وبقي تنفيذ بنود الاتفاقيّات، لناحية الكميّة المُرسَلة والنوعيّة والتسعير، دائماً في مقدَّم نقاط الخلاف بين البلدين. أضف إليه إعلان طهران في منتصف موسم الشتاء المصحوب بعاصفة ثلجية تجتاح تركيا في هذه الآونة، وقف صادراتها من الغاز إلى جارتها نتيجة عطل فنّيّ طارىء تحتاج إلى حوالي أسبوعين لإصلاحه. حينئذٍ سارع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى الاتصال بنظيره الإيراني إبراهيم رئيسي لمعرفة الأسباب، فكرّرت طهران أنّ هذا التوقّف هو نتيجة أعطال في خطّ نقل الغاز، وستتمّ معالجتها خلال أيام. ثمّ أرسلت أنقرة وفداً يضمّ كبار المسؤولين في وزارة الطاقة والموارد الطبيعية إلى العاصمة الإيرانية للاطّلاع على التفاصيل.
لم تُقنع أحداً في أنقرة الرواية الإيرانية حول وجود أعطال فنّية تحول دون إيصال الغاز الإيراني إلى الداخل التركي. خصوصاً أنّها ليست المرّة الأولى التي تحدث فيها هذه الأعطال.
وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز قال إنّ "إيران فشلت في تلبية الشروط المنصوص عليها في عقود توريد الغاز الطبيعي إلى تركيا". هناك من قال أيضاً إنّ السبب هو عجز طهران عن تلبية احتياجاتها المحليّة. لكنّ الذي أثار غضب الأتراك أكثر هو محاولة البعض في إيران رمي الكرة في الملعب التركي وتحميل أنقرة المسؤولية نتيجة عدم تسديد مستحقّاتها الماليّة. الأمر الذي دفع الكثيرين في الداخل التركي إلى إعلان أنّ طهران لم تلتزم بتعهّداتها لناحية الكميّات الواجب إرسالها، وأنّ هذا يستدعي مقاضاتها ومطالبتها بدفع تعويضات عن أضرار لحقت بمئات المصانع والمؤسسات التركية التي أُجبِرت على وقف أعمالها أو خفضها إلى أدنى مستوى لها. وكأنّ ما قامت به إيران هو سياسة متعمَّدة في موسم البرد القارس والأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد.
لم تُقنع أحداً في أنقرة الرواية الإيرانية حول وجود أعطال فنّية تحول دون إيصال الغاز الإيراني إلى الداخل التركي. خصوصاً أنّها ليست المرّة الأولى التي تحدث فيها هذه الأعطال.
وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز قال إنّ "إيران فشلت في تلبية الشروط المنصوص عليها في عقود توريد الغاز الطبيعي إلى تركيا". هناك من قال أيضاً إنّ السبب هو عجز طهران عن تلبية احتياجاتها المحليّة. لكنّ الذي أثار غضب الأتراك أكثر هو محاولة البعض في إيران رمي الكرة في الملعب التركي وتحميل أنقرة المسؤولية نتيجة عدم تسديد مستحقّاتها الماليّة. الأمر الذي دفع الكثيرين في الداخل التركي إلى إعلان أنّ طهران لم تلتزم بتعهّداتها لناحية الكميّات الواجب إرسالها، وأنّ هذا يستدعي مقاضاتها ومطالبتها بدفع تعويضات عن أضرار لحقت بمئات المصانع والمؤسسات التركية التي أُجبِرت على وقف أعمالها أو خفضها إلى أدنى مستوى لها. وكأنّ ما قامت به إيران هو سياسة متعمَّدة في موسم البرد القارس والأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد.
رسالة إقليمية ودولية؟
فتحت محاولة تحميل تركيا مسؤولية العطل الأبوابَ على وسعها أمام نقاشات داخلية أبعد بكثير من مسألة: لماذا تعرقل إيران في منتصف الشتاء وصول الغاز الذي تحتاج إليه تركيا، والذي تسبّب عدم وصوله بتعطيل عمل العشرات من المصانع والمعامل التي تعتمد على الغاز الإيراني لتوليد ما تحتاج إليه من الطاقة؟
لدى غالبيّة الأتراك قناعة بأنّ إيران أرادت التذكير بوجودها وحصّتها ونفوذها في مشاريع وخطط الطاقة الإقليمية، فاختارت تركيا لتكون الوسيلة والفرصة عبر إيقاف ضخّ الغاز إلى الداخل التركي لأسبوعين. وتعلّم الأتراك ثلاثة دروس ضرورية:
1- ارتفعت أصوات تدعو إلى تسريع وضع خطط لمواجهة أزمات من هذا النوع من خلال تفعيل خطط تخزين الاحتياط الكافي من الغاز في البلاد لإبقاء المصانع والمعامل في الخدمة عند وقوع حالات من هذا النوع.
2- طالب البعض بطرح خطط وبرامج جديدة للخروج من مشكلة الحصول على 95 في المئة من احتياجات تركيا للطاقة من الخارج، وضرورة تقليص هذه الأرقام، والبحث عن الطاقة البديلة، وإنجاز عقود وتفاهمات إقليمية بهذا الاتجاه.
3- البحث فوراً عن بدائل للخروج من الارتهان لروسيا كمُصدّر أوّل للغاز، والشريك الأكبر في مشاريع الطاقة البديلة مع مفاعل "اك كويو" لتوليد الطاقة الذرية الذي تتجاوز كلفته 20 مليار دولار.
أوجزت تصريحات السفير الإيراني في تركيا محمد فرزماند حول الأزمة الغازيّة الأخيرة حالة قلق بلاده من سياسة تركيا الإقليمية الجديدة في موضوع الطاقة، إذ قال إنّ "هناك عقوداً بين البلدين لشراء الغاز لمدّة 25 عاماً، ونحن على استعداد لزيادة الكميّة المرسَلة إذا ما أرادت تركيا ذلك. ونحن جاهزون أيضاً لإنشاء خطّ نقل طاقة جديد بين البلدين إذا ما قبلت تركيا بذلك".
هكذا أعلن السفير الإيراني باختصار إنّ بلاده متمسّكة بالدفاع عن مصالحها الإقليمية في موضوع الطاقة وتأمين تصدير غازها إلى الخارج، وإنّ سياسة تركيا الجديدة في ملفّات الطاقة على أكثر من خطّ استراتيجي في شرق المتوسّط والبحر الأسود والقوقاز لا يمكن أن تتجاهل حصّة إيران ونفوذها ودورها.
أسباب قلق طهران
ما يُقلق طهران في حساباتها الغازيّة مع أنقرة مهمّ طبعاً. لكنّ ما يزعجها ويخيفها إقليميّاً هو أكبر وأهمّ من ذلك بكثير. فما الذي يدفع إيران إلى التصعيد على هذا النحو؟ وما هي أسباب انفعالها على هذا النحو؟
هناك خمسة أسباب أساسية:
أوّلاً، الخطط والتحرّكات التي تظهر إلى العلن في مسائل اكتشاف الغاز واستخدامه ونقله بين دول المنطقة عبر مشاريع عملاقة تمرّ عبر البحر الأسود وشرق المتوسط لا مكان لطهران فيها. ثانياً، قرار تركيا تنويع مصادرها الغازيّة، وفقدان إيران بشكل تدريجي فرصة تذكير تركيا بحاجتها إليها في موضوع الطاقة وضرورة عدم المبالغة في التصعيد السياسي ضدّها في ملفّات ثنائية أو الذهاب وراء عقود وصفقات إقليمية على حسابها.
ثالثاً، كان هدف طهران دفع تركيا باتّجاه توقيع عقود غازية جديدة بعيدة المدى معها، لكنّ أنقرة اختارت خفض نسب وارداتها من إيران والاتّجاه نحو أذربيجان والجزائر والجمهوريات التركية الأخرى لتنويع مصادرها بانتظار استخراج غاز البحر الأسود في العامين المقبلين.
رابعاً، التفاهمات الإقليمية الجديدة حول غاز شرق المتوسط بين تركيا ومصر وإسرائيل، والتي تزايدت احتمالاتها بعد تطبيع تركيا علاقاتها مع البلدين. وهذا يعني سقوط المشروع الإيراني الذي كانت طهران تعدّ له بالتنسيق مع روسيا عبر مناطق شمال سوريا. يُضاف إلى ذلك رغبة إيران بالوصول إلى المياه الدافئة في سواحل المتوسط لفرض نفسها شريكاً في معادلات منظومة شرق المتوسط التي يبدو أنّها ستأخذ شكلاً إقليمياً جديداً في الأشهر المقبلة. القلق الإيراني هو نتيجة تراجع مشروع "إيست ميد" الإسرائيلي القبرصي اليوناني بعدما تخلّت واشنطن عن دعمه، وانفتاح الطريق أمام سيناريوهات جديدة في مسائل التنقيب عن الطاقة واستخراجها ونقلها، وهي كلّها تهدّد مباشرة نفوذ إيران الغازي في المنطقة.
خامساً، يأتي التصعيد الإيراني أيضاً كردّة فعل على مساعي تركيا إلى إعادة هيكلة علاقاتها مع الدول العربية المؤثّرة في الإقليم، وبالذات مع مصر والسعودية والإمارات العربية، من
دون نسيان هاجس ارتدادات التقارب التركي الإسرائيلي على العلاقات التركية الإيرانية ومصالح طهران الإقليمية، خصوصاً بعد التحوّلات التي بدأت تنعكس سلباً على سياسات إيران في سوريا والعراق واليمن.
خارطة طريق جديدة
قال وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إنّ "بلاده وتركيا اتفقتا على إعداد خارطة طريق من أجل تأسيس تعاون بعيد المدى بطلب من الجانب الإيراني". لكنّ الحقائق والمؤشّرات على الأرض تقول أيضاً إنّ ملفّات الخلاف والتباعد أبعد من مسألة "احتباس غاز" إيراني، وإنّ هناك أكثر من خلاف سياسي مباشر مع أنقرة في العامين الأخيرين، بدءاً من أزمة قره باغ وجنوب القوقاز وإيقاف تركيا خلايا تجسّس إيرانية تطارد كوادر المعارضة الإيرانية في المدن التركية، وصولاً إلى أزمة شمال العراق وتحرّك الميليشيات العراقية المحسوبة على إيران للدفاع عن مجموعات حزب العمّال في سنجار، والقلق التركي من سياسة إيران في الملفّ الأفغاني التي دفعت أنقرة إلى تسريع بناء جدار عازل على طول الحدود المشتركة مع جارتها خوفاً من تدفّق اللاجئين الأفغان باتجاه أراضيها.
الرسالة الإيرانية الأخيرة نحو تركيا سببها أبعد من تراجع أرقام طلبات شراء الغاز الإيراني في الأعوام الأخيرة نتيجة قرار أنقرة البحث عن مصادر ودول أخرى للحصول على احتياجاتها. تتعلّق المسألة بانزعاج إيران من الانفتاح التركي الإقليمي، واحتمال أن يكون على حسابها، خصوصاً في موضوع توقيع اتفاقيات ترسيم حدود بحرية بين أنقرة والقاهرة من جهة، وأنقرة وتل أبيب من جهة أخرى، لتقاسم النفوذ على الطاقة في شرق المتوسط وتسهيل نقلها إلى أوروبا عبر تركيا.
-----------
اساس ميديا