أعرف جيدا الدور الذي قام به المجلس العسكري في مساندة الثورة وإنجاحها. وأعرف جيدا أنهم بذلوا جهدا لا ينكر في محاولة التقدم بالمسيرة لكي تحقق أهدافها، والإنجاز الذي تحقق بالانتخابات يشهد بذلك. وأفهم أيضا أن البعض تطاول على أعضاء المجلس العسكري بما لا يليق. لكن الذي لا يستطيع أن ينكره أحد أيضا أن أخطاء وقعت ودماء سالت وإهانات للناس صدرت، وأن ذلك كله نسب إلى المجلس العسكري ولم يستنكر شيئا منه، في حين أنه التزم الصمت أو أنكر الوقوع أو حمَّل المسؤولية لطرف ثالث.
غاية ما سمعناه مجرد تعبير عن «الأسف» صدر في بعض الأحيان بعد تردد وعلى استحياء. فلا حدث اعتراف بالخطأ ولا حوسب أحد من المسؤولين عنه، وأخيرا قيل لنا إن ثمة «تحقيقات» تجرى. ورغم أن بعض الأخطاء تمت دون أن يكون للمجلس العسكري يد فيها، إلا أن سلوك المجلس الذي اتسم بالإنكار أو المداراة، دفع كثيرين إلى توجيه الاتهام إليه وتحميله بالمسؤولية عنها، بالمقابل فثمة أخطاء وقع المجلس فيها، وكان ذلك معلوما للكافة، لكنه التزم الصمت حيالها، الأمر الذي أضعف ثقة الرأي العام في صدقية بياناته وتصريحات أعضائه.
على سبيل المثال فإننا نعرف الآن أن قرار إخلاء اعتصام ميدان التحرير يوم 19 نوفمبر الماضي خرج من المجلس العسكري. وهو القرار الذي كانت له تداعياته التي أسفرت عن قتل 40 شخصا، لكن هذه المعلومة تم تجاهلها ــ والذين عرفوا الحقيقة تكتموا عليها، وكنت ممن أشار مبكرا إلى هذه المعلومة، بعدما علمت أن وزير الداخلية السابق، اللواء منصور العيسوي، ذكر في اجتماع مجلس الوزراء أنه لم يصدر أمر فض الاعتصام، وأن رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف لم يعلم به. وقال إن مدير أمن القاهرة هو الذي تلقى الأمر مباشرة من المجلس العسكري ليتم فض الاعتصام صبيحة ذلك اليوم. وقد أبلغه مدير الأمن بذلك، ولأنه أمر كان واجب التنفيذ باعتباره صادرا عن الجهات الأعلى، فغاية ما اقترحه اللواء العيسوي أن تؤجل العملية إلى مساء ذلك اليوم، وحين رجع مدير الأمن في ذلك إلى الجهة التي تلقى منها الأمر، جاءه الرد متمسكا بتنفيذه في الصباح. فكان ما كان يومذاك، الأمر الذي أدى إلى إثارة موجة الغضب التي استدعت ألوف المتضامنين، وانتهت بالمشهد بالصورة المحزنة التي يعرفها الجميع. (كان عنوان الصفحة الأولى لجريدة «اليوم السابع» الصادرة في 12/4، وقد نقلها على لساني الدكتور عمرو في الحوار الذي أجراه معي).
هذه المعلومة ذكرتها في حينها دون تفصيل، إلى أن أعادها الدكتور علي السلمي في حديثه إلى جريدة «المصري اليوم» في 19/12 ولأنه كان نائبا لرئيس الوزراء ومن بين حضور الاجتماع فإنه قال صراحة إن قرار فض الاعتصام لم يعلم به لا وزير الداخلية ولا رئيس الوزراء. وحين سئل عمن أصدره إذن، فكان رده «لا أعرف». مع أنه يعرف جيدا، لكنه تحرج من ذكر الحقيقة حتى لا يشير بأصابع الاتهام إلى المجلس العسكري.
هذا نموذج لواقعة واحدة أسهمت في تآكل رصيد المجلس. وكان يمكن احتواؤها بقدر من المصارحة والشفافية والاستعداد للاعتراف بالخطأ ونقد الذات. ولأن ذلك لم يحدث سواء في هذه الحالة وفي حالات أخرى مماثلة، فلم يكن مستغربا أن يستمر تآكل الرصيد بمضي الوقت. إلى أن سمعنا هتافات وقرأنا كتابات وتعليقات نددت بالمجلس وبالمشير، ودعت إلى رحيل الجميع في أقرب وقت.
في هذا السياق لا مفر من الاعتراف بأن المجلس لم يحسن مخاطبة الرأي العام، وأن المؤتمرات الصحافية التي عقدها ممثلوه لشرح ما التبس على الناس وحيرهم، لم تقنع أحدا، وإنما صارت مثارا للنقد والسخرية التي تابعها الجميع على مواقع شبكة التواصل الاجتماعي. وبالتالي فإنها كانت إسهاما في الحيرة وتعميقا لأزمة الثقة، وجاءت نتيجتها على النقيض تماما مما أريد بها.
أفهم أن العسكريين لا يجيدون ولا يقبلون نقد الذات، وقد اعتادوا أن يصدروا الأوامر لكي ينفذها المتلقون المستهدفون. لكنهم حين يديرون الشأن السياسي فعليهم أن يتعاملوا بمنطقها، وأن يتعلموا أن السياسي يكتسب ثقة الناس واحترامهم إذا اعترف بخطئه واعتذر عنه، وأنه بذلك يكبر ولا يصغر. ولأن المجلس العسكري مارس السياسة بلغة العسكر فقد حدث العكس، إذ بدأ محمولا على الأعناق في الميدان وانتهى مجرَّحا ومشتوما في نفس الميدان.
-------------------
الشرق القطرية
غاية ما سمعناه مجرد تعبير عن «الأسف» صدر في بعض الأحيان بعد تردد وعلى استحياء. فلا حدث اعتراف بالخطأ ولا حوسب أحد من المسؤولين عنه، وأخيرا قيل لنا إن ثمة «تحقيقات» تجرى. ورغم أن بعض الأخطاء تمت دون أن يكون للمجلس العسكري يد فيها، إلا أن سلوك المجلس الذي اتسم بالإنكار أو المداراة، دفع كثيرين إلى توجيه الاتهام إليه وتحميله بالمسؤولية عنها، بالمقابل فثمة أخطاء وقع المجلس فيها، وكان ذلك معلوما للكافة، لكنه التزم الصمت حيالها، الأمر الذي أضعف ثقة الرأي العام في صدقية بياناته وتصريحات أعضائه.
على سبيل المثال فإننا نعرف الآن أن قرار إخلاء اعتصام ميدان التحرير يوم 19 نوفمبر الماضي خرج من المجلس العسكري. وهو القرار الذي كانت له تداعياته التي أسفرت عن قتل 40 شخصا، لكن هذه المعلومة تم تجاهلها ــ والذين عرفوا الحقيقة تكتموا عليها، وكنت ممن أشار مبكرا إلى هذه المعلومة، بعدما علمت أن وزير الداخلية السابق، اللواء منصور العيسوي، ذكر في اجتماع مجلس الوزراء أنه لم يصدر أمر فض الاعتصام، وأن رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف لم يعلم به. وقال إن مدير أمن القاهرة هو الذي تلقى الأمر مباشرة من المجلس العسكري ليتم فض الاعتصام صبيحة ذلك اليوم. وقد أبلغه مدير الأمن بذلك، ولأنه أمر كان واجب التنفيذ باعتباره صادرا عن الجهات الأعلى، فغاية ما اقترحه اللواء العيسوي أن تؤجل العملية إلى مساء ذلك اليوم، وحين رجع مدير الأمن في ذلك إلى الجهة التي تلقى منها الأمر، جاءه الرد متمسكا بتنفيذه في الصباح. فكان ما كان يومذاك، الأمر الذي أدى إلى إثارة موجة الغضب التي استدعت ألوف المتضامنين، وانتهت بالمشهد بالصورة المحزنة التي يعرفها الجميع. (كان عنوان الصفحة الأولى لجريدة «اليوم السابع» الصادرة في 12/4، وقد نقلها على لساني الدكتور عمرو في الحوار الذي أجراه معي).
هذه المعلومة ذكرتها في حينها دون تفصيل، إلى أن أعادها الدكتور علي السلمي في حديثه إلى جريدة «المصري اليوم» في 19/12 ولأنه كان نائبا لرئيس الوزراء ومن بين حضور الاجتماع فإنه قال صراحة إن قرار فض الاعتصام لم يعلم به لا وزير الداخلية ولا رئيس الوزراء. وحين سئل عمن أصدره إذن، فكان رده «لا أعرف». مع أنه يعرف جيدا، لكنه تحرج من ذكر الحقيقة حتى لا يشير بأصابع الاتهام إلى المجلس العسكري.
هذا نموذج لواقعة واحدة أسهمت في تآكل رصيد المجلس. وكان يمكن احتواؤها بقدر من المصارحة والشفافية والاستعداد للاعتراف بالخطأ ونقد الذات. ولأن ذلك لم يحدث سواء في هذه الحالة وفي حالات أخرى مماثلة، فلم يكن مستغربا أن يستمر تآكل الرصيد بمضي الوقت. إلى أن سمعنا هتافات وقرأنا كتابات وتعليقات نددت بالمجلس وبالمشير، ودعت إلى رحيل الجميع في أقرب وقت.
في هذا السياق لا مفر من الاعتراف بأن المجلس لم يحسن مخاطبة الرأي العام، وأن المؤتمرات الصحافية التي عقدها ممثلوه لشرح ما التبس على الناس وحيرهم، لم تقنع أحدا، وإنما صارت مثارا للنقد والسخرية التي تابعها الجميع على مواقع شبكة التواصل الاجتماعي. وبالتالي فإنها كانت إسهاما في الحيرة وتعميقا لأزمة الثقة، وجاءت نتيجتها على النقيض تماما مما أريد بها.
أفهم أن العسكريين لا يجيدون ولا يقبلون نقد الذات، وقد اعتادوا أن يصدروا الأوامر لكي ينفذها المتلقون المستهدفون. لكنهم حين يديرون الشأن السياسي فعليهم أن يتعاملوا بمنطقها، وأن يتعلموا أن السياسي يكتسب ثقة الناس واحترامهم إذا اعترف بخطئه واعتذر عنه، وأنه بذلك يكبر ولا يصغر. ولأن المجلس العسكري مارس السياسة بلغة العسكر فقد حدث العكس، إذ بدأ محمولا على الأعناق في الميدان وانتهى مجرَّحا ومشتوما في نفس الميدان.
-------------------
الشرق القطرية