كل ثقافات البلدان التي قطعت أشواطا طويلة على طريق التقدم تعتبر التغيير جزءاً لا يتجزأ من ثقافاتها. لا عجب إذن أن تجد مفردة "التغيير" وقد دخلت في صميم الأمثال الشعبية المتداولة. فهناك مثل أمريكي يقول: "قم بالتغيير ولو إلى الأسوأ". أما المثل الانجليزي فيقول:" لا شيء يدوم إلا التغيير". وقيل أيضاً "إن المجتمع الوحيد الذي لا يقبل التغيير هو المقبرة". ويقول الشاعر: "وغير في حياتك لا تبالي، ولو ساءت بدنياك الأمور". ومشكلتنا، كما يرى البعض، "أننا نكره التغيير ونحبه في الوقت نفسه؛ فكل ما نريده هو أن تظل الأشياء كما هي، ولكن تكون أفضل".
لا شك أن الكثيرين خائفون من فاتورة التغيير، وهو بالطبع خوف ليس في محله، لكن يجب أيضاً ألا نلومهم لأن أنظمة القهر والطغيان التي تحكمنا منذ الاستقلال الأول زرعت في نفوس الشعوب خرافات وأوهاماً يصعب استئصالها، وهو أن التغيير يعني الدمار. وهذا ما جعل الشعوب تقبل بالاستقرار القاتل، وتتنازل على باقي حقوقها، وكأن الحياة مجرد مياه راكدة يجب عدم تحريكها، مع العلم طبعاً أن المياه تصبح آسنة عندما تركد. لقد آن الأوان لأن تدرك الشعوب أن تكلفة التغيير غالية جداً، لكن تكلفة عدم التغيير أغلى بكثير. وقد أصاب الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون كبد الحقيقة عندما قال ذات يوم:"إن الثمن الذي تدفعه مقابل إبقاء الأمور على حالها أعلى بكثير من الثمن الذي تدفعه ثمناً للتغيير". وبالتالي، لابد أن تكون الشعوب واثقة من أن من "يتهيب صعود الجبال، يعش أبد الدهر بين الحفر"، كما قال الشاعر الكبير أبو القاسم الشابي الذي أصبحت قصيدته عنواناً للثورة والتغيير عربياً.
ولا شك أن من حق بعض المتشككين في أن يتخوفوا من القادم، ومن أن الرياح قد تجري بما لا تشتهي سفنهم. لكن حتى هذا الشعور هو شعور زائف، فالثورة تنجح عادة بمجرد أن تندلع، بغض النظر عن نتائجها. ففي اللحظة التي تحطم فيها الشعوب قيودها تكون قد حققت ثورتها، وما يأتي لاحقاً ما هو إلا تعظيم لثمرات الثورة، على اعتبار أن الثورة قد أنجزت لحظة انفجارها. ويقول المفكر والأديب الانجليزي الشهير صامويل جونسون: "إن الشجاعة أم الفضائل، فمن دونها لا يستطيع الإنسان أن يستغل الفضائل الأخرى". وهذا قول رائع جداً، ويمكن أن نراه على أرض الواقع العربي، فطالما بقيت الشعوب خائفة، فإنها لن تحقق شيئاً أبداً لا سياسياً ولا اجتماعياً ولا ثقافياً ولا اقتصادياً، فالنهضة كل النهضة مرتبطة بتخلص الشعوب من خوفها والإمساك بزمام المبادرة، وما أن تكسر يد السجان، حتى تصبح الحياة مفتوحة أمامها على كل الاحتمالات والآمال. فعندما يتحرر الشعب من الخوف، فكل شيء يصبح ممكناً وفي متناول اليد ولو بعد حين. والخوف، كما يرى بيرتراند راسل، "هو المصدر الأساسي للخرافات، وأحد أهم مصادر القسوة، لذا فالانتصار على الخوف هو بداية الحكمة".
أضحك كثيراً أحياناً عندما يسألني البعض: هل ستنجح هذه الثورة العربية أو تلك؟ والجواب طبعاً أن الثورة لا تنتظر النجاح، بل هي تنجح بعد مرور خمس دقائق على انطلاقها، وانتهى الأمر. أما الباقي فمجرد تفاصيل. فليأت من يأتي، وليذهب من يذهب من الحكام، فالبلدان قد أنجزت التغيير بمجرد أنها حطمت أغلال الاستبداد والديكتاتورية والطغيان. أي أن اندلاع أول شرارة للثورة في حد ذاته نجاح له. ليس المهم أن تغير الثورة هذا المسؤول أو ذاك، المهم أنها غيرت الشعب، وهذا هو لب القضية. قد يعتقد الطغاة أن الثورة هي مجرد فورة يمكن إخمادها بالحديد والنار دون أن يعلموا أنها أصبحت راسخة في العقول والقلوب ولا يخمدها سوى العدل والكرامة، مع العلم أن الثورات تبدأ عادة بمطالب بسيطة جداً، لكنها تنتهي وقد حققت أضعافاً مضاعفة. ولا بارك الله بشعوب تخاف من الثورات بحجة أنها تجلب الفوضى، فالشعوب التي تتعلل بالفوضى لا تستحق لا الحرية ولا الكرامة.
ولمن مازال خائفاً من التغيير نطرح عليه التساؤل القرآني العظيم:" أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟" صدق الله العظيم