عندما يتحدث الغربيون عموما وخاصة الأميركان عن العالم فأنهم يقصدون أنفسهم بالدرجة الأولى.. أما نحن العرب و"شعوب العالم الثالث"، وشعوب أخرى غير عربية، فأننا ننظر إلى العالم ككل ونحن جزء منه خاصة أن "شعوب العالم الثالث" هي أكثر عددا بكثير من كل شعوب الولايات المتحدة وأوربا وحليفاتهما مثل كندا واستراليا ونيوزلندة.
وقبل أيام كان لي حديث مع صحفي أوربي عن هذا الموضوع .. وقد قلت له .. إذا وجهت هذا السؤال إلى رجل الشارع في أميركا فربما يقول لك نعم وكذلك في لندن أو في عواصم أوربية أخرى.. ولكن إذا وجهت هذا السؤال إلى رجل الشارع في الصين أو الهند وفيهما أكثر من ملياري إنسان فأن الجواب سيكون مختلفا؟!
ما الذي تغير إذاً وما الذي لم يتغير؟!
أن الحياة بكل أوجهها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية لم تتغير في الصين والهند ونيجيريا والبرازيل وفي العديد من "دول العالم الثالث". فالحياة هي .. هي … والناس في هذه البلدان شاهدوا ما جرى في أميركا في 11 من أيلول على التلفزيون ويشاهدون ما يجري في أفغانستان ولكن هذه الأحداث لم تغير من حياتهم ما هو جوهري.
إن قضايا الفقر والتخلف وهموم التنمية ومشاكلها وانتشار الأمراض الخطيرة كالايدز بقيت كما هي في كل أنحاء العالم خاصة في "العالم الثالث".. وفي العالم نزاعات ومشاكل إقليمية ومحلية عديدة.. لا تزال كما هي.
قبل أحداث 11 من أيلول كان حكام أميركا والطبقة السياسية فيها وحكام أوربا يتحدثون عن برنامج عالمي (أجندة) فيه، أميركياً مشروع الدرع المضاد للصواريخ وعالميا قضايا مثل البيئة ومكافحة الايدز ، والعولمة والتجارة الحرة، وغيرها من القضايا التي عقدت بشأنها اجتماعات دولية عديدة كثير منها على مستوى القمة وتحت علم الأمم المتحدة.. غير أن الرئيس الأميركي بوش حدد لبلاده، وبالتالي للعالم بعد أحداث أيلول، هدفا وضعه في أول سلم الأولويات وهو ما أسماه بـ"الحرب ضد الإرهاب" وقال "أن هذه الحرب ستستمر لعشر سنوات" وبذلك غير البرنامج (الأجندة) الدولي هكذا في لحظة واحدة.!
ولكن إلى أي مدى تغيرت وستتغير، في الواقع، أوضاع واهتمامات دول العالم؟ وما هي المتغيرات التي حصلت فعلا بعد أحداث 11 من أيلول؟!
أن تطورا ملحوظا قد حصل في عدد من بلدان الشرق وهي بالتحديد روسيا والهند والصين وباكستان وأفغانستان، أن أفغانستان تتعرض الآن إلى عدوان أميركي شامل ولا يعرف مصيرها وباكستان خضعت لإرادة أميركا في تسهيل مهمة ضرب أفغانستان الحليفة السابقة ولا يعرف إلى أين سيؤدي هذا الخيار.!
أما الهند وروسيا والصين فقد أيدت أميركا في حملتها ضد ما أسمته بـ"الإرهاب" وهذا تغيير مهم.. ولكن ما هي أسبابه وإلى متى سيستمر هذا الموقف الذي اتخذته هذه الدول الثلاث؟
يظن بعضهم أن هذا التلاقي بين هذه الدول الثلاث المهمة (روسيا والصين والهند) وبين أميركا بشأن ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب سيؤدي إلى خلق توازنات عالمية جديدة لم تكن متوقعة قبل أحداث أيلول.
غير أنني أعتقد أن هذا الافتراض متسرع بل وخاطئ.. إن هذه الدول الثلاث، وإن كانت قد سايرت أميركا في بعض جوانب حملتها ضد ما أسمته بـ"الحرب ضد الإرهاب" ومن ذلك الحملة العسكرية على أفغانستان. فقد فعلت ذلك لأسباب وأهداف تختلف عن الأسباب والأهداف الأميركية. إن هذه الدول تعاني مشاكل داخلية كانت تسميها في السابق (إرهابا). فروسيا تعاني التمرد في الشيشان الذي أسمته دائما بـ"الإرهاب"، والصين تعاني، ولو بدرجة أقل بعض مشاكل العرقيات الإسلامية ومن نشاط منظمة (الوالون دونغ) والتي تطلق عليها صفة الإرهاب، أما الهند فلديها مشكلة جدية ومستديمة منذ عدة عقود في كشمير.. وتسميها هي أيضا إرهابا.
إن هذا هو السبب الأول لركوب هذه الدول الموجه الأميركية المسماة بالحرب ضد الإرهاب.. ففي ظل هذه الموجة وحاجة أميركا إليها يمكن لحكومات هذه الدول أن تتصرف بقدر أكبر من الشدة والحرية ضد خصومها المحليين بعد أن كانت تواجه انتقادات وضغوطا أميركية وأوربية حادة إزاء تصرفاتها المتشددة ضدهم تحت لافتة حقوق الإنسان والديمقراطية.
ومن الحقائق المهمة التي تفسر مواقف هذه الدول الثلاث أن نظام طالبان في أفغانستان لم يكن صديقا لأي منها.. بل كان في الواقع عدوا لها.. وهي، من الناحية البراغماتية، لا تخسر شيئا عندما تؤدي الحملة العسكرية الأميركية على أفغانستان إلى تغيير هذا النظام ومجيء حكومة أخرى قد يكون لأي من الدول الثلاث شيء من النفوذ فيها بعد أن كانت أفغانستان مغلقة عليها تماما في ظل نظام طالبان بل ومصدر إزعاج وتهديد لها.
لذلك.. ونحن نلاحظ، هذا التغيير في المسرح الدولي في الشرق علينا أن نلاحظ الأسباب، وإذا كان الرئيس الأميركي بوش سيواصل حملته المسماة الحرب ضد الإرهاب لعشر سنوات قادمة كما قال بعد أحداث ايلول.. فأنه لا يستطيع بالتأكيد بعد انتهاء الحملة على أفغانستان أن يفرض هذه الأولوية على هذه الدول الثلاث المهمة (روسيا والصين والهند) خاصة إذا ما اختار أهدافا أخرى للحملة الأميركية، فاشتراك هذه الدول الثلاث في هذه الحملة هو اشتراك مؤقت ومحدود في حالة أفغانستان ولا يمكن لها استنادا إلى مصالحها الوطنية وعلاقاتها واهتماماتها الأخرى أن تشارك أميركا في أهداف أخرى تختارها الإدارة الأميركية من (أجندتها) الخاصة.
أما في بقية بلدان الشرق وباستثناء إيران التي أدت دورا ما في أحداث أفغانستان فأن أي شيء لم يتغير في اندونيسيا وماليزيا وسريلانكا وكوريا ودول أخرى في الشرق ومنها اليابان.
وفي أميركا اللاتينية التي لم يكن لدولها أي شأن في الأحداث التي أعقبت 11 من أيلول لم يتغير شيء، وكذلك في أفريقيا عدا الصومال التي قد تكون هدفا لأميركا.. وفي أوربا الشرقية التي لا تزال دولها تبحث عن هوية ودور وانتماء بدون قدر ملموس من النجاح لم يتغير شيء.
غير أن الوضع في أوربا الغربية يختلف. لقد انضمت أوربا الغربية للحملة الأميركية.. وشاركت بعض دولها بقدر أو بآخر فيها عسكريا وفي الميادين الأخرى. أن هذه الدول هي حليفة لأميركا في إطار الحلف الأطلسي.. ولا يمكنها أن تبقى على الحياد، تماما، في حملة كهذه تقودها أميركا خاصة وأن دول أوربا الغربية تلتقي مع أميركا، في الموقف والمفاهيم بشأن ما يسمى بالإرهاب، غير أن موقف هذه الدول من كل عناصر وأبعاد الحملة الأميركية ليس مطابقا تماما للموقف الأميركي.
أن هذه الدول لا يمكن أن تقبل بسهولة بأن تكون الحملة ضد ما تسميه أميركا بالإرهاب القضية الأولى بالنسبة لها ، للعشرة أعوام القادمة لأن لها اهتمامات خاصة بها تريد العمل والتركيز عليها كما أن هذه الدول لا ترغب في أن تجرها أميركا إلى أهداف أخرى غير أفغانستان، وكما هو حال روسيا والصين والهند فأن دول أوربا الغربية لم تكن لديها مصالح في أفغانستان ولم تكن علاقاتها مع نظام طالبان جيدة بل كانت في الواقع سيئة جدا. لذلك فأن الحملة على أفغانستان والمشاركة مع أميركا في هذه الحملة لا تكلف دول أوربا الغربية خسائر باهظة سياسيا واقتصاديا في حين سيختلف الأمر تماما إذا ما أرادت أميركا توسيع حملتها إلى أهداف أخرى.. فلدول أوروبا الغربية علاقات ومصالح مع كثير من الدول التي يمكن لأميركا، لأسباب خاصة بها، أن تستهدفها في حملتها.
إن النزعة العسكرية الأميركية التي بلغت درجة عالية من الهوس في الحرب على أفغانستان وارتفاع الأصوات الهستيرية في المؤسسة العسكرية الأميركية وفي أوساط الكونغرس واللوبي الصهيوني لاستهداف دول أخرى تخلق لروسيا والصين ولدول أوربا الغربية والعديد من دول العالم مخاوف جدية.
لقد شنت أميركا في الماضي حروبا عديدة.. غير أن الاثنتي عشرة سنة الأخيرة منذ عام 1989 وحتى الآن شهدت تزايدا خطيرا في النزعة العسكرية الأميركية وفي عدد الحروب التي شنتها الولايات المتحدة ففي الأربعينات شاركت أميركا مع حلفاء عديدين في الحرب العالمية الثانية، وفي الخمسينات شنت أميركا حربا واحدة على كوريا الشمالية، وفي الستينات والسبعينات شنت أيضا حربا واحدة على فيتنام، وفي الثمانينات قامت بعدوان عسكري محدود على جامايكا، أما في عام 1989 والمرحلة اللاحقة في التسعينات وفي بداية هذا القرن فقد شنت أميركا عدوانا على بنما عام 1989.. ثم على العراق في عام 1991 وواصلت هذا العدوان حتى الآن. وفي العام 1998 أغارت على السودان وأفغانستان وفي عام 1999 شنت مع حلفائها في الحلف الأطلسي عدوانا شاملا على يوغسلافيا والآن تشن الحرب على أفغانستان وتهدد بعمليات عسكرية على بلدان أخرى.
إن هذا التصاعد الخطير في النزعة العسكرية الأميركية وفي عدد الحروب التي شنتها أميركا بعد انحلال الاتحاد السوفيتي وغياب قوة عسكرية توازن، على الصعيد الدولي، القوة العسكرية الأميركية يخلق وضعا عالميا جديدا يثير التحسب بل المخاوف لدى الكثير من الدول.
كما أن التطور التقني الذي استعرضته أميركا في هذه الحروب لا بد أن ينبه روسيا والصين ودول أوربا الغربية إلى خطورة استمرار الفارق الكبير بين قدراتها العسكرية هي.. وقدرات أميركا. إن هذا النوع من التحسب يقل في الظروف التي لا تستعرض فيها أميركا قوتها العسكرية بشكل صارخ.. إذ يتصور القادة في الدول الأخرى، أن هذه القدرة الأميركية المعروفة أصلا لديهم ليست في وارد الاستخدام ما دام العمل السياسي والدبلوماسي هو السائد.. غير أن الأمر يختلف عندما تشن الحرب وتتصاعد النزعة العسكرية !!.. وفي تقديري أن هذا من العوامل التي ستدفع روسيا والصين إن عاجلا أو آجلا إلى السعي لتطوير ترسانتها العسكرية تحت ضغط المؤسسة العسكرية فيهما.. وتحت ضغط القوى الوطنية التي تتحسب من اعمال اميركية قد تستهدفهما.. فالصين التي تسعى إلى استعادة تايوان وهي بالنسبة لها هدف مركزي لا يمكن أن تنظر بارتياح إلى هذا التطور في الأسلحة الأميركية التقليدية التي ستكون هي الأسلحة المستخدمة في حالة نشوب نزاع عسكري بشأن تايوان، وكذلك روسيا التي تعاني مشاكل داخلية ومشاكل مع عدد من الجمهوريات التي انسلخت عن الاتحاد السوفيتي.. كما أن الدول الأوربية التي تسعى إلى بناء قوة ذاتية فيها قدر من الاستقلال عن القوة الأميركية في إطار الحلف الأطلسي ستأخذ هذا العامل في الحسبان في برامجها التسليحية في المرحلة القادمة.
إن اتجاه روسيا والصين ودول أوربا الغربية ودول أخرى تخشى من التهديد الأميركي إلى تطوير ترساناتها العسكرية سيؤدي إلى تقليص الفجوة في القدرات العسكرية بين هذه الدول منفردة ومجتمعة وبين أميركا.. فإذا كان هذا من المتغيرات التي أدت إليها أحداث أيلول وما بعدها في المسرح الدولي فأنه من المتغيرات الايجابية عالميا والسلبية على أميركا في الأمدين المتوسط والبعيد!!
وإذا أصرت الإدارة الأميركية على فرض (أجندتها) الخاصة بعد انتهاء العدوان على أفغانستان أو خلاله، فأن دول العالم ومنها الدول الشرقية الثلاث وبعض دول أوربا الغربية لا يمكن أن تستمر في مسايرة أميركا كما سايرتها في الحملة على أفغانستان مما سيؤدي إلى مزيد من التناقض بين هذه الدول وبين أميركا وإلى مزيد من العزلة لأميركا.
ومهما كان التأثير الدرامي لأحداث 11 من أيلول كبيرا على المواقف التي اتخذتها دول عديدة وخاصة في أوربا حتى الآن فأن هذا التأثير سيتلاشى مع الزمن وستقل قدرة أميركا على ممارسة الابتزاز والضغط على هذه الدول لجرها إلى (أجندتها) الخاصة بما أسمته بالحرب ضد الإرهاب.
وفي الوطن العربي تتأكد بعد أحداث 11 من أيلول بصورة لا تقبل اللبس حقائق التحالف الأميركي والشراكة مع الكيان الصهيوني.
ففي الوقت الذي تبلغ فيه النزعة العسكرية الأميركية ذروتها تبلغ النزعة العسكرية الصهيونية ذروتها أيضا في القصف والتدمير والتهديد العسكري اليومي الذي يمارسه الكيان الصهيوني في فلسطين.
وهذا التصعيد في النزعة العسكرية الصهيونية وتواطؤ أميركا مع الكيان الصهيوني يخلق وضعا حرجا للأنظمة العربية التي تعد نفسها من حلفاء أو أصدقاء أميركا.
لقد مرت هذه الأنظمة في ظروف سابقة بحالات من الحرج بسبب السياسات الأميركية العدوانية وتحالف أميركا الوثيق مع الكيان الصهيوني، غير أن تلك الظروف كانت نسبيا قصيرة الأمد لأيام أو أسابيع عادت بعدها أميركا إلى ممارسة سياسات التمويه والخداع التي تقبلتها تلك الأنظمة كما حصل بعد العدوان الغاشم على العراق في عام 1991 ودعوة أميركا لمؤتمر مدريد وإطلاق ما سمي زورا بعملية السلام.
غير أن إخفاق هذه العملية البائسة والمخادعة واتضاح حقيقة الموقف الأميركي في اجتماع كامب ديفيد في أب 2000 وفي عهد الإدارة الحالية في أن أميركا غير مستعدة للضغط على الكيان الصهيوني لإعطاء السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية التي راهنت على الدور الأميركي رهانا كاملا أي شيء يمكن أن يخفف عنها الحرج وضع هذه الأنظمة في ظرف صعب ليست له نهاية منظورة.. إذ ليس هناك في الأفق مناورة أميركية، كما حصل في عام 1991، يمكن أن تخفف من هذا الحرج وما يخلقه من توتر بينها وبين أميركا وإن كان حتى الآن خفياً أكثر منه معلناً.
كما أن الترافق بين تصاعد النزعة العسكرية الأميركية والنزعة العسكرية الصهيونية في ظروف ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب.. وكون الأهداف التي تستهدفها أميركا حاليا في الحملة على ما يسمى بالإرهاب في أفغانستان وغيرها والعدوان الصهيوني المتواصل على فلسطين هي أهداف مسلمة وعربية يزيد هذا الحرج تفاقما.
إن استمرار هذا الوضع وقد استمر بفضل الانتفاضة الفلسطينية أكثر من عام بشكل متواصل وتفاقمه بعد أحداث 11 من أيلول والحرب على أفغانستان جعل الأنظمة العربية الحليفة والصديقة لأميركا في أضعف حالاتها ولم يعد لهذه الأنظمة خطاب سياسي مؤثر حتى ولو كان بالخداع كما نجحت نسبيا في مراحل سابقة. بل أنها تبدو الآن عارية وعاجزة أمام الجماهير في بلدانها مما يطرح تساؤلات جدية بشأن مستقبلها ومصير علاقتها بشعوبها!! وهذا تغيير غير اعتيادي حصل بعد أحداث 11 من أيلول وان لم تظهر كل أبعاده ونتائجه حتى الآن.
وعلى صعيد آخر.. فأن الانتفاضة الفلسطينية وأحداث 11 من أيلول في أميركا كشفت إحياء أنماط من أساليب التصدي لأميركا والكيان الصهيوني كانت قد اختفت أو تضاءلت منذ عقدين من الزمن.
وإذا كانت هذه الأنماط في حالتي الانتفاضة وأحداث 11 من أيلول قد مورست من قبل عناصر إسلامية وعربية فأن هذه الأنماط لم تكن في السابق مقتصرة على العرب والمسلمين ففي مرحلة الستينات والسبعينات كان هناك "الألوية الحمراء" في ايطاليا، و"منظمة بادر ماينهوف" في ألمانيا، و"الجيش الأحمر" في اليابان، ومنظمات عديدة أخرى أصغر حجما في بلدان لم يكن من بينها بلد عربي أو إسلامي، وقد مارست وسائل عنيفة وجريئة في عملياتها.. وإذا تذكرنا حوادث متفرقة في أميركا نفسها خلال عقد التسعينات مثل المجزرة التي تمت في عام 1994 في (مزرعة واكو) و(عملية برج مركز التجارة العالمي في نيويورك) في عام 1993 و(عملية اوكلاهوما) في عام 1995 وتزايد عدد المليشيات المسلحة في أميركا، فأن هذه النزعة موجودة الآن حتى في أميركا نفسها، ولدى مواطنين أميركان من البيض والمسيحيين. ونلحظ أيضا إلى جانب وجود هذه الأنماط في أميركا وجود تيارات شعبية أميركية وأوربية تعبر عن معارضتها للنظام العالمي الأميركي وعناصره الامبريالية كالعولمة بأساليب فيها قدر بارز من العنف كما حصل في التظاهرات العارمة في سياتل في أميركا عام 1999 وفي سويسرا عام 1998.. وفي جنوا في ايطاليا عام 2001 وفي السويد حتى بات صعبا على قيادات الدول الغربية وممثليها أن تعقد اجتماعات موسعة في العواصم والمدن التي كانت تعقد فيها اجتماعاتها في السابق في أجواء احتفالية مملوءة بالزهو والثقة بالنفس.
إن هذه الظواهر كانت موجودة قبل أحداث 11 من أيلول، ويمكن الاستنتاج أن أحداث 11 من أيلول وقبلها ما حدث في اوكلاهوما في أميركا نفسها، والانتفاضة الفلسطينية هي نتائج لأسباب بعضها مشترك مع هذه الظواهر التي نشأت من جديد في عقد التسعينات وتزايدت في الوقت الحاضر. ومن الملاحظ أن عدد الرجال الذين يختارون الموت، المحتوم سلفا في الأعمال التي يعتزمون القيام بها، من أجل إلحاق الأذى بأميركا والكيان الصهيوني هو أكثر بكثير مما كان عليه في كل المراحل السابقة.
وعندما تواجه هذه الظواهر الخطيرة بأعلى درجات الهوس العسكري العدواني والتحلل من الضوابط الأخلاقية والقانونية والتي كانت أميركا نفسها والدول الغربية من دعاتها ومؤسسيها كما يجري الآن، فأن هذه الظواهر مرشحة لمزيد من التصاعد والتفاقم.. فالذين يختارون الموت من أجل إلحاق الأذى بأميركا والكيان الصهيوني لا ترهبهم النزعة العسكرية العدوانية الأميركية التي ترهب الأنظمة والحكام المترفين الذين يبحثون عن الهدوء والطمأنينة.
وكما شخص ذلك الرئيس صدام حسين في الرسائل التي وجهها إلى الشعوب الأميركية والأوربية بعد أحداث 11 من أيلول فأن هذه الظواهر تعبر عن الكره المتزايد بين شعوب العالم لأميركا وسياستها الامبريالية المتغطرسة والظالمة التي تمارسها على نطاق واسع منذ أن أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم.. وهو ما تنبأ به الرئيس صدام حسين منذ عام 1990 وقبل انهيار الاتحاد السوفيتي في خطابه الشهير في قمة مجلس التعاون العربي في عمان في شهر شباط من ذلك العام.
إن اتساع الغضب والكره للسياسة الأميركية في داخل أميركا وفي العالم .. وتصاعد الاستعداد لإلحاق الأذى بأميركا من داخلها ومن خارجها تغيير مهم لغير صالح المؤسسة الحاكمة في أميركا ولأهدافها وممارساتها الامبريالية والعدوانية.
وفي الجانب الاقتصادي وقعت أحداث 11 من أيلول في أميركا في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد الأميركي والعالمي يمر بمرحلة تراجع لم تكن أبعادها قد اتضحت بعد. ومن الواضح تماما أن هذه الأحداث أسهمت إسهاما أكيدا في تفاقم هذا التراجع وكشفت بدلائل لا يمكن للمؤسسة الحاكمة في أميركا التغطية عليها.. ففي أميركا التي كانت إدارة كلنتون قد نجحت في إنهاء العجز في الميزانية وحققت وفرا مهما فيها تبخر هذا الوفر خلال أسابيع لتغطية الخسائر الباهظة الناتجة عن أحداث 11 من أيلول والتي لم تحسب بعد بصورة كاملة حتى الآن، كما راحت الإدارة الأميركية تنفق أموالا أكثر بكثير مما كانت تنفقه في السابق على متطلبات الأمن الداخلي التي تشعبت ولا تزال تتشعب في جو الهوس المحموم الذي تعيشه أميركا.. وقد أدى استمرار هذا الهوس الذي تقوده وتؤججه وتزيد في أسبابه الإدارة الحالية نفسها إلى تغيير ملموس في أنماط الحياة في الولايات المتحدة وبالتالي إلى نتائج اقتصادية سلبية أخرى وخاصة ضعف الثقة لدى المواطن الأميركي وبالتالي تقليل مستوى إنفاقه والخسائر الباهظة في قطاع الطيران والسياحة والخدمات مما يؤدي أيضا إلى زيادة البطالة.. كما أدى وسيؤدي الإنفاق المتزايد على المتطلبات العسكرية والأمنية في أميركا إلى تقليص الإنفاق على الجوانب الاجتماعية كالصحة والتعليم وإصلاح الخدمات التالفة فضلا على الأثقال المالية والاقتصادية التي سيطلبها منها حلفاؤها في هذه الحملة . وبذلك تبدأ دورة اقتصادية عكسية لا يعرف مداها، سوى أنه سيكون سلبيا وقاتما بدون شك.
وينعكس هذا الوضع السلبي والقاتم في الاقتصاد الأميركي على الأوضاع الاقتصادية العالمية وبشكل خاص على أوربا الغربية التي لا تزال الشريط الاقتصادي الأول للولايات المتحدة كما سيزيد هذا الوضع من تفاقم الأوضاع الاقتصادية في بلدان مهمة في أميركا اللاتينية كالبرازيل والأرجنتين والمكسيك التي كانت حكوماتها تراهن دائما على أميركا والصناديق الدولية التي تهيمن عليها في إلقاء شبكات إنقاذ لها بين الحين والآخر لمواجهة أزمات اقتصادية ونقدية تتعرض إليها.
ومع التصاعد المستمر في النفقات العسكرية الأميركية وفي النفقات العسكرية في أوربا الغربية ودول عديدة أخرى فأن آفاق النمو الاقتصادي في أميركا وأوربا الغربية وكل الدول المتأثرة بهذه التطورات ستقل بدرجة ملموسة.
وقد أدت الإجراءات الأميركية بتجميد أموال عدد كبير من المؤسسات والأفراد من العرب والمسلمين وتشديد الإجراءات على تحويل وانتقال هذه الأموال وستؤدي إلى نتائج سلبية في الأمدين المتوسط والبعيد، من أبرز مظاهرها انكماش الاستثمار النقدي في أميركا من قبل الأثرياء العرب والمسلمين وفقدان الثقة بالتعامل الاقتصادي والنقدي مع أميركا والدول الغربية التي تشترك مع أميركا في هذه الإجراءات.
إن هذه التطورات هي تطورات سلبية أميركياً وعالمياً خاصة في الدول المرتبطة بالاقتصاد الأميركي، وإذا كان بعضهم يلقي باللوم في الوقت الحاضر على ما يسمى بالإرهاب والإرهابيين كمسببين لهذه التطورات، فأن أغلبية الدول والناس سيلقون باللوم على أميركا نفسها في الأمدين المتوسط والبعيد، لأنها لم تعالج أحداث 11 من أيلول بالحكمة والبحث عن أسبابها العميقة، وإنما عالجتها بالهوس والتسرع والعدوانية العسكرية والغطرسة اللا أخلاقية.
وقد أدت السياسات التي اتخذتها الولايات المتحدة بعد أحداث 11 من أيلول في الداخل وفي الخارج إلى نتائج مهمة جدا على الصعيد السياسي.
لقد كانت الولايات المتحدة تروج وعلى نطاق واسع ومعها أغلب دول أوربا الغربية شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية وتقليص سيادة الدول، لصالح متطلبات حقوق الإنسان والديمقراطية وحرية الفرد وحرية التجارة كما تراها أميركا وشركاؤها الغربيون.
وقد استخدمت أميركا بالدرجة الأولى ومعها شركاء غربيون هذه الشعارات استخداما واسع النطاق بلغ ذروته في التسعينات وفي ما بعد، لابتزاز الكثير من الحكومات والضغط عليها لتحقيق مآربها السياسية والاقتصادية، وبرغم أن الشعارات الأميركية كانت تبدو مزدوجة المعايير ومنافقة، غير أن الأحداث التي تلت 11 من أيلول قد كشفت بشكل أوضح من أي وقت مضى عن زيف هذه الشعارات ونفاقها، مما ينزع من أيدي أميركا وكثير من دول أوربا الغربية ورقة أو أوراقا مهمة كانت تستخدمها في الابتزاز والضغط على كثير من دول العالم.
فعلى الصعيد الداخلي تشدد أميركا الإجراءات الأمنية على نحو لم تشهده الحياة الأميركية من قبل ، وتشبه هذه الإجراءات الكثير مما كانت تنتقده أميركا ودول أوربا الغربية من ممارسات في "العالم الثالث" مثل الاعتقال بدون إذن قضائي والمحاكم العسكرية، والتعذيب، ومراقبة البريد والهاتف والتشدد في إجراءات السفر والهجرة الخ.. ومن اللافت للنظر أن الكونغرس الأميركي الذي كان يلقي الدروس المنافقة على دول العالم وشعوبها في موضوعات التسرع في التشريع لإعطاء الغطاء القانوني لإجراءات السلطات التنفيذية فيها، أقر مشاريع القوانين والإجراءات المتشددة التي اقترحتها الإدارة بسرعة لا مثيل لها في تاريخ التشريع الأميركي، مما يؤكد هزال القشرة المنافقة التي كانت المؤسسة الحاكمة في أميركا ومنها الكونغرس تتباهى بها على العالم وتستخدمها ضده.
وعلى الصعيد الخارجي غيرت أميركا موقفها رأسا على عقب في سبيل تحقيق هدفها في بناء ما أسمته بالتحالف ضد الإرهاب، مثال باكستان مثال صارخ على هذا التغيير، صحيح أن أميركا قد لعبت اللعبة ذاتها في كل الأوقات السابقة وسكتت عن أنظمة عديدة كانت دكتاتورية وتخرق حقوق الإنسان من أجل تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية، إلا أن أميركا كانت تستخدم ألاعيب معينة لتفادي الحرج في سكوتها عن هذه الأنظمة وحمايتها لها، غير أن حاجة أميركا إلى الرد السريع على أحداث 11 من أيلول لم تتح لها المجال لكي تمارس سياسة التمويه والخداع في حالة التعامل مع باكستان. فبالنظر لحاجة أميركا إلى تعاون حكومة باكستان في الحملة على أفغانستان أسقطت أميركا كل تحفظاتها السابقة على حكومة باكستان التي نعتتها هي ودول غربية أخرى بالدكتاتورية العسكرية، وفرضت عليها العقوبات تحت هذه الذريعة، وتحولت حكومة باكستان خلال أيام من حكومة مدانة من قبل أميركا وحلفائها الغربيين إلى حليف مهم لهم يخشون عليه من تبعات مشاركته في الحلف المناهض لأفغانستان، وأسقطوا كل دعاواهم وانتقاداتهم السابقة، وسكتت الولايات المتحدة أيضا سكوتا مطبقا عن سلوك روسيا في الشيشان والذي كان ورقة تبتز بها روسيا، وغيرها من الجمهوريات السوفيتية السابقة التي كانت موضع انتقاد وضغط وابتزاز من قبل أميركا، وكذلك الأمر بالنسبة للهند والصين.
إن الشعارات والمفاهيم الأميركية السياسية تغيرت تغيرا كاملا ومفاجئا وانكشف طابعها الهش والمنافق خلال أيام وأسابيع محدودة.
أن هذا التطور، له الآن، وسيكون له في المستقبل، تأثيرات مهمة جدا على الخطاب السياسي الأميركي والغربي، وعلى طبيعة العلاقات بين أميركا وأوربا الغربية من جهة، وكل الأنظمة في "العالم الثالث" التي كانت موضع انتقاد وابتزاز من قبلها من الجهة الأخرى، وإذا كان الرئيس الأميركي بوش يقول بأن الحرب على الإرهاب ستكون طويلة وقد تمتد لعشر سنوات أخرى، وقد غير بذلك جدول الأعمال (الأجندة) الدولي كما أشرنا في السابق، فأنه سيكون مضطرا كما يفعل الآن لأن يغير الخطاب السياسي والمزاج السياسي والمفاهيم السياسية الأميركية والغربية، وكذلك طبيعة علاقات أميركا مع كثير من دول العالم لمرحلة طويلة قادمة.
وإذا كان هذا تغييرا بعد أحداث 11 من أيلول فأنه ليس تغييرا مهما فحسب بل أنه تغيير سيؤدي إلى نتائج ايجابية لغالبية شعوب العالم، وسلبية على أميركا ومن يحالفها من الدول الغربية.
ويمكن القول أن هيمنة الخطاب السياسي والمفاهيم السياسية والقانونية لأميركا ودول أوربا الغربية على المجتمع الدولي قد تهاوت.
إن التركيز على ما يسمى بالإرهاب مهما كان قويا، ومهما حشدت له من إمكانيات سياسية وإعلامية، لا يمكن أن يستمر طويلا،. لا من زاوية الحقائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية في العالم كما سبق وأن شرحنا، ولن يستمر أيضا من الناحية الإعلامية والنفسية على شعوب الدنيا التي لم تكن لها علاقة بأحداث 11 من أيلول وما نتج عنها من سياسات ومواقف وإجراءات أميركية.
أن أميركا لن تكون بعد الآن النموذج الأول في العالم للديمقراطية، وحرية الفرد، وحرية التجارة، وانتقال الأموال والمعلومات كما كانت تدعي وتتباهى كذبا ونفاقا، فالكذب والنفاق الأميركيان قد سقطا هكذا مرة واحدة، كما سقط برجا مركز التجارة العالمية في نيويورك في 11 من أيلول
----------------
المحرر
وقبل أيام كان لي حديث مع صحفي أوربي عن هذا الموضوع .. وقد قلت له .. إذا وجهت هذا السؤال إلى رجل الشارع في أميركا فربما يقول لك نعم وكذلك في لندن أو في عواصم أوربية أخرى.. ولكن إذا وجهت هذا السؤال إلى رجل الشارع في الصين أو الهند وفيهما أكثر من ملياري إنسان فأن الجواب سيكون مختلفا؟!
ما الذي تغير إذاً وما الذي لم يتغير؟!
أن الحياة بكل أوجهها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية لم تتغير في الصين والهند ونيجيريا والبرازيل وفي العديد من "دول العالم الثالث". فالحياة هي .. هي … والناس في هذه البلدان شاهدوا ما جرى في أميركا في 11 من أيلول على التلفزيون ويشاهدون ما يجري في أفغانستان ولكن هذه الأحداث لم تغير من حياتهم ما هو جوهري.
إن قضايا الفقر والتخلف وهموم التنمية ومشاكلها وانتشار الأمراض الخطيرة كالايدز بقيت كما هي في كل أنحاء العالم خاصة في "العالم الثالث".. وفي العالم نزاعات ومشاكل إقليمية ومحلية عديدة.. لا تزال كما هي.
قبل أحداث 11 من أيلول كان حكام أميركا والطبقة السياسية فيها وحكام أوربا يتحدثون عن برنامج عالمي (أجندة) فيه، أميركياً مشروع الدرع المضاد للصواريخ وعالميا قضايا مثل البيئة ومكافحة الايدز ، والعولمة والتجارة الحرة، وغيرها من القضايا التي عقدت بشأنها اجتماعات دولية عديدة كثير منها على مستوى القمة وتحت علم الأمم المتحدة.. غير أن الرئيس الأميركي بوش حدد لبلاده، وبالتالي للعالم بعد أحداث أيلول، هدفا وضعه في أول سلم الأولويات وهو ما أسماه بـ"الحرب ضد الإرهاب" وقال "أن هذه الحرب ستستمر لعشر سنوات" وبذلك غير البرنامج (الأجندة) الدولي هكذا في لحظة واحدة.!
ولكن إلى أي مدى تغيرت وستتغير، في الواقع، أوضاع واهتمامات دول العالم؟ وما هي المتغيرات التي حصلت فعلا بعد أحداث 11 من أيلول؟!
أن تطورا ملحوظا قد حصل في عدد من بلدان الشرق وهي بالتحديد روسيا والهند والصين وباكستان وأفغانستان، أن أفغانستان تتعرض الآن إلى عدوان أميركي شامل ولا يعرف مصيرها وباكستان خضعت لإرادة أميركا في تسهيل مهمة ضرب أفغانستان الحليفة السابقة ولا يعرف إلى أين سيؤدي هذا الخيار.!
أما الهند وروسيا والصين فقد أيدت أميركا في حملتها ضد ما أسمته بـ"الإرهاب" وهذا تغيير مهم.. ولكن ما هي أسبابه وإلى متى سيستمر هذا الموقف الذي اتخذته هذه الدول الثلاث؟
يظن بعضهم أن هذا التلاقي بين هذه الدول الثلاث المهمة (روسيا والصين والهند) وبين أميركا بشأن ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب سيؤدي إلى خلق توازنات عالمية جديدة لم تكن متوقعة قبل أحداث أيلول.
غير أنني أعتقد أن هذا الافتراض متسرع بل وخاطئ.. إن هذه الدول الثلاث، وإن كانت قد سايرت أميركا في بعض جوانب حملتها ضد ما أسمته بـ"الحرب ضد الإرهاب" ومن ذلك الحملة العسكرية على أفغانستان. فقد فعلت ذلك لأسباب وأهداف تختلف عن الأسباب والأهداف الأميركية. إن هذه الدول تعاني مشاكل داخلية كانت تسميها في السابق (إرهابا). فروسيا تعاني التمرد في الشيشان الذي أسمته دائما بـ"الإرهاب"، والصين تعاني، ولو بدرجة أقل بعض مشاكل العرقيات الإسلامية ومن نشاط منظمة (الوالون دونغ) والتي تطلق عليها صفة الإرهاب، أما الهند فلديها مشكلة جدية ومستديمة منذ عدة عقود في كشمير.. وتسميها هي أيضا إرهابا.
إن هذا هو السبب الأول لركوب هذه الدول الموجه الأميركية المسماة بالحرب ضد الإرهاب.. ففي ظل هذه الموجة وحاجة أميركا إليها يمكن لحكومات هذه الدول أن تتصرف بقدر أكبر من الشدة والحرية ضد خصومها المحليين بعد أن كانت تواجه انتقادات وضغوطا أميركية وأوربية حادة إزاء تصرفاتها المتشددة ضدهم تحت لافتة حقوق الإنسان والديمقراطية.
ومن الحقائق المهمة التي تفسر مواقف هذه الدول الثلاث أن نظام طالبان في أفغانستان لم يكن صديقا لأي منها.. بل كان في الواقع عدوا لها.. وهي، من الناحية البراغماتية، لا تخسر شيئا عندما تؤدي الحملة العسكرية الأميركية على أفغانستان إلى تغيير هذا النظام ومجيء حكومة أخرى قد يكون لأي من الدول الثلاث شيء من النفوذ فيها بعد أن كانت أفغانستان مغلقة عليها تماما في ظل نظام طالبان بل ومصدر إزعاج وتهديد لها.
لذلك.. ونحن نلاحظ، هذا التغيير في المسرح الدولي في الشرق علينا أن نلاحظ الأسباب، وإذا كان الرئيس الأميركي بوش سيواصل حملته المسماة الحرب ضد الإرهاب لعشر سنوات قادمة كما قال بعد أحداث ايلول.. فأنه لا يستطيع بالتأكيد بعد انتهاء الحملة على أفغانستان أن يفرض هذه الأولوية على هذه الدول الثلاث المهمة (روسيا والصين والهند) خاصة إذا ما اختار أهدافا أخرى للحملة الأميركية، فاشتراك هذه الدول الثلاث في هذه الحملة هو اشتراك مؤقت ومحدود في حالة أفغانستان ولا يمكن لها استنادا إلى مصالحها الوطنية وعلاقاتها واهتماماتها الأخرى أن تشارك أميركا في أهداف أخرى تختارها الإدارة الأميركية من (أجندتها) الخاصة.
أما في بقية بلدان الشرق وباستثناء إيران التي أدت دورا ما في أحداث أفغانستان فأن أي شيء لم يتغير في اندونيسيا وماليزيا وسريلانكا وكوريا ودول أخرى في الشرق ومنها اليابان.
وفي أميركا اللاتينية التي لم يكن لدولها أي شأن في الأحداث التي أعقبت 11 من أيلول لم يتغير شيء، وكذلك في أفريقيا عدا الصومال التي قد تكون هدفا لأميركا.. وفي أوربا الشرقية التي لا تزال دولها تبحث عن هوية ودور وانتماء بدون قدر ملموس من النجاح لم يتغير شيء.
غير أن الوضع في أوربا الغربية يختلف. لقد انضمت أوربا الغربية للحملة الأميركية.. وشاركت بعض دولها بقدر أو بآخر فيها عسكريا وفي الميادين الأخرى. أن هذه الدول هي حليفة لأميركا في إطار الحلف الأطلسي.. ولا يمكنها أن تبقى على الحياد، تماما، في حملة كهذه تقودها أميركا خاصة وأن دول أوربا الغربية تلتقي مع أميركا، في الموقف والمفاهيم بشأن ما يسمى بالإرهاب، غير أن موقف هذه الدول من كل عناصر وأبعاد الحملة الأميركية ليس مطابقا تماما للموقف الأميركي.
أن هذه الدول لا يمكن أن تقبل بسهولة بأن تكون الحملة ضد ما تسميه أميركا بالإرهاب القضية الأولى بالنسبة لها ، للعشرة أعوام القادمة لأن لها اهتمامات خاصة بها تريد العمل والتركيز عليها كما أن هذه الدول لا ترغب في أن تجرها أميركا إلى أهداف أخرى غير أفغانستان، وكما هو حال روسيا والصين والهند فأن دول أوربا الغربية لم تكن لديها مصالح في أفغانستان ولم تكن علاقاتها مع نظام طالبان جيدة بل كانت في الواقع سيئة جدا. لذلك فأن الحملة على أفغانستان والمشاركة مع أميركا في هذه الحملة لا تكلف دول أوربا الغربية خسائر باهظة سياسيا واقتصاديا في حين سيختلف الأمر تماما إذا ما أرادت أميركا توسيع حملتها إلى أهداف أخرى.. فلدول أوروبا الغربية علاقات ومصالح مع كثير من الدول التي يمكن لأميركا، لأسباب خاصة بها، أن تستهدفها في حملتها.
إن النزعة العسكرية الأميركية التي بلغت درجة عالية من الهوس في الحرب على أفغانستان وارتفاع الأصوات الهستيرية في المؤسسة العسكرية الأميركية وفي أوساط الكونغرس واللوبي الصهيوني لاستهداف دول أخرى تخلق لروسيا والصين ولدول أوربا الغربية والعديد من دول العالم مخاوف جدية.
لقد شنت أميركا في الماضي حروبا عديدة.. غير أن الاثنتي عشرة سنة الأخيرة منذ عام 1989 وحتى الآن شهدت تزايدا خطيرا في النزعة العسكرية الأميركية وفي عدد الحروب التي شنتها الولايات المتحدة ففي الأربعينات شاركت أميركا مع حلفاء عديدين في الحرب العالمية الثانية، وفي الخمسينات شنت أميركا حربا واحدة على كوريا الشمالية، وفي الستينات والسبعينات شنت أيضا حربا واحدة على فيتنام، وفي الثمانينات قامت بعدوان عسكري محدود على جامايكا، أما في عام 1989 والمرحلة اللاحقة في التسعينات وفي بداية هذا القرن فقد شنت أميركا عدوانا على بنما عام 1989.. ثم على العراق في عام 1991 وواصلت هذا العدوان حتى الآن. وفي العام 1998 أغارت على السودان وأفغانستان وفي عام 1999 شنت مع حلفائها في الحلف الأطلسي عدوانا شاملا على يوغسلافيا والآن تشن الحرب على أفغانستان وتهدد بعمليات عسكرية على بلدان أخرى.
إن هذا التصاعد الخطير في النزعة العسكرية الأميركية وفي عدد الحروب التي شنتها أميركا بعد انحلال الاتحاد السوفيتي وغياب قوة عسكرية توازن، على الصعيد الدولي، القوة العسكرية الأميركية يخلق وضعا عالميا جديدا يثير التحسب بل المخاوف لدى الكثير من الدول.
كما أن التطور التقني الذي استعرضته أميركا في هذه الحروب لا بد أن ينبه روسيا والصين ودول أوربا الغربية إلى خطورة استمرار الفارق الكبير بين قدراتها العسكرية هي.. وقدرات أميركا. إن هذا النوع من التحسب يقل في الظروف التي لا تستعرض فيها أميركا قوتها العسكرية بشكل صارخ.. إذ يتصور القادة في الدول الأخرى، أن هذه القدرة الأميركية المعروفة أصلا لديهم ليست في وارد الاستخدام ما دام العمل السياسي والدبلوماسي هو السائد.. غير أن الأمر يختلف عندما تشن الحرب وتتصاعد النزعة العسكرية !!.. وفي تقديري أن هذا من العوامل التي ستدفع روسيا والصين إن عاجلا أو آجلا إلى السعي لتطوير ترسانتها العسكرية تحت ضغط المؤسسة العسكرية فيهما.. وتحت ضغط القوى الوطنية التي تتحسب من اعمال اميركية قد تستهدفهما.. فالصين التي تسعى إلى استعادة تايوان وهي بالنسبة لها هدف مركزي لا يمكن أن تنظر بارتياح إلى هذا التطور في الأسلحة الأميركية التقليدية التي ستكون هي الأسلحة المستخدمة في حالة نشوب نزاع عسكري بشأن تايوان، وكذلك روسيا التي تعاني مشاكل داخلية ومشاكل مع عدد من الجمهوريات التي انسلخت عن الاتحاد السوفيتي.. كما أن الدول الأوربية التي تسعى إلى بناء قوة ذاتية فيها قدر من الاستقلال عن القوة الأميركية في إطار الحلف الأطلسي ستأخذ هذا العامل في الحسبان في برامجها التسليحية في المرحلة القادمة.
إن اتجاه روسيا والصين ودول أوربا الغربية ودول أخرى تخشى من التهديد الأميركي إلى تطوير ترساناتها العسكرية سيؤدي إلى تقليص الفجوة في القدرات العسكرية بين هذه الدول منفردة ومجتمعة وبين أميركا.. فإذا كان هذا من المتغيرات التي أدت إليها أحداث أيلول وما بعدها في المسرح الدولي فأنه من المتغيرات الايجابية عالميا والسلبية على أميركا في الأمدين المتوسط والبعيد!!
وإذا أصرت الإدارة الأميركية على فرض (أجندتها) الخاصة بعد انتهاء العدوان على أفغانستان أو خلاله، فأن دول العالم ومنها الدول الشرقية الثلاث وبعض دول أوربا الغربية لا يمكن أن تستمر في مسايرة أميركا كما سايرتها في الحملة على أفغانستان مما سيؤدي إلى مزيد من التناقض بين هذه الدول وبين أميركا وإلى مزيد من العزلة لأميركا.
ومهما كان التأثير الدرامي لأحداث 11 من أيلول كبيرا على المواقف التي اتخذتها دول عديدة وخاصة في أوربا حتى الآن فأن هذا التأثير سيتلاشى مع الزمن وستقل قدرة أميركا على ممارسة الابتزاز والضغط على هذه الدول لجرها إلى (أجندتها) الخاصة بما أسمته بالحرب ضد الإرهاب.
وفي الوطن العربي تتأكد بعد أحداث 11 من أيلول بصورة لا تقبل اللبس حقائق التحالف الأميركي والشراكة مع الكيان الصهيوني.
ففي الوقت الذي تبلغ فيه النزعة العسكرية الأميركية ذروتها تبلغ النزعة العسكرية الصهيونية ذروتها أيضا في القصف والتدمير والتهديد العسكري اليومي الذي يمارسه الكيان الصهيوني في فلسطين.
وهذا التصعيد في النزعة العسكرية الصهيونية وتواطؤ أميركا مع الكيان الصهيوني يخلق وضعا حرجا للأنظمة العربية التي تعد نفسها من حلفاء أو أصدقاء أميركا.
لقد مرت هذه الأنظمة في ظروف سابقة بحالات من الحرج بسبب السياسات الأميركية العدوانية وتحالف أميركا الوثيق مع الكيان الصهيوني، غير أن تلك الظروف كانت نسبيا قصيرة الأمد لأيام أو أسابيع عادت بعدها أميركا إلى ممارسة سياسات التمويه والخداع التي تقبلتها تلك الأنظمة كما حصل بعد العدوان الغاشم على العراق في عام 1991 ودعوة أميركا لمؤتمر مدريد وإطلاق ما سمي زورا بعملية السلام.
غير أن إخفاق هذه العملية البائسة والمخادعة واتضاح حقيقة الموقف الأميركي في اجتماع كامب ديفيد في أب 2000 وفي عهد الإدارة الحالية في أن أميركا غير مستعدة للضغط على الكيان الصهيوني لإعطاء السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية التي راهنت على الدور الأميركي رهانا كاملا أي شيء يمكن أن يخفف عنها الحرج وضع هذه الأنظمة في ظرف صعب ليست له نهاية منظورة.. إذ ليس هناك في الأفق مناورة أميركية، كما حصل في عام 1991، يمكن أن تخفف من هذا الحرج وما يخلقه من توتر بينها وبين أميركا وإن كان حتى الآن خفياً أكثر منه معلناً.
كما أن الترافق بين تصاعد النزعة العسكرية الأميركية والنزعة العسكرية الصهيونية في ظروف ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب.. وكون الأهداف التي تستهدفها أميركا حاليا في الحملة على ما يسمى بالإرهاب في أفغانستان وغيرها والعدوان الصهيوني المتواصل على فلسطين هي أهداف مسلمة وعربية يزيد هذا الحرج تفاقما.
إن استمرار هذا الوضع وقد استمر بفضل الانتفاضة الفلسطينية أكثر من عام بشكل متواصل وتفاقمه بعد أحداث 11 من أيلول والحرب على أفغانستان جعل الأنظمة العربية الحليفة والصديقة لأميركا في أضعف حالاتها ولم يعد لهذه الأنظمة خطاب سياسي مؤثر حتى ولو كان بالخداع كما نجحت نسبيا في مراحل سابقة. بل أنها تبدو الآن عارية وعاجزة أمام الجماهير في بلدانها مما يطرح تساؤلات جدية بشأن مستقبلها ومصير علاقتها بشعوبها!! وهذا تغيير غير اعتيادي حصل بعد أحداث 11 من أيلول وان لم تظهر كل أبعاده ونتائجه حتى الآن.
وعلى صعيد آخر.. فأن الانتفاضة الفلسطينية وأحداث 11 من أيلول في أميركا كشفت إحياء أنماط من أساليب التصدي لأميركا والكيان الصهيوني كانت قد اختفت أو تضاءلت منذ عقدين من الزمن.
وإذا كانت هذه الأنماط في حالتي الانتفاضة وأحداث 11 من أيلول قد مورست من قبل عناصر إسلامية وعربية فأن هذه الأنماط لم تكن في السابق مقتصرة على العرب والمسلمين ففي مرحلة الستينات والسبعينات كان هناك "الألوية الحمراء" في ايطاليا، و"منظمة بادر ماينهوف" في ألمانيا، و"الجيش الأحمر" في اليابان، ومنظمات عديدة أخرى أصغر حجما في بلدان لم يكن من بينها بلد عربي أو إسلامي، وقد مارست وسائل عنيفة وجريئة في عملياتها.. وإذا تذكرنا حوادث متفرقة في أميركا نفسها خلال عقد التسعينات مثل المجزرة التي تمت في عام 1994 في (مزرعة واكو) و(عملية برج مركز التجارة العالمي في نيويورك) في عام 1993 و(عملية اوكلاهوما) في عام 1995 وتزايد عدد المليشيات المسلحة في أميركا، فأن هذه النزعة موجودة الآن حتى في أميركا نفسها، ولدى مواطنين أميركان من البيض والمسيحيين. ونلحظ أيضا إلى جانب وجود هذه الأنماط في أميركا وجود تيارات شعبية أميركية وأوربية تعبر عن معارضتها للنظام العالمي الأميركي وعناصره الامبريالية كالعولمة بأساليب فيها قدر بارز من العنف كما حصل في التظاهرات العارمة في سياتل في أميركا عام 1999 وفي سويسرا عام 1998.. وفي جنوا في ايطاليا عام 2001 وفي السويد حتى بات صعبا على قيادات الدول الغربية وممثليها أن تعقد اجتماعات موسعة في العواصم والمدن التي كانت تعقد فيها اجتماعاتها في السابق في أجواء احتفالية مملوءة بالزهو والثقة بالنفس.
إن هذه الظواهر كانت موجودة قبل أحداث 11 من أيلول، ويمكن الاستنتاج أن أحداث 11 من أيلول وقبلها ما حدث في اوكلاهوما في أميركا نفسها، والانتفاضة الفلسطينية هي نتائج لأسباب بعضها مشترك مع هذه الظواهر التي نشأت من جديد في عقد التسعينات وتزايدت في الوقت الحاضر. ومن الملاحظ أن عدد الرجال الذين يختارون الموت، المحتوم سلفا في الأعمال التي يعتزمون القيام بها، من أجل إلحاق الأذى بأميركا والكيان الصهيوني هو أكثر بكثير مما كان عليه في كل المراحل السابقة.
وعندما تواجه هذه الظواهر الخطيرة بأعلى درجات الهوس العسكري العدواني والتحلل من الضوابط الأخلاقية والقانونية والتي كانت أميركا نفسها والدول الغربية من دعاتها ومؤسسيها كما يجري الآن، فأن هذه الظواهر مرشحة لمزيد من التصاعد والتفاقم.. فالذين يختارون الموت من أجل إلحاق الأذى بأميركا والكيان الصهيوني لا ترهبهم النزعة العسكرية العدوانية الأميركية التي ترهب الأنظمة والحكام المترفين الذين يبحثون عن الهدوء والطمأنينة.
وكما شخص ذلك الرئيس صدام حسين في الرسائل التي وجهها إلى الشعوب الأميركية والأوربية بعد أحداث 11 من أيلول فأن هذه الظواهر تعبر عن الكره المتزايد بين شعوب العالم لأميركا وسياستها الامبريالية المتغطرسة والظالمة التي تمارسها على نطاق واسع منذ أن أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم.. وهو ما تنبأ به الرئيس صدام حسين منذ عام 1990 وقبل انهيار الاتحاد السوفيتي في خطابه الشهير في قمة مجلس التعاون العربي في عمان في شهر شباط من ذلك العام.
إن اتساع الغضب والكره للسياسة الأميركية في داخل أميركا وفي العالم .. وتصاعد الاستعداد لإلحاق الأذى بأميركا من داخلها ومن خارجها تغيير مهم لغير صالح المؤسسة الحاكمة في أميركا ولأهدافها وممارساتها الامبريالية والعدوانية.
وفي الجانب الاقتصادي وقعت أحداث 11 من أيلول في أميركا في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد الأميركي والعالمي يمر بمرحلة تراجع لم تكن أبعادها قد اتضحت بعد. ومن الواضح تماما أن هذه الأحداث أسهمت إسهاما أكيدا في تفاقم هذا التراجع وكشفت بدلائل لا يمكن للمؤسسة الحاكمة في أميركا التغطية عليها.. ففي أميركا التي كانت إدارة كلنتون قد نجحت في إنهاء العجز في الميزانية وحققت وفرا مهما فيها تبخر هذا الوفر خلال أسابيع لتغطية الخسائر الباهظة الناتجة عن أحداث 11 من أيلول والتي لم تحسب بعد بصورة كاملة حتى الآن، كما راحت الإدارة الأميركية تنفق أموالا أكثر بكثير مما كانت تنفقه في السابق على متطلبات الأمن الداخلي التي تشعبت ولا تزال تتشعب في جو الهوس المحموم الذي تعيشه أميركا.. وقد أدى استمرار هذا الهوس الذي تقوده وتؤججه وتزيد في أسبابه الإدارة الحالية نفسها إلى تغيير ملموس في أنماط الحياة في الولايات المتحدة وبالتالي إلى نتائج اقتصادية سلبية أخرى وخاصة ضعف الثقة لدى المواطن الأميركي وبالتالي تقليل مستوى إنفاقه والخسائر الباهظة في قطاع الطيران والسياحة والخدمات مما يؤدي أيضا إلى زيادة البطالة.. كما أدى وسيؤدي الإنفاق المتزايد على المتطلبات العسكرية والأمنية في أميركا إلى تقليص الإنفاق على الجوانب الاجتماعية كالصحة والتعليم وإصلاح الخدمات التالفة فضلا على الأثقال المالية والاقتصادية التي سيطلبها منها حلفاؤها في هذه الحملة . وبذلك تبدأ دورة اقتصادية عكسية لا يعرف مداها، سوى أنه سيكون سلبيا وقاتما بدون شك.
وينعكس هذا الوضع السلبي والقاتم في الاقتصاد الأميركي على الأوضاع الاقتصادية العالمية وبشكل خاص على أوربا الغربية التي لا تزال الشريط الاقتصادي الأول للولايات المتحدة كما سيزيد هذا الوضع من تفاقم الأوضاع الاقتصادية في بلدان مهمة في أميركا اللاتينية كالبرازيل والأرجنتين والمكسيك التي كانت حكوماتها تراهن دائما على أميركا والصناديق الدولية التي تهيمن عليها في إلقاء شبكات إنقاذ لها بين الحين والآخر لمواجهة أزمات اقتصادية ونقدية تتعرض إليها.
ومع التصاعد المستمر في النفقات العسكرية الأميركية وفي النفقات العسكرية في أوربا الغربية ودول عديدة أخرى فأن آفاق النمو الاقتصادي في أميركا وأوربا الغربية وكل الدول المتأثرة بهذه التطورات ستقل بدرجة ملموسة.
وقد أدت الإجراءات الأميركية بتجميد أموال عدد كبير من المؤسسات والأفراد من العرب والمسلمين وتشديد الإجراءات على تحويل وانتقال هذه الأموال وستؤدي إلى نتائج سلبية في الأمدين المتوسط والبعيد، من أبرز مظاهرها انكماش الاستثمار النقدي في أميركا من قبل الأثرياء العرب والمسلمين وفقدان الثقة بالتعامل الاقتصادي والنقدي مع أميركا والدول الغربية التي تشترك مع أميركا في هذه الإجراءات.
إن هذه التطورات هي تطورات سلبية أميركياً وعالمياً خاصة في الدول المرتبطة بالاقتصاد الأميركي، وإذا كان بعضهم يلقي باللوم في الوقت الحاضر على ما يسمى بالإرهاب والإرهابيين كمسببين لهذه التطورات، فأن أغلبية الدول والناس سيلقون باللوم على أميركا نفسها في الأمدين المتوسط والبعيد، لأنها لم تعالج أحداث 11 من أيلول بالحكمة والبحث عن أسبابها العميقة، وإنما عالجتها بالهوس والتسرع والعدوانية العسكرية والغطرسة اللا أخلاقية.
وقد أدت السياسات التي اتخذتها الولايات المتحدة بعد أحداث 11 من أيلول في الداخل وفي الخارج إلى نتائج مهمة جدا على الصعيد السياسي.
لقد كانت الولايات المتحدة تروج وعلى نطاق واسع ومعها أغلب دول أوربا الغربية شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية وتقليص سيادة الدول، لصالح متطلبات حقوق الإنسان والديمقراطية وحرية الفرد وحرية التجارة كما تراها أميركا وشركاؤها الغربيون.
وقد استخدمت أميركا بالدرجة الأولى ومعها شركاء غربيون هذه الشعارات استخداما واسع النطاق بلغ ذروته في التسعينات وفي ما بعد، لابتزاز الكثير من الحكومات والضغط عليها لتحقيق مآربها السياسية والاقتصادية، وبرغم أن الشعارات الأميركية كانت تبدو مزدوجة المعايير ومنافقة، غير أن الأحداث التي تلت 11 من أيلول قد كشفت بشكل أوضح من أي وقت مضى عن زيف هذه الشعارات ونفاقها، مما ينزع من أيدي أميركا وكثير من دول أوربا الغربية ورقة أو أوراقا مهمة كانت تستخدمها في الابتزاز والضغط على كثير من دول العالم.
فعلى الصعيد الداخلي تشدد أميركا الإجراءات الأمنية على نحو لم تشهده الحياة الأميركية من قبل ، وتشبه هذه الإجراءات الكثير مما كانت تنتقده أميركا ودول أوربا الغربية من ممارسات في "العالم الثالث" مثل الاعتقال بدون إذن قضائي والمحاكم العسكرية، والتعذيب، ومراقبة البريد والهاتف والتشدد في إجراءات السفر والهجرة الخ.. ومن اللافت للنظر أن الكونغرس الأميركي الذي كان يلقي الدروس المنافقة على دول العالم وشعوبها في موضوعات التسرع في التشريع لإعطاء الغطاء القانوني لإجراءات السلطات التنفيذية فيها، أقر مشاريع القوانين والإجراءات المتشددة التي اقترحتها الإدارة بسرعة لا مثيل لها في تاريخ التشريع الأميركي، مما يؤكد هزال القشرة المنافقة التي كانت المؤسسة الحاكمة في أميركا ومنها الكونغرس تتباهى بها على العالم وتستخدمها ضده.
وعلى الصعيد الخارجي غيرت أميركا موقفها رأسا على عقب في سبيل تحقيق هدفها في بناء ما أسمته بالتحالف ضد الإرهاب، مثال باكستان مثال صارخ على هذا التغيير، صحيح أن أميركا قد لعبت اللعبة ذاتها في كل الأوقات السابقة وسكتت عن أنظمة عديدة كانت دكتاتورية وتخرق حقوق الإنسان من أجل تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية، إلا أن أميركا كانت تستخدم ألاعيب معينة لتفادي الحرج في سكوتها عن هذه الأنظمة وحمايتها لها، غير أن حاجة أميركا إلى الرد السريع على أحداث 11 من أيلول لم تتح لها المجال لكي تمارس سياسة التمويه والخداع في حالة التعامل مع باكستان. فبالنظر لحاجة أميركا إلى تعاون حكومة باكستان في الحملة على أفغانستان أسقطت أميركا كل تحفظاتها السابقة على حكومة باكستان التي نعتتها هي ودول غربية أخرى بالدكتاتورية العسكرية، وفرضت عليها العقوبات تحت هذه الذريعة، وتحولت حكومة باكستان خلال أيام من حكومة مدانة من قبل أميركا وحلفائها الغربيين إلى حليف مهم لهم يخشون عليه من تبعات مشاركته في الحلف المناهض لأفغانستان، وأسقطوا كل دعاواهم وانتقاداتهم السابقة، وسكتت الولايات المتحدة أيضا سكوتا مطبقا عن سلوك روسيا في الشيشان والذي كان ورقة تبتز بها روسيا، وغيرها من الجمهوريات السوفيتية السابقة التي كانت موضع انتقاد وضغط وابتزاز من قبل أميركا، وكذلك الأمر بالنسبة للهند والصين.
إن الشعارات والمفاهيم الأميركية السياسية تغيرت تغيرا كاملا ومفاجئا وانكشف طابعها الهش والمنافق خلال أيام وأسابيع محدودة.
أن هذا التطور، له الآن، وسيكون له في المستقبل، تأثيرات مهمة جدا على الخطاب السياسي الأميركي والغربي، وعلى طبيعة العلاقات بين أميركا وأوربا الغربية من جهة، وكل الأنظمة في "العالم الثالث" التي كانت موضع انتقاد وابتزاز من قبلها من الجهة الأخرى، وإذا كان الرئيس الأميركي بوش يقول بأن الحرب على الإرهاب ستكون طويلة وقد تمتد لعشر سنوات أخرى، وقد غير بذلك جدول الأعمال (الأجندة) الدولي كما أشرنا في السابق، فأنه سيكون مضطرا كما يفعل الآن لأن يغير الخطاب السياسي والمزاج السياسي والمفاهيم السياسية الأميركية والغربية، وكذلك طبيعة علاقات أميركا مع كثير من دول العالم لمرحلة طويلة قادمة.
وإذا كان هذا تغييرا بعد أحداث 11 من أيلول فأنه ليس تغييرا مهما فحسب بل أنه تغيير سيؤدي إلى نتائج ايجابية لغالبية شعوب العالم، وسلبية على أميركا ومن يحالفها من الدول الغربية.
ويمكن القول أن هيمنة الخطاب السياسي والمفاهيم السياسية والقانونية لأميركا ودول أوربا الغربية على المجتمع الدولي قد تهاوت.
إن التركيز على ما يسمى بالإرهاب مهما كان قويا، ومهما حشدت له من إمكانيات سياسية وإعلامية، لا يمكن أن يستمر طويلا،. لا من زاوية الحقائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية في العالم كما سبق وأن شرحنا، ولن يستمر أيضا من الناحية الإعلامية والنفسية على شعوب الدنيا التي لم تكن لها علاقة بأحداث 11 من أيلول وما نتج عنها من سياسات ومواقف وإجراءات أميركية.
أن أميركا لن تكون بعد الآن النموذج الأول في العالم للديمقراطية، وحرية الفرد، وحرية التجارة، وانتقال الأموال والمعلومات كما كانت تدعي وتتباهى كذبا ونفاقا، فالكذب والنفاق الأميركيان قد سقطا هكذا مرة واحدة، كما سقط برجا مركز التجارة العالمية في نيويورك في 11 من أيلول
----------------
المحرر