي يفشل كل شيء دونها.
نسب تصريح إلى الأستاذ الأخضر الإبراهيمي قولا يفهم منه أنه لا يريد تنحي الأسد. لم يتبين صاحب التصريح حقيقة ما قيل أو يستفسر عن معناه، بل سارع إلى إدانة الأستاذ الإبراهيمي ومطالبته بالاعتذار، وقال ما يفهم منه أنه منحاز إلى النظام وأن مهمته يجب أن تفشل. وأصدرت جهة داخلية معارضة بيانا قبل أيام يدعو إلى وقف عام لإطلاق النار بين «الطرفين المتصارعين»، وإطلاق سراح جميع المعتقلين لديهما، وبدء مفاوضات مع أطراف في النظام لم تتلطخ أيديها بدماء السوريين... إلخ، فاتهمت بالخروج على إجماع المعارضة وبالخيانة «لارتمائها» في أحضان النظام. هذا الجو يترتب على ما يلي:
- إنكار حق أي طرف معارض في الخروج على إجماع غير موجود، يتوهم من يتحدثون عنه أنه متوفر لآرائهم، التي لا تحظى في حقيقة الأمر بأي إجماع من أي نوع كان، بل هي مجرد وجهات نظر كثيرا ما اعتبرت خاطئة بين وجهات نظر عدة تتبناها المعارضة، قد تتقاطع معها في هذه المسألة أو تلك، لكنها تبقى وجهات نظر أصحابها وحدهم. ومع أن من حق هذه الجهة مقايسة آراء الآخرين بآرائها الخاصة وتبيان ما فيها من حيدان عنها، بل انتقادها بالطريقة التي تريدها، فإنه ليس من حقها اعتبار خطئه دليلا على الخيانة، خاصة أن ساحتنا المعارضة تفتقر إلى آراء جامعة متوافق عليها وملزمة لأطرافها، فإن كان هناك شيء كهذا هنا أو هناك، في هذه المسألة أو تلك، وقع الاختلاف على قراءته وتفسيره، فلا يبقى جامعا.
- إنكار حق العامل في السياسة بالحيدان عن الحد الأقصى المطروح من قبل هؤلاء، مع أن في كل سياسة حدا أدنى شرعيا ومسوغا أيضا. من المعلوم أن السياسة تتحرك اليوم في فسحة قريبة من الحد الأقصى وغدا في أخرى أقرب إلى الحد الأدنى، فإن أخذت بسياسات الحد الأقصى وحدها تسببت غالبا في كوارث ومآس مرعبة، ودمرت حركات ثورية أصيلة، في حين يفضي الثبات على الحد الأدنى إلى تقديم تنازلات لا مبرر لها تطيح بالثورة وتحرفها عن مطالبها الأصيلة. من الضروري التمسك بالحد الأقصى كهدف ومقاربته تكتيكيا بالمرونة الضرورية الكفيلة بتحقيقه، على الرغم من أنها كثيرا ما توحي، خطأ، بأن السياسة الثورية أصيبت بالتراخي. عندنا، وفي عالم المزايدة والتمريك على الآخرين، الذين يراد إلزامهم بمواقف المزايدين تحت زعم أنها محل إجماع وطني، ينتفي حقك في أن تناور أو تنتهج سبلا مغايرة لسبلهم، كما لا يحق لك أن تختلف حتى تكتيكيا معهم، على الرغم من أن هذا يعني عمليا قتل السياسة وإفراغها من أي وظيفة وأي دور.
- قد يكون هناك بعض ما يمكن ملاحظته فيما صدر عن الجهة الداخلية المعارضة، إلا أنه ليس بالتأكيد والقطع دليل خيانة أو خروجا على الإجماع الوطني. كما يمكن انتقاده بطريقة تفيد من أصدروه، بينما لا يخدم الانتقاد الحالي العمل الوطني، إلا إذا كان هناك من يتوهم خطأ أنه يستطيع احتكار هذا العمل وإزاحة غيره منه.
لا بد من تعلم فن الحوار الذي يقربنا من بعض ويفضي إلى نتائج إيجابية. ولا مفر من نبذ فنون الأستذة والإقصاء والإدانة المجانية. قبل أيام مررت قرب مكان كتبت على حائطه جملة من المفيد تعريف الجميع بها، تقول: لا خيار لنا غير أن نعيش سويا، أو أن نهلك جميعا.
--------------------
الشرق الاوسط
من عبقرية العوام والبشر العاديين إيمانهم بحق الإنسان في الخطأ، وبأن الكمال لله وحده، واعتقادهم أن عالم البشر ناقص ويحتاج إلى تحسين مستمر. بالمقابل، يتناقض خطاب تنظيمات معارضة سورية عدة مع وعي العوام، ويؤكد في كل ما يصدر عنه أنه لا حق للإنسان في الخطأ، إلا إذا كان ينتمي إلى جماعتنا، وأن الخطأ لا يمكن ولا يجوز أن يكون بريئا، بل هو دوما فعل خيانة معلنة أو مضمرة، فلا بأس بقراءة «تفضحه»، تلوي عنقه و«تثبت» أنه فعل خيانة. يحدث هذا بطريقة تبعث على اليأس، تقتل قدرتنا على صياغة إدراكات جامعة أو مشتركة حول المسائل المصيرية التي يفشل كل شيء دونها.
نسب تصريح إلى الأستاذ الأخضر الإبراهيمي قولا يفهم منه أنه لا يريد تنحي الأسد. لم يتبين صاحب التصريح حقيقة ما قيل أو يستفسر عن معناه، بل سارع إلى إدانة الأستاذ الإبراهيمي ومطالبته بالاعتذار، وقال ما يفهم منه أنه منحاز إلى النظام وأن مهمته يجب أن تفشل. وأصدرت جهة داخلية معارضة بيانا قبل أيام يدعو إلى وقف عام لإطلاق النار بين «الطرفين المتصارعين»، وإطلاق سراح جميع المعتقلين لديهما، وبدء مفاوضات مع أطراف في النظام لم تتلطخ أيديها بدماء السوريين... إلخ، فاتهمت بالخروج على إجماع المعارضة وبالخيانة «لارتمائها» في أحضان النظام. هذا الجو يترتب على ما يلي:
- إنكار حق أي طرف معارض في الخروج على إجماع غير موجود، يتوهم من يتحدثون عنه أنه متوفر لآرائهم، التي لا تحظى في حقيقة الأمر بأي إجماع من أي نوع كان، بل هي مجرد وجهات نظر كثيرا ما اعتبرت خاطئة بين وجهات نظر عدة تتبناها المعارضة، قد تتقاطع معها في هذه المسألة أو تلك، لكنها تبقى وجهات نظر أصحابها وحدهم. ومع أن من حق هذه الجهة مقايسة آراء الآخرين بآرائها الخاصة وتبيان ما فيها من حيدان عنها، بل انتقادها بالطريقة التي تريدها، فإنه ليس من حقها اعتبار خطئه دليلا على الخيانة، خاصة أن ساحتنا المعارضة تفتقر إلى آراء جامعة متوافق عليها وملزمة لأطرافها، فإن كان هناك شيء كهذا هنا أو هناك، في هذه المسألة أو تلك، وقع الاختلاف على قراءته وتفسيره، فلا يبقى جامعا.
- إنكار حق العامل في السياسة بالحيدان عن الحد الأقصى المطروح من قبل هؤلاء، مع أن في كل سياسة حدا أدنى شرعيا ومسوغا أيضا. من المعلوم أن السياسة تتحرك اليوم في فسحة قريبة من الحد الأقصى وغدا في أخرى أقرب إلى الحد الأدنى، فإن أخذت بسياسات الحد الأقصى وحدها تسببت غالبا في كوارث ومآس مرعبة، ودمرت حركات ثورية أصيلة، في حين يفضي الثبات على الحد الأدنى إلى تقديم تنازلات لا مبرر لها تطيح بالثورة وتحرفها عن مطالبها الأصيلة. من الضروري التمسك بالحد الأقصى كهدف ومقاربته تكتيكيا بالمرونة الضرورية الكفيلة بتحقيقه، على الرغم من أنها كثيرا ما توحي، خطأ، بأن السياسة الثورية أصيبت بالتراخي. عندنا، وفي عالم المزايدة والتمريك على الآخرين، الذين يراد إلزامهم بمواقف المزايدين تحت زعم أنها محل إجماع وطني، ينتفي حقك في أن تناور أو تنتهج سبلا مغايرة لسبلهم، كما لا يحق لك أن تختلف حتى تكتيكيا معهم، على الرغم من أن هذا يعني عمليا قتل السياسة وإفراغها من أي وظيفة وأي دور.
- قد يكون هناك بعض ما يمكن ملاحظته فيما صدر عن الجهة الداخلية المعارضة، إلا أنه ليس بالتأكيد والقطع دليل خيانة أو خروجا على الإجماع الوطني. كما يمكن انتقاده بطريقة تفيد من أصدروه، بينما لا يخدم الانتقاد الحالي العمل الوطني، إلا إذا كان هناك من يتوهم خطأ أنه يستطيع احتكار هذا العمل وإزاحة غيره منه.
لا بد من تعلم فن الحوار الذي يقربنا من بعض ويفضي إلى نتائج إيجابية. ولا مفر من نبذ فنون الأستذة والإقصاء والإدانة المجانية. قبل أيام مررت قرب مكان كتبت على حائطه جملة من المفيد تعريف الجميع بها، تقول: لا خيار لنا غير أن نعيش سويا، أو أن نهلك جميعا.
--------------------
الشرق الاوسط