عوامل داخلية
منذ آخر انهيار سجّله سعر صرف الليرة السورية بعد طرح البنك المركزي فئة خمسة آلاف ليرة من العملة الورقية، حيث خسرت نحو ٢٠ بالمئة من قيمتها، وانخفضت أمام الدولار من ٣ آلاف ليرة إلى ٣٣٥٠، في شباط/فبراير ٢٠٢١، لم تشهد الليرة أي تقلبات كبيرة بعد ذلك.ثبات سعر الصرف أدى بشكل أتوماتيكي إلى الحفاظ على معدَّلات التضخم عند مستوياتها المسجَّلة في تلك الفترة من السنة، وهو أمر يرى خبراء الاقتصاد أنه نتيجة طبيعة للعوامل التالية:
أولاً- توقف المعارك والعمليات العسكرية الكبيرة: فباستثناء بعض بؤر وفترات التوتر المحدودة، فإن جيش النظام وميليشياته لم يكن عليه خوض أي مواجهات تعتبر مكلفة اقتصادياً خلال هذا العام، الأمر الذي وفر على خزينته مدفوعات كبيرة كان يتطلبها تمويل مثل هذه المعارك طيلة الأعوام العشرة السابقة.
ثانياً- رفع الدعم عن الكثير من السلع والمواد الأساسية: لجأ النظام خلال العام المنصرم إلى سياسة الرفع التدريجي للدعم عن جزء كبير من المواد الغذائية، بالإضافة إلى عدم توفير السلع الأخرى التي بقيت على لائحة الدعم بشكل منتظِم، كما عمد إلى رفع أسعار المحروقات وحوامل الطاقة بنسبة 170 بالمئة، بالتوازي مع تخفيض حصة الفرد الواحد منها، ما وفّر على الخزينة كتلة كبيرة من العملة الصعبة.
ثالثاً- الاستفادة من فارق سعر صرف الحوالات الخارجية: شدّد النظام خلال النصف الأول من العام ٢٠٢١ إجراءاته الأمنية في سوق الحوالات الخارجية، وهي إجراءات كان قد بدأها في العام ٢٠٢٠ مع إقراره رفع سعر صرف الليرة الرسمي عدة مرات، ليبلغ ٢٨٥٠ مقابل الدولار، بعد أن كان محدداً بـ ١٢٥٠ عام ٢٠٢٠، ما مكّن النظام من تحقيق مكاسب كبيرة، خاصة مع التقديرات التي تشير إلى أن كتلة العملة الصعبة التي توفرها الحوالات الخارجية لا تقل عن مليار ونصف المليار دولار في العام.
رابعاً- الهيمنة على السوق الداخلية: بعد توجيه النظام ضربته القاضية لإمبراطورية رامي مخلوف الاقتصادية، مطلع العام ٢٠٢١، تفرّغت الأجهزة الأمنية لملاحقة بقية رؤوس الأموال المسيطرة على السوق، فعملت على الحجز على أموال الغالبية العظمى من التجار والصناعيين، وإخراجهم من السوق لصالح طبقة جديدة من رؤوس الأموال المرتبطة بشكل كامل بالنظام، مع منح هذه الطبقة السيطرة على قطاع الاستيراد والسوق الداخلية، الأمر الذي جعله يتحكم بشكل كامل تقريباً بدورة الاقتصاد المحلية، والهيمنة على الأرباح التي تنتج عنه
النظام أكبر المضاربين والمستفيدين من انخفاض سعر الليرة
وعليه، يرى الخبير الاقتصادي عبد الرحمن أنيس، أن النظام استطاع بذلك توفير أموال ضخمة وتمويل نفسه بما وفّره له التلاعب بأسعار الصرف الليرة السورية، بسبب انخفاض قيمتها لتمويل الموازنة مستفيداً من تلك الفروقات.ويضيف في حديثه لـ "أورينت نت": "لم يكن انخفاض سعر الصرف نتيجة السعي المفترض لضرب اقتصاد النظام، فهو من اتبع تلك السياسة النقدية بغية تمويل نهجه العسكري، والبنك المركزي اتخذ دور المُضارِب منذ بداية الثورة".
ويتابع أنيس: "تخلى النظام عن سياسة (الاقتصاد الاجتماعي) ليحل محلها اقتصاد الحرب، الذي يسخّر كل الإمكانات لتمويل منظومته العسكرية، ونلاحظ اليوم تكالب العائلة الحاكمة على النقاط المُدرّة للأرباح في السوق من جهة، والتي تجعله متحكّماً في أقوات الناس وحاجاتها الرئيسية من جهة أخرى، لتحقيق أكبر ما يمكن من مكاسب على حساب المواطن، فالنظام انتقل من موقع المُنفِق على الدولة والشعب إلى المتربِّح منهما، عبر سحبه كل الأموال التي ترد إلى سوريا بالعُملة الصعبة، مقابل حصر التداول بالليرة التي فقدت قيمتها وانهارت عملياً منذ سنوات.
عوامل خارجية
أنيس يرى أيضاً، أن المنظومة الاقتصادية السورية لم تتضرر فقط، بل وشُلَّت بسبب الحرب التي يشنّها النظام على الشعب، حتى منذ ما قبل الثورة، إلا أن الدعم الذي وفره حلفاؤه ساهم بتماسكه حتى الآن.ويتفق الكثير من المحللين مع هذه الرؤية، حيث لعبت العوامل الخارجية دوراً مهماً في مدّ النظام بالعُملة الصعبة، ليس فقط عبر حليفتيه الرئيسيتين إيران وروسيا، بل ومن خلال منافذ أخرى لا تقل أهمية.
أولاً- الكتلة النقدية التي تضخها المنظمات الدولية: تعتبر الرواتب والمصاريف ومخصصات تمويل المشاريع والمساعدات التي توفّرها المنظمات الدولية العاملة في مناطق سيطرة النظام، أحد مصادر الدخل الرئيسية من العملة الصعبة بالنسبة له.
ثانياً-تجارة المخدِّرات: على الرغم من الإعلان بشكل مستمر عن مصادرة شِحنات من المخدرات المنتَجة في سوريا، من قبل الدول الأخرى، إلا أن ما بات متفَقاً عليه هو أن الكميات التي ينجح النظام في تصريفها أكبر بكثير من تلك التي يتم الكشف عنها، ما وفّر له أموالاً طائلة، إلى حد دفع الكونغرس الأمريكي لمناقشة قوانين تتعلق بمواجهة هذه الظاهرة.
ثالثاً- التراخي الأمريكي والدولي في تطبيق العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام: رغم أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الغربية على النظام لا تشمل المواد الطبية والسلع الغذائية والإنسانية، إلا أن عام ٢٠٢١ شهد تراجعاً مؤكَّداً في تطبيق العقوبات المفروضة على القطاعات الأخرى التي تعتبر وارداتها مموِّلاً لأعمال النظام الإجرامية، ويأتي على رأس أسباب ذلك سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة التي يقودها الرئيس جو بايدن.
ومنذ وصول الأخير إلى البيت الأبيض مطلع العام الحالي، اعتمدت واشنطن سياسة التغاضي عن عمليات التطبيع وتقديم المساعدات التي قامت بها بعض الدول تجاه النظام، الأمر الذي جعل العديد من النواب والمسؤولين والصحفيين الأمريكيين يتهمون إدارة بايدن بخرق قانون العقوبات "قيصر"، والتراخي في تطبيق مجمل العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه.
أمر يؤكده السياسي والإعلامي السوري المقيم في أمريكا أيمن عبد النور، الذي يقول: "إن الإدارة الأمريكية لا ترغب في أي سقوط غير منضبِط للنظام خشية انهيار ما تبقى من مؤسسات، وحدوث المزيد من الفوضى، كما ترى أنها بذلك تحاول التخفيف من آثار العقوبات على المواطن العادي في سوريا".
ويتابع في حديثه لـ"أورينت نت": "بمرور الوقت يتحلل النظام من المزيد من المسؤوليات تجاه المواطنين المقيمين في مناطق سيطرته، الذين باتوا يعتمدون بشكل شبه كامل على المساعدات التي تقدّمها المنظمات الدولية أو المؤسسات الخيرية، كما استغل أزمة كورونا لاستجلاب تعاطف دولي مع فكرة التسامح في تطبيق العقوبات".
هذا الجانب دفع الإدارة الأمريكية، كما يقول عبد النور، إلى القبول بتقديم بعض الدول قدراً معيناً من المساعدات خلال العام ٢٠٢١، كما إنها وافقت على مشاريع كبيرة مثل خط الغاز العربي، إلا أن المقاومة التي يواجَه بها هذا المشروع من قبل الكونغرس، بمساعٍ من الجالية السورية في أمريكا، منع توفير الغطاء القانوني له حتى الآن.
إلا أن "عبد النور" ينبّه إلى أن الولايات المتحدة باتت مقتنعة اليوم بشكل أكبر "أن نظام أسد غير معنيّ بالمأساة التي يعيشها السوريون، بل يعمل على الاستفادة من أي فرصة لزيادة مكاسبها السياسية على حساب الشعب، ومع عجز حليفته روسيا عن ممارسة أي ضغط عليه، وفشلها المتزايد في الملف السوري، فمن المتوقع عودة واشنطن إلى رفع وتيرة التصعيد والتشدد في فرض وتطبيق العقوبات على النظام، لكن ليس إلى حد السماح بانهياره".
ويشدد على أن توقيت سقوط النظام (إذا ما حدث) يجب أن يكون، من وجهة نظر أمريكيّة، مضبوطاً ومتوافَقاً عليه مع جميع الشركاء والقوى المتداخلة في الملف السوري، بما في ذلك روسيا وتركيا والدول العربية وإسرائيل، ولذلك فإن واشنطن سمحت حتى الآن بتمرير قدر معيّن من المساعدات والشحنات، سواء عن طريق بعض الدول أو من خلال مناطق "قسد"، وكذلك عبر سياسة غض النظر عن طرق التهريب مع لبنان والعراق وغير ذلك.
-----------
اورينت نت