في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فما الذي تعنيه أطروحة المبعوث، ومَن المستهدف بها؟
من جهة أخرى، كان الأولى ببيدرسون أن يدرس مرحلة سابقه، ستيفان دي ميستورا، صاحب فكرة السلال الأربع، بل أن يدرس معها "خطة المناطق الأربع منخفضة التصعيد" التابعة لثلاثي آستانة، فضلاً عن دراسة الجولات التفاوضية في جنيف، ومآلات اللجنة الدستورية، بل لا بدّ أنّه درسها بتمعّن قبل أخذه منصبه، وكلها مشاريع أو مقترحات أدّت إلى فشل مريع، بسبب مواقف النظام، وبسبب لا مسؤولية المجتمع الدولي، وتراخي كيانات المعارضة.
والفكرة هنا أنّ المبعوثين الدوليين يشتغلون كأنّهم مبعوثون من السماء، لا صلة لهم بالواقع، ولا بحقائق الصراع، كأنّ كلّ ما يعنيهم زيادة رصيدَيهم، المادي والمعنوي، في حين أنّ القضية التي يشتغلون عليها لا يقدّمون فيها شيئاً، وأقل ما يفترض منهم في قضية مأساوية أن يقدّموا موقفاً إنسانياً، على نحو ما فعل كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي اللذان فضّلا الاعتزال على المشاركة في تغطية المقتلة الجارية في سورية، أو تغطية تخاذل الموقف الدولي مما يجري.
هكذا استمر دي ميستورا في موقعه خمسة أعوام من دون أن يملأ ولو ربع سلةٍ من سلاله، وها هو بيدرسون الذي يدخل عامه الرابع، من دون أن يزحزح حجراً واحداً، يطلع علينا بمقترح خطوة مقابل خطوة، بدل أن يضع النقاط على الحروف في تحديد طبيعة الصراع السوري، وبدل أن يضع المسؤولية على الأطراف المعنية (الدولية والإقليمية). وكان بإمكانه ذلك، وثمّة ترسانة من القرارات الأممية، التي يمكن أن يعضد بها موقفه هذا، وضمن ذلك بيان جنيف وقرارا مجلس الأمن 2118 (لعام 2013) و2354 (لعام 2015).
الفكرة اللافتة في الحديث الذي أدلى به المبعوث الأممي لصحيفة الشرق الأوسط (29/ 1/2022) أنّه أكد عدم وجود خلافات استراتيجية بين المتحاورين الرئيسين في سورية (الولايات المتحدة الأميركية وروسيا)، وأنّ هناك مصالح مشتركة بمحاربة الإرهاب، متجاهلاً أنّ موقع الدولتين على ضفتي نقيض، على الرغم من كلّ التصريحات التي تصب في خانة المشتركات، وكذلك العمل الثنائي والأممي من بيان جنيف 1 حتى القرار 2254، وما يعني ذلك من توافقاتهما حول الملف السوري منذ عام 2012، على الرغم من التفسيرات المختلفة لكليهما حولهما، واصطفافات الدولتين المتعاكستين بين دعم روسيا النظام ومساندة أميركا معارضته، وأنّ الإدارات الأميركية المتعاقبة تفرض العقوبات على كلّ من النظام وروسيا في آن واحد، بينما تتوغل روسيا في سياسة خلط الأوراق وإدخال العالم في متاهات الحروب المحتملة، العسكرية والاقتصادية. وضمن ذلك مساندة روسيا تصنيف النظام المعارضة السورية مجموعات إرهابية، ومن بينها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تقف الولايات المتحدة خلفها ومعها في سيطرتها على مساحات واسعة من سورية، وفي حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). فهل تجربة عشر سنوات من العمل المتجابه بينهما لا تكفي المبعوث الأممي ليكون أكثر دقّة في تحديد معنى التوافقات الاستراتيجية، أو الاختلافات بين سياستي دولتين تهيمنان فعلياً على الصراع في سورية وعليها، وتترك خلفها الأطراف الإقليمية والحدودية، ومنها إيران وتركيا، تتحاصص على الفائض منهما؟
ذكر مفردات بند بناء الثقة في القرار 2254 من موضوع المعتقلين إلى العودة الآمنة والكريمة والطوعية للاجئين، وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من العبارات والمفردات التي عوّل عليها دي ميستورا في ترويج سلاله التي ضاعت في أروقة جنيف سابقاً، لن تعزّز مبادرة بيدرسون، بل كان حرياً به أن يبحث عمّا يحمي خطواته التي ستتوه أيضاً بين مطارات دمشق وجنيف وتركيا وغيرها، بينما يتابع النظام خطواته السريعة في استعادة ما بقي من أراضٍ خارج سيطرته تحت عنوان محاربة الإرهاب، أو إجراء تسوية مع قوات "قسد" يستعيد من خلالها نفوذه في مناطقها. وقبل ذلك، لا أظن أنّ بيدرسون يستطيع إقناع وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، بالتراجع عن موقفه في رفض "خطوة مقابل خطوة" أو التساهل معها.
ستكسب المبادرة الجديدة التأييد الدولي من الأصدقاء الأعداء (روسيا - أميركا)، لأنّها تحقق مصلحة استراتيجية حقيقية، وهي إضفاء الشرعية على تضييع الوقت، ليتسنّى لهم معرفة موطئ قدمهم في الملف الأهم، أوكرانيا، حيث تحشد روسيا قواتها على الحدود مع أوكرانيا، بينما تحشد أميركا تصريحاتها وتهديداتها، وقد تكون هذه نقطة اللقاء الاستراتيجية الوحيدة والقديمة التي أسهمت في تأزيم الواقع السوري وتعميق مأساة شعبه؟
"خطوة مقابل خطوة" تعني للنظام الاستسلام من الشعب والمعارضة لهيمنته واستبداده، وتعني للمعارضة قبول النظام بها شريكة في بقايا دولةٍ أكلها الفساد ومزقتها الفتن
------------
العربي الجديد
من جهة أخرى، كان الأولى ببيدرسون أن يدرس مرحلة سابقه، ستيفان دي ميستورا، صاحب فكرة السلال الأربع، بل أن يدرس معها "خطة المناطق الأربع منخفضة التصعيد" التابعة لثلاثي آستانة، فضلاً عن دراسة الجولات التفاوضية في جنيف، ومآلات اللجنة الدستورية، بل لا بدّ أنّه درسها بتمعّن قبل أخذه منصبه، وكلها مشاريع أو مقترحات أدّت إلى فشل مريع، بسبب مواقف النظام، وبسبب لا مسؤولية المجتمع الدولي، وتراخي كيانات المعارضة.
والفكرة هنا أنّ المبعوثين الدوليين يشتغلون كأنّهم مبعوثون من السماء، لا صلة لهم بالواقع، ولا بحقائق الصراع، كأنّ كلّ ما يعنيهم زيادة رصيدَيهم، المادي والمعنوي، في حين أنّ القضية التي يشتغلون عليها لا يقدّمون فيها شيئاً، وأقل ما يفترض منهم في قضية مأساوية أن يقدّموا موقفاً إنسانياً، على نحو ما فعل كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي اللذان فضّلا الاعتزال على المشاركة في تغطية المقتلة الجارية في سورية، أو تغطية تخاذل الموقف الدولي مما يجري.
هكذا استمر دي ميستورا في موقعه خمسة أعوام من دون أن يملأ ولو ربع سلةٍ من سلاله، وها هو بيدرسون الذي يدخل عامه الرابع، من دون أن يزحزح حجراً واحداً، يطلع علينا بمقترح خطوة مقابل خطوة، بدل أن يضع النقاط على الحروف في تحديد طبيعة الصراع السوري، وبدل أن يضع المسؤولية على الأطراف المعنية (الدولية والإقليمية). وكان بإمكانه ذلك، وثمّة ترسانة من القرارات الأممية، التي يمكن أن يعضد بها موقفه هذا، وضمن ذلك بيان جنيف وقرارا مجلس الأمن 2118 (لعام 2013) و2354 (لعام 2015).
الفكرة اللافتة في الحديث الذي أدلى به المبعوث الأممي لصحيفة الشرق الأوسط (29/ 1/2022) أنّه أكد عدم وجود خلافات استراتيجية بين المتحاورين الرئيسين في سورية (الولايات المتحدة الأميركية وروسيا)، وأنّ هناك مصالح مشتركة بمحاربة الإرهاب، متجاهلاً أنّ موقع الدولتين على ضفتي نقيض، على الرغم من كلّ التصريحات التي تصب في خانة المشتركات، وكذلك العمل الثنائي والأممي من بيان جنيف 1 حتى القرار 2254، وما يعني ذلك من توافقاتهما حول الملف السوري منذ عام 2012، على الرغم من التفسيرات المختلفة لكليهما حولهما، واصطفافات الدولتين المتعاكستين بين دعم روسيا النظام ومساندة أميركا معارضته، وأنّ الإدارات الأميركية المتعاقبة تفرض العقوبات على كلّ من النظام وروسيا في آن واحد، بينما تتوغل روسيا في سياسة خلط الأوراق وإدخال العالم في متاهات الحروب المحتملة، العسكرية والاقتصادية. وضمن ذلك مساندة روسيا تصنيف النظام المعارضة السورية مجموعات إرهابية، ومن بينها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تقف الولايات المتحدة خلفها ومعها في سيطرتها على مساحات واسعة من سورية، وفي حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). فهل تجربة عشر سنوات من العمل المتجابه بينهما لا تكفي المبعوث الأممي ليكون أكثر دقّة في تحديد معنى التوافقات الاستراتيجية، أو الاختلافات بين سياستي دولتين تهيمنان فعلياً على الصراع في سورية وعليها، وتترك خلفها الأطراف الإقليمية والحدودية، ومنها إيران وتركيا، تتحاصص على الفائض منهما؟
ذكر مفردات بند بناء الثقة في القرار 2254 من موضوع المعتقلين إلى العودة الآمنة والكريمة والطوعية للاجئين، وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من العبارات والمفردات التي عوّل عليها دي ميستورا في ترويج سلاله التي ضاعت في أروقة جنيف سابقاً، لن تعزّز مبادرة بيدرسون، بل كان حرياً به أن يبحث عمّا يحمي خطواته التي ستتوه أيضاً بين مطارات دمشق وجنيف وتركيا وغيرها، بينما يتابع النظام خطواته السريعة في استعادة ما بقي من أراضٍ خارج سيطرته تحت عنوان محاربة الإرهاب، أو إجراء تسوية مع قوات "قسد" يستعيد من خلالها نفوذه في مناطقها. وقبل ذلك، لا أظن أنّ بيدرسون يستطيع إقناع وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، بالتراجع عن موقفه في رفض "خطوة مقابل خطوة" أو التساهل معها.
ستكسب المبادرة الجديدة التأييد الدولي من الأصدقاء الأعداء (روسيا - أميركا)، لأنّها تحقق مصلحة استراتيجية حقيقية، وهي إضفاء الشرعية على تضييع الوقت، ليتسنّى لهم معرفة موطئ قدمهم في الملف الأهم، أوكرانيا، حيث تحشد روسيا قواتها على الحدود مع أوكرانيا، بينما تحشد أميركا تصريحاتها وتهديداتها، وقد تكون هذه نقطة اللقاء الاستراتيجية الوحيدة والقديمة التي أسهمت في تأزيم الواقع السوري وتعميق مأساة شعبه؟
"خطوة مقابل خطوة" تعني للنظام الاستسلام من الشعب والمعارضة لهيمنته واستبداده، وتعني للمعارضة قبول النظام بها شريكة في بقايا دولةٍ أكلها الفساد ومزقتها الفتن
------------
العربي الجديد