في الواقع فإن معظم تلك التحليلات تبدو متسرّعة ومتوهمة، لأسباب عديدة، أهمها، أولا، إنها تنم عن روح سياسية رغبوية، وقاصرة، ترى الواقع في البيانات لا في الاحصائيات، في الرغبات لا في المعطيات، في الانشاءات لا في علاقات القوة.
ثانيا، تقصّدها تجاهل أسباب الصراع بين الطرفين المعنيين، أو التخفّف منها، وهي ثقيلة ومعقدة، ولها تداعيات صعبة…ثالثا، محاولاتها حجب الطابع الوظيفي لسياسات النظام الإيراني القائمة على تصدير “الثورة”، أي تصدير نموذجه، وتعميم نفوذه، بالاستناد إلى ميلشيات طائفية ـ عسكرية، في المنطقة العربية، كالحوثيين (اليمن)، و”حزب الله” وكتائبه (لبنان والعراق)، وزينبيون وفاطميون وعصائب أهل الحق والحشد الشعبي (العراق وسوريا)، إذ تشكل دولة داخل دولها.
رابعا، لا مبالاتها إزاء دور النظام الإيراني في تعزيز الانقسامات الطائفية في مجتمعات المشرق العربي، علما إن ذلك لا يدخل في حسابات تقويتها وتعزيز مقاومتها لإسرائيل، بل عكس ذلك، على ما أثبتت التجربة.
خامسا، اعتبارها أن من شأن ذلك التطور إضعاف، أو مضايقة، الولايات المتحدة، وإسرائيل أيضا، إذ يرى هذا البعض في إيران دولة مقاومة وممانعة، علما إنها لا تفعل شيئا، بذاتها، لمواجهة إسرائيل، رغم أن هذه دأبت على توجيه ضربات لها في سوريا ولبنان والعراق وإيران ذاتها!
سادسا، ظنها أن ذلك التطور يؤذن بأفول الهيمنة الأميركية في العالم، وظهور عالم متعدد الأقطاب، علما أن ذلك العالم موجود فعلا، والصين تحتل مكانتها فيه، بحجمها وبتطورها الاقتصادي، وباستثمارها مسارات العولمة، لذا فإن تطور العلاقة بين أي دولة وإيران، واضطلاع الصين بهذا الدور أو ذاك، لا يقلل من مكانة الولايات المتحدة، لكونها المهيمنة اقتصاديا، وكمصدر لمعظم التطورات والتحولات في العلوم والتكنولوجيا (إلى جانب قوتها العسكرية).
ولعل نظرة متفحصة إلى طبيعة علاقة الصين بالغرب (خاصة بالولايات المتحدة)، تبين مدى اعتماد الصين على الغرب، كسوق لصادراتها (لا يمكن تعويضه)، وكمصدر للعلوم والتكنولوجيا، وهو ما يفسر تردد الصين في دعم روسيا في غزو أوكرانيا، ونمط تصويتها (هي وإيران) في الأمم المتحدة، غير الداعم لذلك الغزو.
على ذلك فإن المشكلة تكمن في طبيعة النظام الإيراني، في رؤيته لذاته ولدوره، وليست في مكان أخر، في هذه الدولة العربية أو تلك، وعلى الأرجح فإن هذا النظام، العصي على التغيير، لا يريد من ذلك الإعلان سوى إصداره، ربما كورقة ضغط ومساومة إزاء الإدارة الأميركية، ولإقامة علاقات طبيعية مع المملكة العربية السعودية، وغيرها، لتعويم وضعه، وفك عزلته، وهو يفعل ذلك، كما نشهد، حتى في دأبه التطبيع مع الولايات المتحدة الأميركية، وابداء الاستعداد لتقديم التنازلات في الملف النووي…في هذا الإطار لنلاحظ، مثلا، ان إيران لم تصوت ولا مرة ضد القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاصة في شأن رفض وإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، على غرار ما فعلت الأنظمة في سوريا وبيلاروسيا وكوريا الشمالية وأريتريا، وفي هذا دلالة واضحة، على حرصها مد الجسور مع الغرب، وخاصة مع الولايات المتحدة الأميركية.
أما في ما يخصّ العالم العربي ربما من المستبعد أن تقوم إيران بتقديم أي شيء، لا للمملكة العربية السعودية ولا غيرها، سيما في اشتغالها على التلاعب بالانقسامات الطائفية في المنطقة، وتوظيفها لها، وفيما يخص الميلشيات التي تعمل كأذرع إقليمية لها، إذ إن أي تغيير في سياساتها، إزاء بلدان الخليج واليمن والمشرق العربي (سوريا ولبنان والعراق)، هو بمثابة تغيير، أو انقلاب، سياسي في إيران ذاتها. والفكرة هنا أن من يرى أن القصة انتهت عليه أن يتأكد من ذلك من إيران ذاتها، بدل أن يتكئ في ذلك على مجرد بيان.
على أية حال فإنه لا يمكن الحديث عن اتفاق سعودي ـ إيراني ناجز، فنحن إزاء بيان أو إعلان نوايا، وليس أكثر من ذلك، إذ إن ملفات الخلاف بين الطرفين، متعددة، ومعقدة، وذات مداخلات، وتداعيات، إقليمية ودولية، أي لا يحسم فيها فقط مواقف البلدين، ومثلا، فإن البيان الصادر تحدث فقط عن احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهما البندان اللذان يشكلان جوهر السياسة الإيرانية، وهوية النظام الإيراني، إذ إن إيران من دون البندين المذكورين لن تكون هي ذاتها. لكن قصة إيران مع البلدان العربية ليست مجرد تدخل خارجي، وإنما هي تشكيل واقع ميلشياوي ـ طائفي، كدولة داخل دولة، وتقسيم مجتمعات المنطقة، إضافة إلى السعي لحيازة قوة نووية تعزز فيها قوتها ومكانتها دوليا وإقليميا.
هكذا، ثمة تسرّع، وتبسيط، ونوع من تورية في تقييم ما حصل، وفي الحكم بانتهاء صفحة وفتح صفحة جديدة، في العلاقات الإيرانية ـ السعودية (وتاليا العربية)، وصعود الصين، وأفول الولايات المتحدة في المنطقة.
من جهة أخرى، واضح أن ثمة توترا في العلاقات الأميركية ـ العربية، وهو توتر بدأ بعد الهجوم الإرهابي في نيويورك وواشنطن (سبتمبر/ أيلول 2001)، وتحديدا مع طرح الرئيس بوش (الابن) مشروع “نشر الديمقراطية في العالم العربي”، و”الشرق الأوسط الكبير” (2002 ـ 2003)، والتخلي عن أحد بنود السياسية الاستراتيجية الأميركية إزاء العالم العربي، وهي المتعلقة بحماية أمن واستقرار الدول الصديقة (مع ضمان امن إسرائيل، واستقرار موارد النفط وعدم تمكين دول أخرى الهيمنة في المنطقة)، الأمر الذي زعزع ثقة عديد من الدول العربية بالسياسة الأميركية.
ثمة عاملان أخران، أثرا في زعزعة تلك العلاقات، أيضا، أولهما، يتعلق بالسكوت الأميركي عن سعي إيران الى تملك سلاح نووي (بالقياس لسابقة العراق)، ولا مبالاتها إزاء زيادة نفوذها في المنطقة، وثانيهما، يتعلق بتوجه الغرب نحو التخفف من الاعتماد على الطاقة الاحفورية، واستبدالها بالطاقة النظيفة (الخضراء)، وهو ما يثير مخاوف دول من تضاؤل مواردها، وتضاؤل الضمانات اللازمة لأمنها واستقرارها.
لكن رغم كل ذلك فإن العلاقات بين الدول العربية (ولاسيما المملكة العربية السعودية) مع الولايات المتحدة، هي قوية جدا، بحيث لا يمكن الاستغناء عنها، سيما في واقع الاعتماد، سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وضمنه الاعتمادية عليها، برغم كل الخلافات والتوترات.
وعليه، الأجدى بعض التأنّي للتأكد مما ستفعله إيران ذاتها، حقا، بمراجعتها لرؤيتها لذاتها ولدورها في المنطقة، وللتأكد من التغيير في طبيعة سياساتها، وسلوكها، وليس الاتكاء على التصريحات أو البيانات، فقط؛ طبعا مع الأمل بأن يحدث ذلك لخير شعب ايران والشعوب العربية.
مجلة المجلة