بينما تنشغل الديبلوماسية الدولية بالتعقيدات المتفاقمة للأزمة السورية، وخصوصاً ما تردد أخيراً عن استخدام السلاح الكيميائي، تسقط أحداث مهمة في الإهمال الإعلامي والسياسي. فمرت مرور الكرام الأسبوع الماضي زيارة وزير الخارجية الأذري إلمار محمدياروف لتل أبيب. وبلاده ذات الموقع الفريد تزداد اقتراباً من اسرائيل واختلافاً مع إيران التي تتصاعد فيها أصوات مطالبة باستعادة الأجزاء المسلوبة من الدولة القاجارية.
منذ ولادة أذربيجان في كانون الأول 1991 من رحم الاتحاد السوفياتي السابق، أدركت اسرائيل أهمية التحالف معها لإطلالتها على بحر قزوين وآسيا الوسطى وقربها من أوروبا والشرق الأوسط. فقامت سفارة لتل أبيب في باكو عام 1993 وأطلقت شركة الطيران الأذرية رحلات منتظمة الى الدولة العبرية. ففي البلاد أقلية يهودية كبيرة تنعم بحرية دينية وثقافية.
وقفز التبادل التجاري بين البلدين من 70 ألف دولار عام 1992 إلى أربعة مليارات في 2012. صارت أذربيجان المزود الأول لاسرائيل للنفط والغاز. والمفارقة أن خط الأنابيب الذي يمر في تركيا استمر في الضخ، حتى في ذروة التوتر بين أنقرة وتل أبيب. وفازت شركة النفط الأذرية "سوكار" بعقدها الأول خارج منطقة بحر قزوين، للتنقيب في ما تعتبره اسرائيل حقولاً لها.
والعام الماضي أبرم البلدان صفقة بمليار ونصف مليار دولار توفر لباكو أنظمة دفاع صاروخي وأسلحة مضادة للطائرات ودبابات متطورة. وكانت اسرائيل أقامت في أذربيجان مصانع لإنتاج طائرات من دون طيار ومعدات الكترونية تلتقط صوراً فائقة الدقة أياً تكن الأحوال الجوية. وتعمل مؤسسات ثقافية اسرائيلية في منطقة الحدود الأذرية - الإيرانية، وتعتقد طهران أنها قواعد تجسس للاستخبارات الاسرائيلية "الموساد".
وأوردت صحيفة "التايمس" البريطانية في كانون الثاني أن أذربيجان تشكل "الملاذ الآمن" المنشود لإقلاع الطائرات الاسرائيلية وهبوطها لتزود الوقود في الهجوم المحتمل على منشآت الجمهورية الإسلامية النووية. وقواعدها الجوية الجنوبية هي الموقع الأمثل لإطلاق عمليات برية لإنقاذ العسكريين الذين قد تُسقِط الدفاعات الإيرانية طائراتهم.
وفي دراسة لمعهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى أن التقارب الأذري - الاسرائيلي أبعدُ من توجس الجانبين من إيران. ذلك ان تل أبيب قدمت أثمن الهدايا لباكو، بدعم مطالبها بإقليم ناغورني قره باخ وحشد اللوبي اليهودي العالمي في صفها أمام أرمينيا. أضف أن التأرجح المستمر للعلاقات الاسرائيلية - التركية، جعلَ أذربيجان البلد المسلم الوحيد الذي يمكن الدولة العبرية إقامة تحالف استراتيجي ثابت معه. وهذا غير متحقق مع أندونيسيا وماليزيا مثلاً حيث التعاطف كبير مع القضية الفلسطينية. بينما يُنسب إلى الرئيس الأذري الراحل حيدر علييف اعترافه عام 2001 بـ"حق اسرائيل في تراب فلسطين".
وفي المقابل، أقر ديبلوماسيون أرمينيون بإمداد يريفان طهران بالسلاح والمال والغاز الطبيعي في حرب ناغورني قره باخ. فعلى رغم الروابط الدينية والمذهبية، انحازت الجمهورية الإسلامية إلى أرمينيا لإضعاف أذربيجان، ولئلا يجد الإيرانيون الأذريون سنداً في الدولة الناشئة حديثاً.
وفي 30 آذار اجتمعت "الجبهة الشعبية لتحرير أذربيجان الجنوبية" في أحد فنادق باكو للمطالبة بالاستقلال عن إيران. طبعاً لم يكن النفي الأذري لدعم هذا الحدث مقنعاً، إذ حضره نواب والسفير السابق لدى طهران. أضف أن باكو لم توفر مناسبة لتغذية النزعة القومية بين الإيرانيين ذوي الأصول الأذرية يقدرون بثلث مواطني الجمهورية الإسلامية، وهم ضعفا عدد سكان أذربيجان نفسها. ومن ذلك نشر خرائط لأذربيجان تضم محافظتي شرق أذربيجان وغرب أذربيجان الإيرانيتين باعتبارهما "أذربيجان الجنوبية". واقتراحُ برلمانيين أذريين تعديل اسم البلاد بإضافة صفة "الشمالية"، لأن أذربيجان التاريخية مقسمة، فنصفها داخل الحدود الإيرانية الحالية، في انتظار توحيدها في دولة واحدة عاصمتها باكو أو تبريز.
واستخدم حسين شريعت مداري، مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي، الحقائق التاريخية ذاتها في اتجاه معاكس، فطالبَ باكو بإجراء استفتاء على ضم أذربيجان نفسها إلى الجمهورية الإسلامية. وقبل أسبوعين كشف منصور حقيقت بور، نائب رئيس لجنة الأمن والسياسة الخارجية في مجلس الشورى، أن "تحركاً بدأ لاستعادة 17 مدينة سُلخت عن إيران تحت حكم الدولة القاجارية".
إنها أشباح الماضي إذاً. وهي الخرائط القديمة إياها التي جعلت موقع ناغورني قره باخ ملتبساً. صحيح أن الحرب هناك انتهت عام 1994، لكن التوتر تجدد، والسبب... سوريا. فقد أبدت أذربيجان قلقاً شديداً من نزوح سوريين أرمن إلى الإقليم. ومع أن أعدادهم لا تزال بالمئات، فإن باكو تخشى تسهيل يريفان مرور المزيد منهم لتبديل المعادلات الديموغرافية.
وتتأثر أذربيجان، لأسباب أخرى، بالأزمة السورية، فهي لا تزال عضواً غير دائم في مجلس الأمن. وثمة أنباء عن سماح باكو لموسكو باستخدام أجوائها لنقل معدات حربية، قد يكون بينها طائرات "أم آي 25"، إلى دمشق.
والنظام الأذري المتشدد حيال المعارضة الداخلية، التزم الحذر أمام "الربيع العربي". واعترى البرود العلاقة مع أنقرة، حاضنة المعارضة السورية. ففي نهاية العام الماضي، تقلص التنسيق الديني الرسمي بين الجانبين. ولذرائع أمنية أُقفل المسجد المركزي في ساحة الشهداء في باكو، وهو من معالم نفوذ تركيا التي تجمعها بالأذريين الأصول العرقية على رغم الاختلاف المذهبي.
وانعكست التجاذبات السنية - الشيعية على المواقف الأذرية من الأزمة السورية. فرجل الدين الشيعي البارز حاجي إيلغار ابرهيموغلو لا يعتقد أن هناك ثورة، بل "مؤامرة أميركية لإطاحة بشار الأسد". ويخشى آخرون قيام نظام سلفي متشدد في دمشق يمتد تأثيره إلى القوقاز. وازدادت مخاوفهم بإعلان الوكالة العربية السورية للأنباء "سانا" في 19 تشرين الأول 2012 مقتل "الإرهابي" الأذري حسن غازلي في حلب. وكان انضم وعدداً من مواطنيه السُنة إلى "الجهاد" مع بعض فصائل المعارضة السورية...
على هذه الخلفية المعقدة، أجادت تل أبيب اللعب على التناقضات لتقنع باكو بأنها أهم حلفائها والأقدر على حمايتها من "محيط جغرافي معقد"، والتعبير لإلمار محمدياروف أمام الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريس.
---------------
النهار
منذ ولادة أذربيجان في كانون الأول 1991 من رحم الاتحاد السوفياتي السابق، أدركت اسرائيل أهمية التحالف معها لإطلالتها على بحر قزوين وآسيا الوسطى وقربها من أوروبا والشرق الأوسط. فقامت سفارة لتل أبيب في باكو عام 1993 وأطلقت شركة الطيران الأذرية رحلات منتظمة الى الدولة العبرية. ففي البلاد أقلية يهودية كبيرة تنعم بحرية دينية وثقافية.
وقفز التبادل التجاري بين البلدين من 70 ألف دولار عام 1992 إلى أربعة مليارات في 2012. صارت أذربيجان المزود الأول لاسرائيل للنفط والغاز. والمفارقة أن خط الأنابيب الذي يمر في تركيا استمر في الضخ، حتى في ذروة التوتر بين أنقرة وتل أبيب. وفازت شركة النفط الأذرية "سوكار" بعقدها الأول خارج منطقة بحر قزوين، للتنقيب في ما تعتبره اسرائيل حقولاً لها.
والعام الماضي أبرم البلدان صفقة بمليار ونصف مليار دولار توفر لباكو أنظمة دفاع صاروخي وأسلحة مضادة للطائرات ودبابات متطورة. وكانت اسرائيل أقامت في أذربيجان مصانع لإنتاج طائرات من دون طيار ومعدات الكترونية تلتقط صوراً فائقة الدقة أياً تكن الأحوال الجوية. وتعمل مؤسسات ثقافية اسرائيلية في منطقة الحدود الأذرية - الإيرانية، وتعتقد طهران أنها قواعد تجسس للاستخبارات الاسرائيلية "الموساد".
وأوردت صحيفة "التايمس" البريطانية في كانون الثاني أن أذربيجان تشكل "الملاذ الآمن" المنشود لإقلاع الطائرات الاسرائيلية وهبوطها لتزود الوقود في الهجوم المحتمل على منشآت الجمهورية الإسلامية النووية. وقواعدها الجوية الجنوبية هي الموقع الأمثل لإطلاق عمليات برية لإنقاذ العسكريين الذين قد تُسقِط الدفاعات الإيرانية طائراتهم.
وفي دراسة لمعهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى أن التقارب الأذري - الاسرائيلي أبعدُ من توجس الجانبين من إيران. ذلك ان تل أبيب قدمت أثمن الهدايا لباكو، بدعم مطالبها بإقليم ناغورني قره باخ وحشد اللوبي اليهودي العالمي في صفها أمام أرمينيا. أضف أن التأرجح المستمر للعلاقات الاسرائيلية - التركية، جعلَ أذربيجان البلد المسلم الوحيد الذي يمكن الدولة العبرية إقامة تحالف استراتيجي ثابت معه. وهذا غير متحقق مع أندونيسيا وماليزيا مثلاً حيث التعاطف كبير مع القضية الفلسطينية. بينما يُنسب إلى الرئيس الأذري الراحل حيدر علييف اعترافه عام 2001 بـ"حق اسرائيل في تراب فلسطين".
وفي المقابل، أقر ديبلوماسيون أرمينيون بإمداد يريفان طهران بالسلاح والمال والغاز الطبيعي في حرب ناغورني قره باخ. فعلى رغم الروابط الدينية والمذهبية، انحازت الجمهورية الإسلامية إلى أرمينيا لإضعاف أذربيجان، ولئلا يجد الإيرانيون الأذريون سنداً في الدولة الناشئة حديثاً.
"أذربيجان الجنوبية"
ما أكثر أسباب التوتر بين باكو وطهران، وخصوصاً منذ عام 2008. أذربيجان تتهم إيران بالتخطيط لاستهداف مصالح أميركية واسرائيلية على أراضيها. طهران تؤكد مرور عملاء "الموساد" الذين اغتالوا علماءها النوويين بأذربيجان. إلى شكاوى متكررة في باكو، آخرها في 21 شباط، من خرق طائرات حربية إيرانية الأجواء المحلية. وتذمر من تنامي نفوذ المرجعيات الدينية الإيرانية بين الأذريين الشيعة، وهم 60 إلى 70 في المئة من السكان. وفي 30 آذار اجتمعت "الجبهة الشعبية لتحرير أذربيجان الجنوبية" في أحد فنادق باكو للمطالبة بالاستقلال عن إيران. طبعاً لم يكن النفي الأذري لدعم هذا الحدث مقنعاً، إذ حضره نواب والسفير السابق لدى طهران. أضف أن باكو لم توفر مناسبة لتغذية النزعة القومية بين الإيرانيين ذوي الأصول الأذرية يقدرون بثلث مواطني الجمهورية الإسلامية، وهم ضعفا عدد سكان أذربيجان نفسها. ومن ذلك نشر خرائط لأذربيجان تضم محافظتي شرق أذربيجان وغرب أذربيجان الإيرانيتين باعتبارهما "أذربيجان الجنوبية". واقتراحُ برلمانيين أذريين تعديل اسم البلاد بإضافة صفة "الشمالية"، لأن أذربيجان التاريخية مقسمة، فنصفها داخل الحدود الإيرانية الحالية، في انتظار توحيدها في دولة واحدة عاصمتها باكو أو تبريز.
واستخدم حسين شريعت مداري، مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي، الحقائق التاريخية ذاتها في اتجاه معاكس، فطالبَ باكو بإجراء استفتاء على ضم أذربيجان نفسها إلى الجمهورية الإسلامية. وقبل أسبوعين كشف منصور حقيقت بور، نائب رئيس لجنة الأمن والسياسة الخارجية في مجلس الشورى، أن "تحركاً بدأ لاستعادة 17 مدينة سُلخت عن إيران تحت حكم الدولة القاجارية".
أشباح الماضي والحاضر
لنعد قليلاً إلى الوراء. السلالة القاجارية، وهي من التركمان، تحكم بلاد فارس التي تضم إلى إيران الحالية، أرمينيا وأذربيجان التاريخية بعدما كانت مستقلة حتى أواخر القرن الثامن عشر. وحين هزمت روسيا الدولة القاجارية عام 1813، وقع الجانبان في غوليستان، قره باخ حالياً، معاهدةً نقلت داغستان وأجزاء من أذربيجان إلى روسيا. وبعد خسارة ثانية في حرب جديدة عام 1828، كرست معاهدة تركمانشاي، تبريز الحالية، تلك التبدلات الجيو - استراتيجية. وأبقت معاهدة الصداقة لعام 1921 بين إيران وروسيا البلشفية الأمور على حالها. إنها أشباح الماضي إذاً. وهي الخرائط القديمة إياها التي جعلت موقع ناغورني قره باخ ملتبساً. صحيح أن الحرب هناك انتهت عام 1994، لكن التوتر تجدد، والسبب... سوريا. فقد أبدت أذربيجان قلقاً شديداً من نزوح سوريين أرمن إلى الإقليم. ومع أن أعدادهم لا تزال بالمئات، فإن باكو تخشى تسهيل يريفان مرور المزيد منهم لتبديل المعادلات الديموغرافية.
وتتأثر أذربيجان، لأسباب أخرى، بالأزمة السورية، فهي لا تزال عضواً غير دائم في مجلس الأمن. وثمة أنباء عن سماح باكو لموسكو باستخدام أجوائها لنقل معدات حربية، قد يكون بينها طائرات "أم آي 25"، إلى دمشق.
والنظام الأذري المتشدد حيال المعارضة الداخلية، التزم الحذر أمام "الربيع العربي". واعترى البرود العلاقة مع أنقرة، حاضنة المعارضة السورية. ففي نهاية العام الماضي، تقلص التنسيق الديني الرسمي بين الجانبين. ولذرائع أمنية أُقفل المسجد المركزي في ساحة الشهداء في باكو، وهو من معالم نفوذ تركيا التي تجمعها بالأذريين الأصول العرقية على رغم الاختلاف المذهبي.
وانعكست التجاذبات السنية - الشيعية على المواقف الأذرية من الأزمة السورية. فرجل الدين الشيعي البارز حاجي إيلغار ابرهيموغلو لا يعتقد أن هناك ثورة، بل "مؤامرة أميركية لإطاحة بشار الأسد". ويخشى آخرون قيام نظام سلفي متشدد في دمشق يمتد تأثيره إلى القوقاز. وازدادت مخاوفهم بإعلان الوكالة العربية السورية للأنباء "سانا" في 19 تشرين الأول 2012 مقتل "الإرهابي" الأذري حسن غازلي في حلب. وكان انضم وعدداً من مواطنيه السُنة إلى "الجهاد" مع بعض فصائل المعارضة السورية...
على هذه الخلفية المعقدة، أجادت تل أبيب اللعب على التناقضات لتقنع باكو بأنها أهم حلفائها والأقدر على حمايتها من "محيط جغرافي معقد"، والتعبير لإلمار محمدياروف أمام الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريس.
---------------
النهار
sawssan.abouzahr@annahar.com.lb