لا يمكن لكليب الممثل السوري الكوميدي محمد خير جرّاح أن يقع في إطار الخوف، فالرجل يقيم في الإمارات حيث يصعب أن نتوقع إجباراً للفنانين على تقديم التبريكات. إن لاحظنا الرداءة في إنتاج كليب «إماراتي» بدءاً من الكلمات، واللحن، التصوير، المونتاج، الرقص (إن جاز الحديث عن رقص أصلاً) إلى صوت الجرّاح المروّع،.. قد نصل إلى الاستنتاج أن من ساهم بإنجاز الكليب هو عدو للإمارات لا صديق لها، فهو ليس سوى مثار ضحك في وقت جاء يهنئ ويقدّم الولاء والطاعة. هذا النوع من التبريكات يهين ذكاء الحاكم وذائقته، قبل أن يهين الجمهور. تصوّر مثلاً أن يمدح شاعرُ بلاط عربي أصيل حاكماً ما بأبيات مكسورة، أو بلفظ رديء. لقد احتاج حكّام الأزمنة العربية السحيقة إلى شعراء بلاط استثنائيين خلّدوا ذكرهم بـ «أروع» (اقرأ: أَكْذَب) الشعر. كذلك فإن الحكّام المعاصرين (ولسنا في معرض قياس الأكثر والأقل دكتاتورية وتوحشاً) استأثروا بمبدعي بلاطٍ يصعب تكرارهم، من محمد مهدي الجواهري إلى أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ ونزار قباني ومحمد الفيتوري وطلال حيدر وسواهم. انظر إذاً أي نوع من فنون البلاط تنتج الحقبة الراهنة!
الناس في الذلّ خوفاً من الذلّ، فهمناها، وفي الفقر خوفاً من الفقر، فهمناها أيضاً، لكن ما الذي يجعل الناس في النفاق إلى هذا الحدّ؟!
غداً قد يسجّل التاريخ أغنيةَ محمد خير الجرّاح، التي يمكن صرفها على السوري، على مستوى المعنى، بـ «أنا سوري آه يا نيّالي» ولو أنه قد قيّض للأخيرة صوت أكثر موهبة وإنتاج أكثر سخاء، قد يسجّلها عنواناً لحقبة، خصوصاً أنها تأتي مشفوعة بأعمال يكاد سقفها يكون «ملحمة» لطيفة التونسية الغنائية من أشعار محمد بن راشد.
لكن لماذا أتعب خير جراح نفسه بعمل غنائي كهذا؟ حقاً يحار المرء في الجواب، فإذا كان هو النفاق حقاً، فقد حقّ أن نتساءل: الناس في الذلّ خوفاً من الذلّ، فهمناها، وفي الفقر خوفاً من الفقر، فهمناها أيضاً، لكن ما الذي يجعل الناس في النفاق إلى هذا الحدّ؟!
سجن الغرور
«لو كان لديّ وقت أطول لكتبتُ بشكل أقصر». عبارة في إمكانها أن تكون حقاً منارة، قاعدة ذهبية أولى في كل فنون الكتابة والقول، ما يعني أن تجهد في الحذف والمحو لا في المزيد من التحبير. لكن لربما لم يكن المقصود فقط الاختزال والتبسيط، بل تَوَفُّر الوقت للتخلّص من كل أمراض الكتابة، وعلى رأسها الغرور، عندما يختار الكاتب/ القوّال موْقعاً يتعالى فيه إلى حدّ يقارب مكان الأنبياء أحياناً. إن من الكبائر في الكتابة أن تقول «أنا» (والعياذ بالله من كلمة أنا») يشقّ الكاتب نفسه ليبتكر حيلاً وأساليب كي لا يتلفظ بتلك الكلمة، فما بالك بشاعر راهن يقول في فيديو «من شاءَ فليحفظ عني: أيها الناس إن…»! والمشكلة هنا في الشّكل، أياً كان المضمون، أحياناً ليس بوسعك أن تكمل الاستماع إلى متحدث بهذا الشكل، ومن الواضح أن الأنبياء كانوا آخر من تحدّثَ بهذه اللغة، ولم تعد الأزمنة تتسع للمزيد.
كذلك يبدأ إعلامي سوري متابَع بثّه المباشر على فيسبوك بعبارة: «كتير عم يجيني أسئلة عن مستقبل سوريا» وكان بإمكانه الدخول فوراً في صلب موضوعه، من دون هذا الإيحاء بأنه في موقع المفتي السياسي، وربما المنجّم، والمطّلع، وقد يكون كذلك بالفعل، لكنه يضيّع مكانته على الفور بهذه اللغة المتعالية.
ما أصوبَ تلك العبارة التي لا ندركها إلا متأخرين: «ما من سجن أكثر وحشة من الغرور».
أمس سمع مترقبو خطاب استقالة وزير الإعلام اللبناني (السابق) جورج قرداحي هذه العبارة في ختام كلامه: «الحرب في اليمن لن تستمر إلى الأبد، سيأتي يوم يجلس فيه المتحاربون على الطاولة،.. ويوقعون سلام الشجعان، عندئذ أرجو أن يتذكروا أنه ذات يوم قام رجل من لبنان ودعا إلى وقف تلك الحرب».
ابتسم قرداحي عندما وصل إلى «أرجو أن يتذكروا» ابتسم سلفاً كأنما يطلّ علينا من المستقبل هازئاً: «ألم أقل لكم!» وكأنه الرجل الوحيد في العالم الذي قال للعالم أوقفوا هذه الحرب!
جَهِدَ قرداحي أن يضبط خطبته بما يتناغم مع وظيفته كمذيع، حرص على أن يضبط بالشكل كل الكلمات، لكنه نسي أن يعود إلى وظيفته كمذيع، وبأفضل الأحوال كوزير فاشل، أراد أن يقفز فوراً إلى مكانة الأنبياء الذين خسرتهم السياسة، ولا تليق بهم.
قرداحي لن يكون أسير تصريحاته البلهاء، خصوصاً إشادته المستمرة ببشار الأسد، إنما سيكون أسير غرور أورثه إياه حلفاؤه. ما أصوبَ تلك العبارة التي لا ندركها إلا متأخرين : «ما من سجن أكثر وحشة من الغرور».
كرامة الممانعة
على قناة «العالم» الإيرانية سنعثر على برنامج مصمم على غرار «تريندنغ» في بي بي سي، في واحدة من حلقاته يُعَنْوِن: «تفاعل النشطاء مع قرداحي.. أرسيت قواعد الكرامة» والعنوان مستعار من تغريدة جاءت بعد استقالة الوزير اللبناني جورج قرداحي.
ليس هنالك أسوأ من مهنة الكلام، عندما يمتهن الكلام فعلاً، حيث يصبح بإمكان الممانع أن يسوق الحجج نفسها لتدلّ على الشيء ونقيضه في آن.
يصعب أن يجد المرء كرامة في العالم ككرامات الممانعة، إنها فضفاضة إلى الحدّ الذي بإمكانه أن يستوعب الشيء ونقيضه. إن أصرّ على رفض الاستقالة فهو وزير الكرامة الوطنية، وإن استقال فهو وزير الكرامة الوطنية كذلك (هناك ممانع فلسطيني أطلق اللقب نفسه ذات يوم على وزير الخارجية السوري المزمن وليد المعلم، كلاهما الآن في دار الحق). ولا يتعلق الأمر بالوزراء البلهاء فقط، فإن ربحوا حرباً فهو يوم كرامة ومجد، وإن خسروها كذلك الأمر. إن كانت حرباً في شوارع بيروت، بقمصان سود، أو جعب الآر بي جي في عين الرمانة، في السيدة زينب أو على الحدود مع إسرائيل، كلها أيام كرامة.
ليس هنالك أسوأ من مهنة الكلام، عندما يمتهن الكلام فعلاً، حيث يصبح بإمكان الممانع أن يسوق الحجج نفسها لتدلّ على الشيء ونقيضه في آن.
كن مع الممانعة ولا تبال، ستأتيك الكرامة، وإن لم تأت الآن فإن التاريخ لن ينسى: «ذات يوم قام رجل من لبنان…».
-------------
تاقدس العربي