فجأة وبمجرد تنحي الرئيس المصري تحول الـ«فيس بوك» في لبنان من وسيلة للعب والمرح البريئين إلى أداة حادة لمهاجمة «النظام الطائفي» والتكتل ضده. المواقع الكثيرة التي دعت للعلمانية منذ سنوات كثيرة لم تلق ذات يوم آذانا صاغية من أحد، وهي أيضا حال المظاهرات التي نظمها علمانيون وبقيت مثار سخرية بسبب ضآلة مؤيديها، وفولكلورية وجودها وسط غابة من الطائفيين الأشاوس. الشعار المصري البسيط والحاسم «الشعب يريد إسقاط النظام» يبدو أن له من العبقرية السحرية ما يجعله صالحا للالتفاف حوله، دون خلاف يذكر. عدد المنضمين إلى الصفحات الـ«فيسبوكية» التي تدعو لإسقاط النظام الطائفي في لبنان، خلال الأيام الأخيرة، أقل ما يقال فيه إنه أذهل القيمين عليها، قبل المنضوين. إحدى هذه الصفحات الجديدة استقطبت في أول 48 ساعة من ولادتها ثلاثة آلاف صديق، فيما يبدو أن وتيرة الانضمام إليها لا تزال تتنامى بالسرعة نفسها. وهو ما شجع هؤلاء الشباب على بدء التفكير في بلورة المقترحات ورسم الخطط التحركية المستقبلية. أحد المشاركين الذي نبه إلى أن النظام الطائفي اللبناني متعدد الرؤوس، وليست مهمته إسقاط الرئيس، اقترح استهداف بيوت الزعماء اللبنانيين كلهم دفعة واحدة، للتمكن منهم. الصفحات تتزايد تحت مسميات عدة، لكن هدفها واحد وواضح، والغضب لم يعد يخفى على أحد.
التحرك بدأ كما يقول المتحمسون، لكن المأساة الكبرى أن ما يحدث في لبنان هو تكرار لما شهدناه في عواصم عربية أخرى، وكأن أحدا لا يريد أن يتعلم الدرس. فالزعامات التقليدية، في بلاد الأرز، فقدت هي الأخرى بوصلتها وقدرتها على الرصد وقراءة المستجدات في المنطقة أو حتى في الشارع الذي تسكن فيه. فبينما كان هؤلاء الشباب ينظمون أنفسهم، ويتداولون بمئات الاقتراحات المدنية اللاطائفية لنظام لبناني جديد يغير حياتهم جذريا، وقف زعماء فريق 14 آذار يلقون خطبا في «البيال» في ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري، أقل ما يقال فيها إنها خارج السياق، وتفتقد إلى الحد الأدنى من الإحساس بحركة التاريخ ونبض الناس. فريق 8 آذار لا يبدو أفضل حالا على الإطلاق، فالشخصيات التي يرشحها لغاية الآن، للمشاركة في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، يحق لأي عاقل أن يصفها بأنها مستهلكة ومخيبة، وكأن لبنان جفت منابعه. أين الوجوه الجديدة؟ ماذا فعلتم بعباقرة الخريجين الذين تلتهمهم بشهية منقطعة النظير شركات عالمية مثل «غوغل» و«فيس بوك» في مراكزها الموزعة في المعمورة؟
الفرصة مواتية لمن يريد أن يصغي ويتعظ، بدل تبني نهج «التطنيش والتشاطر» الذي أثبت فشله المروع في كل من تونس ومصر. الرئيس نجيب ميقاتي وجه محبب من كثيرين، وقضى السنوات الأخيرة، بينما كان التناحر على أشده بين عتاة 8 و14 آذار، ينادي بالوسطية. بمقدور الطرفين المتحجرين اللذين يتناهشان البلد منذ 2005 التفاهم على حكومة وطنية برئاسة ميقاتي تنسحب منها الوجوه المضجرة المكرورة لصالح كفاءات شابة يتم اختيارها لجدارتها المهنية والفكرية، مهمتها العمل على إلغاء الطائفية السياسية، عملا بواحد من أهم بنود اتفاق الطائف الذي تعاديه طبقة منتفعة لا تفكر في غير مصالحها الضيقة، وانتشال البلد من أزماته المعيشية التي تطبق على أنفاس العباد. لبنان ليس بحاجة لانقلاب كي يتطهر من الفساد والاختلاس والمحسوبية، وإنما لتطبيق ما اتفق عليه في الطائف منذ عام 1989 من قانون انتخابي لا يخضع للقيد الطائفي، وانتخاب مجلس نواب وطني وتشكيل مجلس شيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية تنحصر صلاحياته في البت في القضايا المصيرية. أما لمن يتذرع بسلاح حزب الله والمحكمة الدولية، القضيتين اللتين يطلب من الشعب اللبناني أن يقدم دمه وروحه فداءهما، فبالإمكان تجميد التعامل معهما، بينما يتم إفراز سلطة جديدة تمثل الشعب بالفعل، ولا تشتري أصواته بالابتزاز والرشوة وامتهان الكرامات.
إذا كان زين العابدين بن علي استمر 23 عاما، وصمد حسني مبارك 30 سنة، فإن النظام الطائفي اللبناني جاثم على صدور اللبنانيين الصابرين والمهادنين منذ عام 1860. وثمة من يقول اليوم لـ150 عاما من التوريث والإقطاع السياسي الدموي الذي يعامل الناس كقطعان من الماشية يضحي بها طوال أيام السنة، كفى. وهو ما يجب أن يسمع، قبل فوات الأوان. صحيح أن الحركة لا تزال في أولها، لكنها تتغذى يوميا من أخبار الثورات التغييرية التي أصبحت أكبر صيحات عام 2011. وإذا تذكرنا أن اللبنانيين عشاق ولهون لآخر التقليعات وأكثرها جنونا وابتكارا، نستنتج أنه من العسير جدا أن يتركوا هذه الصيحة المغرية تفلت من قبضاتهم ويافطاتهم.
-------------------------------
الشرق الاوسط
التحرك بدأ كما يقول المتحمسون، لكن المأساة الكبرى أن ما يحدث في لبنان هو تكرار لما شهدناه في عواصم عربية أخرى، وكأن أحدا لا يريد أن يتعلم الدرس. فالزعامات التقليدية، في بلاد الأرز، فقدت هي الأخرى بوصلتها وقدرتها على الرصد وقراءة المستجدات في المنطقة أو حتى في الشارع الذي تسكن فيه. فبينما كان هؤلاء الشباب ينظمون أنفسهم، ويتداولون بمئات الاقتراحات المدنية اللاطائفية لنظام لبناني جديد يغير حياتهم جذريا، وقف زعماء فريق 14 آذار يلقون خطبا في «البيال» في ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري، أقل ما يقال فيها إنها خارج السياق، وتفتقد إلى الحد الأدنى من الإحساس بحركة التاريخ ونبض الناس. فريق 8 آذار لا يبدو أفضل حالا على الإطلاق، فالشخصيات التي يرشحها لغاية الآن، للمشاركة في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، يحق لأي عاقل أن يصفها بأنها مستهلكة ومخيبة، وكأن لبنان جفت منابعه. أين الوجوه الجديدة؟ ماذا فعلتم بعباقرة الخريجين الذين تلتهمهم بشهية منقطعة النظير شركات عالمية مثل «غوغل» و«فيس بوك» في مراكزها الموزعة في المعمورة؟
الفرصة مواتية لمن يريد أن يصغي ويتعظ، بدل تبني نهج «التطنيش والتشاطر» الذي أثبت فشله المروع في كل من تونس ومصر. الرئيس نجيب ميقاتي وجه محبب من كثيرين، وقضى السنوات الأخيرة، بينما كان التناحر على أشده بين عتاة 8 و14 آذار، ينادي بالوسطية. بمقدور الطرفين المتحجرين اللذين يتناهشان البلد منذ 2005 التفاهم على حكومة وطنية برئاسة ميقاتي تنسحب منها الوجوه المضجرة المكرورة لصالح كفاءات شابة يتم اختيارها لجدارتها المهنية والفكرية، مهمتها العمل على إلغاء الطائفية السياسية، عملا بواحد من أهم بنود اتفاق الطائف الذي تعاديه طبقة منتفعة لا تفكر في غير مصالحها الضيقة، وانتشال البلد من أزماته المعيشية التي تطبق على أنفاس العباد. لبنان ليس بحاجة لانقلاب كي يتطهر من الفساد والاختلاس والمحسوبية، وإنما لتطبيق ما اتفق عليه في الطائف منذ عام 1989 من قانون انتخابي لا يخضع للقيد الطائفي، وانتخاب مجلس نواب وطني وتشكيل مجلس شيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية تنحصر صلاحياته في البت في القضايا المصيرية. أما لمن يتذرع بسلاح حزب الله والمحكمة الدولية، القضيتين اللتين يطلب من الشعب اللبناني أن يقدم دمه وروحه فداءهما، فبالإمكان تجميد التعامل معهما، بينما يتم إفراز سلطة جديدة تمثل الشعب بالفعل، ولا تشتري أصواته بالابتزاز والرشوة وامتهان الكرامات.
إذا كان زين العابدين بن علي استمر 23 عاما، وصمد حسني مبارك 30 سنة، فإن النظام الطائفي اللبناني جاثم على صدور اللبنانيين الصابرين والمهادنين منذ عام 1860. وثمة من يقول اليوم لـ150 عاما من التوريث والإقطاع السياسي الدموي الذي يعامل الناس كقطعان من الماشية يضحي بها طوال أيام السنة، كفى. وهو ما يجب أن يسمع، قبل فوات الأوان. صحيح أن الحركة لا تزال في أولها، لكنها تتغذى يوميا من أخبار الثورات التغييرية التي أصبحت أكبر صيحات عام 2011. وإذا تذكرنا أن اللبنانيين عشاق ولهون لآخر التقليعات وأكثرها جنونا وابتكارا، نستنتج أنه من العسير جدا أن يتركوا هذه الصيحة المغرية تفلت من قبضاتهم ويافطاتهم.
-------------------------------
الشرق الاوسط