لم يتهاون النظام تاريخيا مع معارضيه، حتى في ظل انعزالهم ويأسهم ذاك، فمارس الاعتقال طويل الأمد، والتعذيب والتضييقين، المهني والأسري، الأمر الذي جعل تكلفة معارضة النظام باهظة جدا، وذات تأثيراتٍ شبه غائبة، ما دفع المعارضين إلى اليأس والإحباط. الأمر الذي غذّى الأفكار العاجزة في المرحلة بين أحداث الثمانينات والثورة السورية، التي تراهن على التغيير من دون نضالها عبر أحد احتمالين لا ثالث لهما، الأول عبر الإصلاح الداخلي الذي تفرضه تناقضات النظام الداخلية والصراعات أو التوازنات بين مكوناته ومراكز قوته. والثاني عبر الإملاءات الخارجية التي تفرض على النظام ضرورة الإصلاح السياسي.
تسهل ملاحظة إسقاط دور الشارع أو الكتلة الاجتماعية السورية من حسابات المعارضة في تغيير النظام أو إصلاحه، فالشارع وفقهم مفكّك ومتباعد ومتخلف، وغير معني بالتغيير، وربما متناقض وغارق في مشكلاته اليومية المعيشية. وفي المحصلة، الشارع عاجز عن قيادة مشروع التغيير أو حتى المساهمة به، زد على ذلك قوة النظام الأمنية والعسكرية الضاربة. لذا راهنت المعارضة أو غالبيتها على فرض التغيير قسريا عبر الدعم الخارجي، سيما في المرحلة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، معتقدين أن عولمة المفاهيم سوف تُرغم النظم الاستبدادية، ومنها النظام في سورية، على التغيير الجذري أو المتدرج.
تكرر قوى المعارضة الأخطاء نفسها، وإنْ بلبوسٍ مختلف قليلا
أثبتت الأيام اللاحقة استحالة التغيير الخارجي، فالمجتمع الدولي غير معنيٍّ بطبيعة الحكم وشكله، مقابل اهتمامه بمراكمة أرباحه الآتية من استثماراته المباشرة أو غير المباشرة في العالم، ومنها الدول المستبدّة. وهنا لعب النظام السوري دور الضامن لهذه المصالح، وبالتالي، ضمن استمراريته كما هو، من دون أي تعديل أو تغيير أو إصلاح. استمرّ الوضع كذلك حتى اندلاع الثورة السورية، الثورة التي قلبت المعادلات، وكادت تعصف بأفكار المعارضة التقليدية، حيث بات الشارع جزءا من المعادلة السياسية، بل هو المعادلة بعينها، فوجدت المعارضة التقليدية نفسها؛ المنظمة والفردية؛ أمام أزمة فكرية استعصت عليها، وغالبا هربت منها. تتمحور الأزمة حول رؤيتها إلى كيفية التغيير في سورية، هل عبر الرهان على قوى الحراك الشعبي؟ وهو ما يتطلب العمل على تمكين الشارع وتنظيمه، أم من خلال السبل ذاتها التي راهنت عليها قبل الثورة، أي عبر التغيير من داخل النظام أو بفعل الضغط الخارجي.
استسهلت المعارضة حل أزمتها الفكرية، أو بالأصحّ هربت منها، واستساغت الركون لفكرها التقليدي، أي تشبثت المعارضة التقليدية بأفكارها ذاتها، رغم ثبوت فشلها عمليا، فأهملت الحراك الشعبي، واعتبرته مجرّد وسيلة لاستقدام التدخل الخارجي أو ذريعة لتصاعد الصراعات بين مكونات ومراكز قوة النظام، وبالتالي استمرّت في الرهان على التغيير من داخل النظام؛ الرهان على فاروق الشرع مثلا؛ أو عبر تدخل خارجي أميركي، خصوصا، وأحيانا تركي أو فرنسي.
المجتمع الدولي غير معنيٍّ بطبيعة الحكم وشكله، مقابل اهتمامه بمراكمة أرباحه الآتية من استثماراته المباشرة أو غير المباشرة في العالم
مرة أخرى، فشلت رهانات المعارضة، فالتغيير بفعل الضغط الخارجي غير واقعي وفق التجربة السورية على الأقل، والتغيير بفعل تناقضات النظام الداخلية توصيفٌ غير دقيق، لا يعكس مجمل العملية، فهو نتيجة لاحقة لجملة من التناقضات الحاصلة والمتفاعلة خارج بنية النظام ذاته، مثل احتدام الصراع الدولي على سورية. وفي هذه الحالة، غالبا ما ينحصر التغيير باستبدال شكلي يحافظ على شكل الحكم وبنيته وطبيعته، أو كانعكاس لتناقضات اجتماعية داخلية. وفي هذه الحالة، هو محصلة تصاعد حدّة النضال الشعبي ونجاحه في محاصرة النظام ومصالح مكوّناته، الأمر الذي يدفع جزءا من قوى النظام إلى الانقلاب على تحالف المنظومة المسيطرة، بغرض إحداث تغييراتٍ قد ترضي الشارع المنتفض وينجيها من قصاصه. وعليه، يتطلب تحقيق ذلك تمكين الشارع وتنظيمه وتطوير بناه التنظيمية والتمثيلية، وهو ما أهملته وما زالت تهمله المعارضة.
يبدو من التدقيق في توجهات المعارضة في الوقت الراهن أنها تكرّر الأخطاء نفسها، وإنْ بلبوسٍ مختلف قليلا، رغم نتائج هذه الممارسة السلبية التي تضخّمت حتى ساهمت في إحداث قطيعة بين المعارضتين، التاريخية النخبوية والعفوية الشعبية، إذ لم يتمكّن الشارع من الاستفادة من تجارب المعارضة التاريخية ومن مراكمة تجاربها ودروسها، كما لم تستفد المعارضة التقليدية من حيوية الشارع ونضاله، فخاض الشارع نضاله وحيدا وبشكل عفوي، وساهم انعزال المعارضة وهجرتها الحراك الشعبي في تمكين قوى متعدّدة داخلية وخارجية من محاصرة الشارع وتطويقه وحرف حراكه، وصولا إلى قمعه، فانحسر النضال الشعبي، وغابت قواه التنظيمية ولو البسيطة سريعا. حتى وصلنا إلى الوضع الراهن الذي يشبه وضع سورية السابق للثورة من حيث هي دولة ومجتمع محكوم من نظام أمني وكتلة اجتماعية محاصرة ومكبّلة ومضبوطة ومعارضة نخبوية تراهن على إمكانات التغيير الخارجي، ولا تضع الشارع في حساباتها الراهنة والمستقبلية.
قوى الاحتلال لا تسعى إلى إحداث تغيير حقيقي أو حتى شكلي، بل تكرّس الانقسام المجتمعي وتعزّز قوى الاستبداد
لقد ازداد الوضع السوري سوءا بحكم تحوّل هذه الظاهرة السلبية إلى حالة عامة، تسود في الوسط المعارض السابق للثورة وللاحق لها، حيث نشهد في السنوات الماضية تنامي عدد الأصوات التي تستبعد دور الكتلة الاجتماعية السورية، لصالح الرهان على مسار التفاوض الدولي مخرجا وحيدا للتغيير، على اعتبار العمل السياسي نخبويا، والسياسة فن الممكن والتفاوض جوهره، فالواقع، وفقا لهم، يشير إلى حتمية الحل عبر توافق دولي، لا سيما بعد تقاسم سورية بين احتلالات متعدّدة، حيث يتناسى هؤلاء أن قوى الاحتلال لا تسعى إلى إحداث تغيير حقيقي أو حتى شكلي، بل على العكس تكرّس الانقسام المجتمعي وتعزّز قوى الاستبداد على المستويين، المناطقي والوطني. كما يتجاهلون جوهر العمل السياسي الكامن في تهيئة الحد الأدنى من المناخ السياسي والثقافي الموائم للنضال الشعبي، عبر التحريض والتعبئة والتحشيد، أي على اعتباره نضالا من أسفل إلى أعلى، لا العكس. وعليه، نحن اليوم أمام الإشكالات السائدة ذاتها في الوسط المعارض، بداية من التشبث بوهم التغيير الخارجي، وصولا إلى النفور من العمل الجماهيري أو اليأس من قدراته، الأمر الذي يفرض على الشارع خوض صراعه وحيدا في المستقبل المنظور
----------
العربي الجديد
.