عشرات الآلاف ممّن ينتمون إلى ميليشيات محسوبة عليها إيرانياً ولبنانياً وعراقياً يواجهون الثوار في الصفوف الأمامية لنصرة "المستضعَف" بشار الأسد، وقد فتح الطريق أمام العشرات من المؤسسات التعليمية والاجتماعية والمراكز الثقافية والحسينيّات الإيرانية في دير الزور والبوكمال وحلب واللاذقية والأحياء الدمشقيّة الفقيرة. التبرير والمسند هو طلب النجدة الذي تقدّم به النظام في سوريا، وجائزة الترضية لا بدّ أن تكون بحجم وقيمة التضحية. "فلو لم تتدخّل طهران لكان بشار الأسد سقط خلال أسبوع "، والآن "بات من الضروري بقاء الأسد لأنّ إيران أرادت ذلك"، كما قيل لنا أكثر من مرّة على لسان قيادات سياسية وعسكرية ودينية إيرانية.
يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن احتمالات نشوب حرب إسرائيلية – إيرانية في لبنان، تختلف أهدافها وأساليبها وأدواتها هذه المرّة. الاحتمال الآخر الذي يتطلّب التوقّف عنده مطوّلاً هو أن تكون الساحة السورية مركز المواجهة الإسرائيلية الإيرانية للأسباب والأهداف نفسها التي قد تحرّك الساحة اللبنانية، وبينها:
- تسريع عملية التغيير السياسي والميداني في المشهد السوري.
- وقف مشروع التمدّد الإيراني السياسي الاجتماعي المذهبي في المدن السورية.
- تفعيل خطّة توريط إيران في المواجهة المباشرة الإقليمية، وليس عبر وسطاء كما تفعل في لبنان والعراق واليمن.
- مساعدة الغرب والعديد من دول المنطقة على الخروج من المأزق النووي الإيراني الذي بدأ يتحوّل إلى سباق تسلّح يقلب كلّ التوازنات العسكرية في الإقليم.
- حلّ عقدة الجولان وارتداداتها الإقليمية القائمة منذ عقود.
- فتح الطريق أمام عودة أميركية جديدة إلى المنطقة بعكس ما فعلته الإدارة السابقة، وبعكس ما تقوله بعض القيادات السياسية في الإدارة الحالية.
- محاصرة النفوذ الإيراني في لبنان عبر إنهائه في سوريا.
- ترك حزب الله بين خياريْ حماية إيران في سوريا أو حماية نفسه في لبنان بعكس ما هو قائم حتى اليوم، حيث تحرّك طهران أدواتها المحليّة على جبهاتها الإقليمية التي بدأت تتمدّد إلى اليمن وجنوب القوقاز.
عدد القواعد الإيرانية :
لا أحد يعرف تماماً عدد القواعد العسكرية الدينية التعليمية لإيران في سوريا، وهي التي أعلنت أنّها تحتاج إليها لتوفير متطلّبات الوافدين من الخارج لخدمة الشعب السوري. الردّ الإقليمي على إيران في سوريا مزيج من التفاهمات التي توحّدها الأخطار المحدقة بسوريا الغد وضرورة إعادة الهويّة العربية السورية إلى موقعها القديم.
تتطلّب نقاشات سيناريو المواجهة العسكرية مع إيران فوق الأراضي السورية أن تترافق مع مناقشة البعد الإقليمي في تطوّرات الملف السوري والإجابة على التساؤل التالي: مَن الذي سيدخل؟ ومَن الذي سيغادر الساحة السورية؟
تراجعت الثورة السورية، التي اندلعت قبل أكثر من عقد ضدّ نظام الأسد، لمصلحة كتلتين إقليميّتين تديران الملفّ وتتحكّمان بمساره:
- الكتلة التي تدخّلت عام 2011 لدعم مشروع الثورة والتغيير، وبينها أميركا وتركيا والعديد من العواصم العربية والغربية.
- والكتلة التي دخلت بثقلها العسكري المباشر للدفاع عن بشار الأسد وإبقائه على رأس السلطة، مثل روسيا وإيران.
وهناك تطوّر آخر خلال تحليل الوضع السوري القائم اليوم بعد سنوات على الأزمة، وهو يتطلّب قبول وجود مصالح ذات طابع سياسي وأمنيّ واقتصادي لا يمكن تجاهله لدول الجوار السوري، قد تلتقي أحياناً وقد تتعارض وتتباعد أحياناً أخرى. فهدف الحراك الإقليمي والدولي الجديد في سوريا برعاية عربية اليوم هو إعادة تصويب المسار السياسي والدستوري والاجتماعي الأعوج في سوريا. وقد تجاوزت المسألة موضوع تغيير النظام، ووصلت الخطورة اليوم إلى نقطة تغيير شكل النظام وبنية سوريا وتركيبتها الداخلية بما يعرّض أمن المنطقة وتوازناتها بكاملها للخطر.
إنّ التصعيد العسكري المرتقب على الجبهات السورية، بطابع إقليمي، سيترك طهران أمام ورطة ورقة الإرهاب التي استخدمتها لسنوات وهي تتدخّل في سوريا. وسيتجاوز موضوع إزاحة بشار الأسد عن كرسي الحكم، تلك الورقة الإيرانية الثانية التي لعبتها ضدّ السوريين والمجتمع الدولي. وسينتقل، وربّما هنا الأهمّ، إلى نقاش شكل سوريا الجديدة، وبنيتها، سياسياً ودستورياً واجتماعياً. وهو ما سيترك طهران أمام معضلة الاختيار بين الدفاع عن جغرافيّتها وبين التضحية بحلفائها وشراكاتها في الإقليم.
الدور الروسي :
لم تعد مسألة الوجود أو النفوذ الإيراني في سوريا على هذا المستوى القديم من التعقيد. إيران، التي تحاول التوغّل إيديولوجيّاً ومذهبياً وعسكرياً في سوريا، تعرف جيّداً أنّ من يتركها تتحرّك بهذا الشكل ليس قدراتها وطاقاتها أو النظام الذي تنسّق معه في دمشق، بل اللاعب الروسي الأقوى على الأرض في مناطق نفوذ بشار الأسد، والقابع فوق تلّة توزيع الحصص والأدوار. وهذا اللاعب يستطيع التأثير في تفعيل أو تجميد النفوذ الإيراني متى يشاء وحسب ما تتطلّب مصالحه.
وعلى ما يبدو فإنّ موسكو لم تكن تستعجل مسألة الجلوس أمام طاولة إقليمية في سوريا تشمل المساومة على البيدق الإيراني هناك، ما دامت أوراق بقيّة اللاعبين: الأميركي والتركي والإسرائيلي، المتعلّقة بإيران، لم يتمّ الكشف عنها بعد. وما دامت قد وصلت إلى قناعة جديدة بضرورة مراجعة سياستها الإيرانية في سوريا أمام مشهد الرفض العربي والتصعيد الغربي والتعنّت الأميركي والتلويح الإسرائيلي الدائم بالتصعيد.
رفع بعض السوريين من أنصار المشروع الإيراني هناك شعار "سوريا لِمَن يدافع عنها". وبدأت عمليّات التوغّل والاختراق المذهبي والفكري اجتماعياً وأمنيّاً. الحالة مشابهة تماماً لِما جرى في العراق. هناك الضوء الأخضر الأميركي، وهنا في سوريا الضوء الأخضر الروسي. انقلاب المشهد السياسي أخيراً في العراق، بعكس ما كانت تريده طهران وتراهن عليه، مؤشّر مهمّ يدفع باتجاه تفعيل سيناريو مشابه في سوريا. فإيران التي كانت تستفيد من غياب التفاهمات السياسية الإقليمية والدولية حول سوريا، وتحاول تغذية هذا الانقسام والتباعد وعرقلة حدوث أيّ تفاهم تماماً كما تفعل في اليمن والعراق ولبنان، وصلت أيضاً إلى قناعة بأنّ المسألة لن تطول أكثر من ذلك. لأنّ الأصوات الرافضة والمعارضة التي بدأت تتحرّك ضدّ سياساتها في المنطقة ازداد عددها وبدأت تتوحّد وتدفع كلا اللاعبين، الروسي والأميركي، إلى تسريع ترتيب طاولة الحوار في سوريا كما يحدث في العراق اليوم.
لعب النظام السوري الورقة الروسية لعرقلة النفوذ التركي في شمال غرب سوريا خلال العامين الأخيرين. ونجح في الاحتماء والاستفادة من أوراق داعش والنصرة وتحرير الشام للبقاء في مقعده، لكنّه فرّط بالفرص الكثيرة التي قدّمها له العديد من الدول العربية الوازنة إقليمياً لتغيير سياسته الإيرانية.
الخطورة على النظام الإيراني :
وقد اكتشف النظام اليوم أنّ بين شروط عودته إلى الجامعة العربية تغيير سياسته الإيرانية التي ألحقت ضرراً بالغاً بالبنية الاجتماعية والسياسية والثقافية السورية وبمصالح العالم العربي في سوريا. لكنّه يعرف أكثر من ذلك، وهو استحالة قبوله عربياً لأنّه مكبّل إيرانياً وغير قادر على تغيير سياساته بمثل هذه السهولة.
المتغيّر العربي والإقليمي والآخر هو انتقال استراتيجية المواجهة العربية والإقليمية مع إيران من التراوح بين مسألة قبول عودة النظام إلى الحضن العربي أو التمسّك بإبعاده ما دام لم يلتزم بقرارات وتوصيات جامعة الدول العربية المتّصلة بالملف السوري... إلى تحرّك عربي إقليمي أوسع في مواجهة مشروع تثبيت طهران لأقدامها في سوريا عبر عشرات العقود والاتفاقيات السياسية والعسكرية والثقافية التي تمنحها الانتشار والتوغّل العمودي والأفقي داخل المجتمع السوري.
قد تكون مسألة تصدير الثورة في قلب البنية الفكرية العقائدية الإيرانية، وقد يكون هناك صعوبة في قبول أيّ تراجع إيراني استراتيجي في سوريا والعراق واليمن، لأنّ ارتدادات ذلك ستكون في الداخل الإيراني نفسه، في طهران وقم ومشهد. لكنّ التوازنات الإقليمية الجديدة هي التي تحاصر القيادة الإيرانية مجبرةً إيّاها على قبول الخيارات الصعبة كي لا تجد نفسها أمام الأصعب.
تعيدنا كلّ هذه النقاشات إلى التساؤل عمّن عرقل في منتصف نيسان 2018 الخطة السعودية التي كانت تقوم على إرسال قوات عربية إلى سوريا للمساهمة في منع مخطّط الشرذمة والتفتيت، وكيف كانت الوضعية اليوم، لو اُعتُمدت وقتها مبادرة الرياض التي أُعلنت تحت شعار "حماية وحدة سوريا وإخراجها من أزمتها عربياً ودولياً"؟
تعلن موسكو بين الحين والآخر عن عدم رضاها على النشاط العسكري الإسرائيلي في سوريا، لكنّ تل أبيب لا تأخذ كثيراً بما يقوله الكرملين لأنّ الضوء الأخضر هو روسيّ قبل أن يكون من الجانب الأميركي. لن يكون بمقدور روسيا الجمع بين إرضاء تل أبيب سوريّاً وعدم إغضاب طهران في الوقت نفسه. وهي لا تريد ذلك أصلاً. فقد دعا بوتين أكثر من مرّة إلى انسحاب جميع القوات الأجنبية من سوريا، وهي الدعوة التي كرّرها وزير خارجيّته سيرغي لافروف. وموسكو، التي أطلقت يد المقاتلات الإسرائيلية في الأجواء السورية لتستهدف إيران هناك، كانت تنتظر وضوح المواقف الأميركية والإسرائيلية والإقليمية في الملفّ السوري لتحسم قرارها، ويبدو أنّها وصلت إلى ما تريد.
عادت بنا الذاكرة إلى ما نُشر في كتاب "الغرفة حيث حدث ذلك" نقلاً عن مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون الذي قال إنّ الرئيس الروسي بوتين دعاه إلى إبلاغ ترامب بأنّ الروس ليسوا بحاجة إلى إيرانيين في سوريا، ولا مصلحة لروسيا في وجودهم هناك. أعلنت موسكو أكثر من مرّة أنّ قناعتها لم تتغيّر، وأنّها جاهزة لبحث موضوع إيران في سوريا مع واشنطن. والاحتمال الأقرب أن تعلن الإدارة الأميركية موقفاً جديداً حول سوريا في ضوء نتائج المحادثات النووية مع طهران. لا بل ربّما ذهبت إلى طاولة التفاوض وفي جعبتها وذهنها خطة التحرّك المسبق الواجب تبنّيها واعتمادها في الحوار الأميركي الروسي الجديد حول سوريا.
أين هو موقع أنقرة ودورها في كلّ هذه النقاشات؟ وهل للتحوّل الحاصل في سياسات تركيا الانفتاحية التصالحية الإقليمية دوافعه الخفيّة التي تأخذ بعين الاعتبار تقديم خطة من هذا النوع تزيل الكثير من العقبات الإيرانية عن كاهلها في سوريا والعراق ولبنان؟ خصوصاً بعدما حوّلت طهران هذه البلدان إلى أوراق استراتيجية بيدها لمواجهة النفوذ التركي وقطع الطريق عبر أذرعها المحليّة هناك على مصالح أنقرة. وبعدما دعت القيادات الإيرانية تركيا إلى أن تنسحب من سوريا والعراق، وردّت الخارجية التركية على طهران بأنّها هي آخِر من يعطي تركيا الدروس في سوريا والعراق؟ أم ستتمسّك أنقرة فعلاً بما أعلنه وزير خارجيّتها مولود شاووش أوغلو في منتصف شهر تشرين الثاني المنصرم من العاصمة الإيرانية حين قال إنّ "الحوار مهمّ ومفيد في مثل هذه الظروف التي تمرّ بها العلاقات من أجل تطويرها. الهدف الآن هو عقد مباحثات مكثّفة على مستوى الدبلوماسيين والخبراء لصياغة خارطة طريق جديدة للتعاون الطويل الأمد"؟
الغامض حتّى الآن هو الموقف التركي وكيف سيكون لونه على ورقة "التورنسول" السورية. لكنّ أنقرة لن تخطىء في رصد الموقف الإقليمي الجديد المتعلّق بسوريا وتقديره، بعد أشهر من الجهود المبذولة على طريق التقارب والمصالحة مع العديد من دول المنطقة.
---------
اساس ميديا