الأرجح أن يعلن فلاديمير بوتين أن روسيا اليوم تدخل حرباً علنية مع الغرب، وليس فقط مع أوكرانيا، وأن على روسيا أن تكون جاهزة عسكرياً للحرب مع “ناتو” بكل ما يقتضيه هذا التطوّر الخطير في ساحة القتال بما في ذلك توسيع رقعتها الى الأراضي البولندية بعمليات نسفٍ لطرق امدادات “ناتو” العسكرية الى أوكرانيا. عندئذ، لا هروب من حرب مباشرة بين الحلف وروسيا بكل عواقبها. فلماذا لا تخاف القيادات الأميركية والأوروبية من حرب عالمية قد تدفع ببوتين الى استخدام الأسلحة النووية كما هدّد؟ وكيف ستؤثر العمليات العسكرية الهجومية لكل من روسيا وأوكرانيا في شهر آذار (مارس) المقبل على مستقبل الحرب لا سيما إذا فشل الطرفان في حسمها كل لصالحه وتحوّلت الى حرب طويلة لسنوات عديدة؟ ثم، في مناسبة الذكرى الأولى لهذه الحرب المصيرية، مَن خسرها ومَن يربحها حتى الآن، مَن ورّط ومن تورّط فيها، ولمن ستعود أضرارها وفوائدها في نهاية المطاف؟
قبل سنة، لم يتوقع أحد إمكان وقوع حرب أوروبية أو أن يُذكر احتمال حرب نووية تكتيكية أو استراتيجية. اليوم، هناك شبه تعايش مع هذا السيناريو الخطير، من دون الهلع الذي كان في الماضي يرافق ذكر السلاح النووي. إنها ظاهرة جديدة.
المخاوف النووية انحسرت، لكن إمكان استخدام الأسلحة النووية الاستراتيجية ما زال على طاولات القادة العسكريين في روسيا كما في دول “ناتو”. المذهل هو أن استخدام أسلحة نووية تكتيكية بات مقبولاً نوعاً ما، وهو لا يدبّ الذعر. حتى في حال التوسّع الى استخدام أسلحة نووية استراتيجية، هناك انطباع في أن كلاً من الطرفين، روسيا أو الولايات المتحدة، يتوقع التوقّف بعد الضربة الأولى والوحيدة لكل منهما. بكلام آخر، لم يعد ذكر استخدام السلاح النووي الاستراتيجي يعني تلقائياً نهاية العالم.إنما تراجع المخاوف النووية لا يعني زوالها، بل إن صنّاع القرار في العواصم الغربية سيستمعون جيداً الى ما سيقوله فلاديمير بوتين وسيحسبون الحسابات النووية. التهديدات والتوتر شيء، أما تحريك القطع النووية فإنه شيء آخر. رسميّاً، ما زالت الولايات المتحدة تحذّر من العواقب الخطيرة لأي استخدام للأسلحة التكتيكية النووية، وقادتها يدركون جيداً أن فلاديمير بوتين لن يتردد في استخدام الأسلحة النووية إذا باتت المعادلة الحربية مصيرية له شخصياً ولروسيا.
من المفارقة أن الولايات المتحدة وألمانيا وغيرهما من دول “ناتو” تلجأ الى الصين لحشد معارضتها القاطعة لاستخدام روسيا للسلاح النووي. جهود المستشار الألماني أولاف شولتس قادته الى الصين للاجتماع بالرئيس شي جينبينغ وإعلانهما معاً أنه يجب عدم استخدام الأسلحة النووية في هذه الحرب. وزير خارجية الصين سيتوجه الى موسكو في أعقاب مؤتمر ميونيخ للأمن هذا الأسبوع بهدف التنسيق للقاء بين الرئيسين الصيني والروسي لربما في شهر نيسان (أبريل) المقبل. ومن المفيد أن نستذكر أن زيارة فلاديمير بوتين الى الصين في مناسبة الألعاب الأولمبية بداية 2021 ساهمت في دفع توقيت انطلاق “العمليات العسكرية” الروسية -كما سمّاها بوتين- لأن الصين لم تكن راضية وهي ما زالت غير جاهزة لمباركة هذه الحرب.
المخيف هو أن في حال شعر الرئيس الروسي ومؤسسته العسكرية أن لا خيار لروسيا سوى عدم خسارة الحرب الأوكرانية حتى وإن تطلّب ذلك استخدام الأسلحة النووية، لن تتمكن الصين من التأثير في القرار. الصين لا تريد للغرب أن يهزم روسيا لأن ذلك سيُخرج روسيا من صنع القرار العالمي وبالتالي سيسحب من الصين شريكاً مهماً. لكن الصين لا يناسبها استخدام روسيا للأسلحة النووية. وهذه معضلة.
إنها حرب أعصاب بين قادة الغرب وقادة روسيا السياسيين والعسكريين. لماذا لا يخاف قادة الغرب من ردود فعلٍ نووية للرئيس الروسي؟ لأنهم يعتقدون أنه هو الذي سيخاف من ردود فعلهم، وسيخاف كثيراً. إنها مغامرة خطرة.
التصعيد العسكري في الأسابيع المقبلة سيتفاقم وسط إصرار دول “ناتو” على تحويل المعادلة الحربية لصالح أوكرانيا عمليّاً وفعليّاً في ساحة القتال، ووسط عزم روسيا على عمليات هجومية ونوعيّة تقلب موازين الحرب لصالحها. خطاب بوتين يوم الثلثاء، في 21 شباط (فبراير) الجاري، سيكون بالغ الأهمية لأنه سويّاً مع العمليات الهجومية الروسية والأوكرانية سيقرر الخطوات اللاحقة، ومَن قد يربح الحرب.
هناك من يتحرك وراء الكواليس بهدف إيجاد منبرٍ ما لبدء محادثات بين روسيا وأوكرانيا وحلف شمال الأطلسي للتوصل الى اتفاقات موقتة بضمانات أمنية، وليس للتوصل الى الهدف المستحيل حالياً أي الى معاهدة سلمية. هذه الجهود تُبذَل وراء الكواليس استعداداً لما بعد المواجهة الكبرى، أي العمليات الهجومية لكل من الطرفين، والتي قد لا تنتهي بخسارة طرف وانتصار آخر.
رئيس بيلاروسيا الكسندر لوكاشينكو قال هذا الأسبوع إن أوروبا تبعث الى مينسك برسائل للتوسط وأن أوروبا ترغب في إنهاء الصراع. بعض جهوده يبدو غير جدّي كدعوته للرئيس الأميركي جو بايدن الى مينسك معرباً عن استعداده لتنظيم لقاء له مع الرئيس فلاديمير بوتين في العاصمة البيلاروسية. لوكاشينكو نفى مراراً أن بلاده تنجر للحرب الى جانب روسيا في أوكرانيا وأكد أنه لن يأمر قواته بالقتال الى جانب روسيا إلا إذا شنت دولة أخرى هجوماً على بلاده. هذا مطمئن وقد تكون وساطته مقبولة لأنه مهتم جداً بتحسين علاقاته مع الغرب.
0 seconds of 0 secondsVolume 0%
الرئيس بايدن سيزور بولندا غداً الاثنين والثلثاء المقبل حيث سيلتقي أيضاً بزعماء دول “بوخارست التسع” (بلغاريا والمجر ولاتفيا وليتوانيا وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك وأستونيا). وجود الرئيس الأميركي في بولندا التي تؤدي دوراً أساسياً في ايصال الإمدادات العسكرية من دول “ناتو” الى أوكرانيا، له دلالات سياسية قد تُترَجم الى عسكرية في حال وجدها الرئيس بوتين استفزازية فوق العادة. فهناك الآن معادلة التخويف والترهيب intimidation التي تلعب دوراً مهماً في بسيكولوجية الحرب لدى الطرفين. وهي بدورها عنصر مجازفة.
ثم هناك عنصر الاستفزاز المدروس مثل تصريحات أميركية تفيد بدعم الولايات المتحدة لضربات أوكرانية عسكرية ضد أهداف عسكرية روسية في منطقة القرم. وكيلة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند قالت إن “هذه أهداف شرعية، أوكرانيا تضربها، ونحن ندعمها”. معروف أن روسيا ضمّت القرم عام 2014، وأن مسألة القرم الواقعة على البحر الأسود بالغة الحساسية لفلاديمير بوتين وهيبته روسيّاً.
قبل سنة تماماً وبتاريخ 27 شباط (فبراير) 2022، كتبتُ مقالتي هنا بعنوان “أسدل الستار الحديدي على روسيا، وبوتين بلا استراتيجية خروج من الورطة”. قلت حينها أن بين أكبر أخطاء الرئيس الروسي أنه دخل حرباً من دون استراتيجية خروج منها، وأنه أساء تقدير ردود فعل دول حلف “ناتو”، كما أساء تقدير الحسابات العسكرية الأوكرانية. فهو أسقط روسيا في مشروع حرب استنزاف للقوات الروسية في أوكرانيا ستكون أكثر كلفة لروسيا من مغامراتها عند غزوها أفغانستان- ما أدّى الى العد العكسي لنهاية الاتحاد السوفياتي.
ليست لدى بوتين استراتيجية بقاء في أوكرانيا، ولا استراتيجية خروج. أغرق نفسه في نفق، ولا يمكن له العودة الى الوراء. وضع سياساته انطلاقاً من غضبه، ما اعتبره وقاحة الغرب وإهانته له شخصياً عندما رفضت الولايات المتحدة والدول الأوروبية تهديداته واستهترت بالإنذار ultimatum الذي وجهه اليهم في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2021 عند اجتماعه الشهير مع مؤسسته العسكرية في وزارة الدفاع الروسية مطالباً بضمانات مكتوبة بعدم توسيع عضوية “الأطلسي” وبتقليص تواجده في أوروبا الشرقية.فلاديمير بوتين قرّر نسف النظام العالمي لإعادة خلط الأوراق والمساومات على نظام عالمي جديد، فوجد الغرب له بالمرصاد- ولعل الغرب أوقعه في الورطة. فالولايات المتحدة كانت تعهّدت شفهياً بعدم توسيع عضوية حلف “ناتو” عندما وافق الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف على حل حلف وارسو- ثم لم تفِ بتعهداتها.
دول حلف “ناتو” كانت تدرك تماماً معنى كلامها عن إدخال أوكرانيا عضواً في الحلف ومدى استفزاز مثل هذا الإجراء للعنفوان الروسي، كما للمعادلة العسكرية بين الغرب وروسيا. فعلت ما فعلته عمداً وليس سهواً. ولعلها تعمّدت استدعاء فلاديمير بوتين الى الورطة.
في نهاية المطاف، إن فلاديمير بوتين هو المسؤول عن الوقوع في فخ الاستفزاز وفي الورطة، تماماً كما كان قد فعل قبله كثيرون من أبرزهم الرئيس العراقي صدام حسين. البعض يحتج على مثل هذه المقارنة المقصود منها نصب الفخ، وليس كيفية نهاية الرجل. فبوتين رئيس دولة نووية، وبالتالي لديه أدوات. وهذا يبقى مخيفاً بغض النظر إنْ انحسرت المخاوف من أسلحة نووية تكتيكية.
اليوم، إن روسيا تدفع ثمناً باهظاً لأخطاء سياسية وعسكرية بعدما أسدل الغرب عليها الستار الحديدي عبر عقوبات تكبل كامل اقتصادها وتشل حركة البنوك والمعاملات المالية للشركات، عقوبات نفط وغاز وتكنولوجيا، عقوبات سيستوعبها الشعب الروسي لاحقاً، وقد ينتفض.
ما قد تراهن عليه القيادات الغربية هو حرب طويلة الأمد تستنزف روسيا- في حال عدم التمكن من حسمها عسكرياً بسرعة. هذا سيناريو كارثي لروسيا سيؤدّي الى تآكلها والى ازدياد التوتر الداخلي فيها، ثم الى التأثير في الانتخابات الرئاسية الروسية عام 2024. وهكذا يكون المنتصر في الحرب حلف “ناتو” الذي ازداد قوة وتوسعاً وتعاضداً ومعه أوكرانيا، بسبب الحرب الروسية عليها، ويكون الخاسر روسيا ومعها فلاديمير بوتين بسبب أخطائه المصيرية. هذا هو السيناريو الذي تتصوره القيادات الغربية.
كل هذا يبقى رهن المفاجآت ورهن قرارات قد تنسف كل الرهانات، الغربية منها والروسية. والكلام يبقى عن الأدوات النووية لدى دولة لن ترضى قياداتها المدنية والعسكرية بالاستسلام.
النهار العربي