"الدولة الإسلامية" خيرت المسيحيين في الموصل بين دفع الجزية أو اعتناق الإسلام أو مغادرة المدينة، فاختاروا، بكل البساطة، المغادرة. ولم يسجل أي مقاومة جماعية أو فردية ولا حتى محاولة للتفاوض والحوار مع المسؤولين في هذه الدولة.
أصاب البطريرك الماروني بشارة الراعي بدعوته "داعش" إلى الحوار قائلا: "تعالوا نتحاور ونتفاهم على واحدة فقط تجمعنا بكم هي انسانية الانسان، لأنه خلاف ذلك أنتم تعتمدون لغة السلاح والإرهاب والعنف والنفوذ، أما نحن فلغة الحوار والتفاهم واحترام الآخر المختلف"، وسائلا: "ماذا فعل المسيحيون في الموصل وكل العراق العزيز لكي تعاملوهم بمثل هذا الحقد والتعدي".
فما حصل مع المسيحيين في الموصل جريمة موصوفة ومرفوضة وغير مبررة على الإطلاق، ولكن في نفس الوقت هناك بعض التساؤلات التي لا بد منها وفي طليعتها: هل تخيير المسيحيين بين الجزية والإسلام والمغادرة كان مجرد دعوة إعلامية شكلية تبريرا لتهجيرهم؟ ولماذا تحتاج جماعة مثل "داعش" تتباهى بالقتل والعنف والإجرام إلى حجج وتبريرات لترحيل المسيحيين؟ أولم يكن بإمكانهم قتل المسيحيين دون إنذارهم؟ وهل يعقل أن يكون الرحيل وترك الأرض أهون الشرور؟ وهل يعقل أنه لم ينوجد شخص واحد ديني أم زمني يأخذ على عاتقه الحوار مع "داعش" باسم الجماعة ولو كانت كلفة هذا الحوار حياته؟
وفي هذا السياق ترددت أخبار لم يتم نفيها بأن "الدولة الإسلامية" كانت دعت جميع ممثلي الموصل من الوجھاء وشيوخ العشائر ورجال الدين وممثلي الأقليات الدينية الى الحضور لاجتماع يناقش آلية الإدارة الجديدة في المدينة، وأن المشاركين أعلنوا على أثر ذاك الاجتماع قبولهم بقرارات "داعش"، وأن "الدولة الإسلامية" تذمرت من عدم حضور أي ممثل من المسيحيين في المدينة، ما دفعها إلى إمهالهم عبر عدد من القساوسة المتبقين في المدينة مھلة أسبوعين للقدوم إليھم وعقد اجتماع يتناول أوضاعھم.
ولكن عندما لم يأتِ أحد خيرتهم بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو مغادرة المدينة، فيما تنظيم "الدولة الإسلامية" كان يتوقع أن يوافق مسيحيو الموصل على شروطھم كما حصل في منطقة الرقة في سوريا عندما وافق مسيحيوھا على شروط التنظيم بدفع الجزية.
فخيار الرحيل يجب أن يكون آخر الخيارات لا أولها، وإسرائيل تتمنى لو يرحل الفلسطينيون من داخل الدولة الإسرائيلية أمس قبل اليوم، وأما التذرع برفض الاستسلام، فهذا الرفض في غير محله للأسباب الآتية:
أولا، هل المسيحي أو أي مواطن مسلم يعيش حريته في الدول الديكتاتورية أم أنه يخضع لذمية سياسية على غرار الذمية الدينية التي تدعو إليها "الدولة الإسلامية"؟ وما الفارق بين ذمية سياسية وذمية دينية؟
ثانيا، يجب الإقرار أن هناك نظام حكم جديد اسمه "الدولة الإسلامية"، وبالتالي على المواطنين داخل إطار هذه الدولة الخضوع لشروطها والتكيف مع نظام حكمها أو الرحيل. ولا شك في أن محاولة البقاء، على صعوبتها، تستحق المجازفة والمحاولة، لأن أي شيء يبقى أفضل من هذه الهجرة الجماعية، إلا تجنب القتل.
ثالثا، تسعى الدولة الإسلامية إلى تطبيق نص موجود ضمن سياق دار الحرب ودار الإسلام، حيث أن واجب المسلمين، كأفراد وجماعة، الجهاد في سبيل تحويل كل أرض لا تطبق فيها الشريعة إلى دار إسلام، فيخير الذين ليسوا من أهل الكتاب بين القتل أو اعتناق الإسلام، فيما يمنح أهل الكتاب، أي المسيحيون واليهود، خيارا ثالثا في حال أرادوا البقاء على دينهم هو دفع الجزية كتعويض ومساهمة في الجهاد الملزم لكل مواطن يخضع لحكم الإسلام، وذلك على قاعدة: تدفع تسلم.
رابعا، على رغم الاستقلالية الذاتية النسبية التي نعم بها جبل لبنان إبان حكم السلطنة العثمانية، إلا أن أهل هذا الجبل كانوا ملزمين تسديد الضرائب. فالأمير عليه تسديد المبالغ المترتبة على إمارته للدولة العثمانية، وإلا تم خلعه، وهذه الدولة كانت وضعت أساسا ما عرف بـ"الخط الهمايوني"، وهو قانون يطبق على كل الملل والأديان غير الإسلامية، وينظم بناء الكنائس والمقابر وترميمهما ويمنح بعض الامتيازات للأجانب الذين يعيشون في الولايات العثمانية.
خامسا، المسيحيون اللبنانيون خضعوا لنظام الوصاية السورية لمدة 15 عاما، ومن عارض منهم كان مصيره النفي أو السجن أو القتل، ولكنهم تعايشوا في نهاية المطاف مع هذا الوضع الذي حرمهم الحرية السياسية، إلا إذا كان مصدرها دمشق. وها هم يتعايشون وسائر اللبنانيين مع سلاح "حزب الله" الذي يخطف قرارهم الوطني ومتّهم بأنه وراء اغتيال ومحاولات اغتيال مجموعة واسعة من القادة السياسيين.
وعليه، ليس المقصود إطلاقا الدفاع عن "الدولة الإسلامية" ولا تبرير ارتكاباتها وفظائعها ونظام حكمها الذي لا ينتمي إلى هذا العصر الذي يَنشَدّ فيه المواطنون إلى دول مدنية يتساوون فيها في الحقوق والواجبات وقائمة على الحرية والديموقراطية، ولكن هذا لا يعني عدم التعامل مع الوقائع المستجدة كما هي بأن هناك نظاما جديدا يجب التسليم بأحكامه حتى إشعار آخر، وأنه بين السيئ والأسوأ لا يجب التردد باختيار السيئ، أي البقاء في الأرض، وإذا كان هناك من يشكك بقبول "الدولة الإسلامية" بمبدأ الجزية، فيجب "اللحاق بالكذاب لورا الباب". وإذا كانت المشكلة من طبيعة مالية بعجز أهل الموصل عن تسديد هذه الجزية، فحينذاك يُمتحن المسيحيون بصدق تضامنهم ومدى استعدادهم لمساعدتهم على البقاء في أرضهم.
المسيحيون العراقيون اختاروا الرحيل، وهذا أمر مؤسف. وليس مطلوبا منهم المقاومة، لأن ظروفهم التاريخية والجغرافية والديموغرافية لا تسمح لهم بذلك.
ولكن حسنا فعل البطريرك الراعي بدعوته "الدولة الإسلامية" للحوار، والبطريرك مطالب اليوم بترجمة دعوته فعليا من خلال إرسال وفد ديني وزمني للمباشرة بهذه المهمة، بدلا من البكاء على الأطلال أو توزيع المسؤوليات على كل دول العالم، فيما المطلوب مبادرات عملية لا مواقف استنكارية.