في خطبة الامام علي دلالات اجتماعية وسياسية هامة، فهي تبين بوضوح "اخلاق" أهل العراق ومواضع الخلاف والاختلاف. فهم يسلكون حسب قيمهم البدوية التي نشأوا عليها، يتظاهرون بالتمسك بالدين الاسلامي شكليا ولكنهم يسلكون في حياتهم اليومية حسب قيمهم البدوية عمليا. وقد حدث هذا مع الامام الحسين ايضا. فعندما ثار ضد حكم يزيد ابن معاوية، الذي لم يحظ على اي تأييد من المسلمين وبصورة خاصة من أهل مكة والكوفة، الذين اعترضوا على خلافته ووقفوا ضده. وعندما اجتمع أهل الكوفة وكتبوا الى الامام الحسين ان يقدم اليهم حتى يجتمعوا معه على الحق. وحين قدم اليهم في كربلاء، نكثوا العهد بعد ان بايعوه وتقاعسوا عن نصرته وحدثت مأساة كربلاء المروعة، أول تراجيديا في الاسلام.
يقول ابن الاثير "فلما مرض معاوية الذي مات فيه، دعا ابنه يزيد فقال: "انظر أهل العراق، فان سألوك ان تعزل عنهم كل يوم عاملا فأفعل، فان عزل عامل أيسر من ان تشهر عليك مائة الف سيف"!.
هل يعني معاوية سرعة تقلب مزاج العراقيين وعدم رضاهم عن الحكام وميلهم للقيادة والزعامة؟ هذا الرأي يذكرنا ببيت من الشعر الحديث قاله علي الشرقي في وصفه ميل العراقيين للقيادة والزعامة:
قومي رؤوس كلهم أرأيت مزرعة البصل
ويعني بذلك اذا كانت رؤوسهم متشابهة فينبغي ان يكونوا متساوين في حق الزعامة.
لقد شاعت مقولة: " يا اهل العراق يا اهل الشقاق والنفاق" على ألسنة العرب والعراقيين ونسبوها الى الحجاج بن يوسف الثقفي(توفى عام 95 هجرية) الذي ذم اهل العراق لعدم ثبات ارائهم وميولهم السياسية. فعندما تولى حكم العراق وذهب يخطب في المسجد الجامع قال فيهم كلمته المشهورة: "يا اهل العراق يا اهل الشقاق والنفاق". كما نسب البعض هذه المقولة الى الامام علي ايضا. ولكن الكتاب والمؤرخين اختلفوا حول نسب هذه المقولة. فمنهم من ارجعها الى الحجاج بن يوسف الثقفي ومنهم من ارجعها الى الامام علي. غير ان ابن قتيبة يرى بان قائلها الاصلي هو عبد الله بن الزبير، بعد مقتل اخيه مصعب بن الزبير واليه على العراق (عام 73هجرية) وليس العراقيين، وانما القرشيين بقيادة عبد الملك بن مروان، حيث قال بن الزبير: "ألا ان اهل الشقاق والنفاق باعوه ( أي مصعب ) باقل ثمن كانوا يأخذونه به".
وكان الامام علي ذم أهل البصرة بسبب حرب الجمل، وذم العراقيين لانهم تقاعسوا عن القتال وتكذيبهم اياه قياسا بحماس اهل الشام للقتال وتصديقهم لمعاوية، ولم يصفهم على العموم باهل الشقاق والنفاق، فهو خص اهل البصرة بقوله: "عهدكم شقاق ودينكم نفاق"، مع ان قبائل العرب التي سكنت البصرة بعد الفتح الاسلامي كانت عثمانية وأموية الهوى.
ويقال ان الاسكندر المقدوني كتب الى استاذه ارسطو، الفيلسوف الاغريقي المعروف، بعد فتحه العراق عام 331 قبل الميلاد ما يلي: " لقد اعياني اهل العراق، ما اجريت عليهم حيلة الا وجدتهم قد سبقوني الى التخلص منها، فلا استطيع الايقاع بهم، ولا حيلة لي معهم الا ان اقتلهم عن آخرهم". ويقال ان ارسطو اجاب الاسكندر بما يلي: "لا خير لك من ان تقتلهم، ولو افنيتهم جميعا، فهل تقدر على الهواء الذي غذى طباعهم وخصهم بهذا الذكاء؟، فان ماتوا ظهر في موضعهم من يشاكلهم، فكأنك لم تصنع شيئا".
وعلى اية حال، فاذا كانت هذه القصة صحيحة او مختلقة، فانها تلتقي مع ما ذكره الجاحظ في وصف اهل العراق بأنهم اهل نظر وفطنة وذكاء تدفع الى الجدل والنقد واظهار العيوب مع قلة الطاعة والمعصية.
سأل عميد الادب العربي طه حسين الشيخ محمد رضا الشبيبي وهما يتحاوران في احدى جلسات المجمع العلمي المصري: لماذا كان العراقيون دائما ثائرين لا يستقرون على حال ولا يرتضون حاكما؟ فقد قرأت في تاريخ العراق منذ الفتح الاسلامي حتى الآن، وقلما وجدت حقبة خالية من الفتن والقلاقل؟ اجابه الشبيبي بسؤال اغاض طه حسين، قال: اتسمح ان اسألك انا ايضا؟ لماذا كان المصريين دائما خانعين خاضعين؟ لقد قرأت تاريخ مصر منذ الفتح الاسلامي وقبله ايضا فوجدت المصريين دائما يسترضون حكامهم مهما جاروا وطغوا، ويخفضون الهام لكل متحكم فيهم حتى لشجرة الدر؟
كما وصف الرئيس حسني مبارك، وهو يتحدث في احدى القنوات الفضائية العربية دون ان يتطرق الى العراق والعراقيين كونهم اصعب الناس، وانه عاش بينهم في زمن مضى لمدة شهرين او اكثر في قاعدة الحبانية الجوية عندما كان طيارا وعرف حقائق لم يدركها غيره.: قال " ليس هينا التعامل مع العراقيين، انه شعب متنوع ومتعدد وصعب الطباع. وكما علق قائلا بان العراقيين يتصفون بالعناد والكبرياء والعنجهية ولا يمكنهم ان يستمعوا ابدا الى اي عربي ينصحهم، ولا يمكنهم ان يتقبلوا ابدا حتى شرطي عربي في شوارع بغداد ينظم عملية السير"
وقبل جمال عبد الناصر وحسني مبارك كان علي طنطاوي وزكي مبارك وغيرهم تكلموا كثيرا عن طيبة العراقيين وحسن معشرهم وقوة ارادتهم وكرم ضيافتهم، عن خبرة وتجربة، لانهما عاشا في العراق وعملا في الجامعة لفترة ليست قصيرة في منتصف القرن الماضي.
لقد علمنا التاريخ بان العراق تعرض على مدى تاريخه الطويل لحروب وغزوات وكوارث وصراعات داخلية. وكان سقوط بغداد على ايدي التتار قد حول بغداد الى خرائب وانقاض، حيث " احرقت كتب العلم التي كانت في سائر العلوم والفنون التي ما كانت في الدنيا قبل.. انهم بنوا بها جسرا من الطين والماء عوضا عن الآجر".
وقد حاول بعض المؤرخين تفسير العنف والقسوة والشقاق والنفاق بجهل العراقيين وميلهم الى العنف ورغبتهم في العصيان التي اصبحت سجية من سجاياهم. وارجع البعض الآخر منهم هذه السجية الى تفوق عقول العراقيين وحذاقتهم، وسعى الطرفان الى اضفاء الشرعية على اقوالهم باسنادها الى احاديث شريفة، في حين ارجعها آخرون الى عنف الطبيعة وقسوتها وتبدلات المناخ وطغيان فيضان الانهار. كما كانت آلهة العراقيين القدماء تمتاز بالعنف والقوة والبطش، كالاله انليل وكلكامش.
ان المبالغة في تفسير العنف برده الى الحتمية الجغرافية يلغي بالضرورة دور الانسان ووعيه وظروفه الموضوعية والذاتية، باعتباره جوهرا فاعلا في تقرير مصيره، فالجاحظ، احد كبار المفكرين، المعتزلي الرأي والعقلاني المنهج، يفسر العلة في عصيان اهل العراق على الامراء بقوله انهم "اهل نظر وفطنة ثاقبة، ومع النظر والفطنة يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤوساء واظهار عيوب الامراء. ثم يقول وما زال العراق موصوفا بقلة الطاعة وبالشقاق على أولي الرئاسة.
ان رأي الجاحظ يكاد يشبه ما دعاه علي الوردي بشيوع " النزعة الجدلية" التي يتصف بها اهل العراق، التي تجعل شعبا من الشعوب فطنا متيقضا متفتح الذهن من ناحية، وكثير الشغب والانتقاد تجاه حكامه من ناحية اخرى. فأهل العراق هم على النقيض من غيرهم الذين اعتادوا ان يكونوا طائعين ومنصاعين يصدقون ما يقوله لهم حكامهم ويأتمرون بأمرهم. فهم يجادلون في كل قضية ويتنازعون حولها. وهم ضعفاء من الناحية السياسية واقوياء من الناحية الفكرية، ولذلك فان الفرد العراقي بحسب الوردي، اصبح مزدوج الشخصية، يرتفع بافكاره الى مستوى اعلى من مستوى بيئته الاجتماعية، ولكنه لا يستطيع ان يكون طيعا يصدق كل ما يقال له، ولذلك نراه يعاند ويجادل. ويحلل الوردي هذه الخاصية فيقول "ومن طبيعة الجدل انه يثير في الناس التساؤل والتطلع ولكنه يضعف فيهم الركود الفكري ". كما يصف اهل العراق "بانهم منشقون على انفسهم او متفرقون، انما لا يصح ان نصفهم غدرة على منوال ما شاع عنهم"، لانهم يختلفون عن غيرهم من الناس.
ومن الممكن مناقشة هذا الاشكالية ايضا: فهل ان هذه الذهنية او العقلية العراقية تعود الى ان نزعة الجدل التي جعلت من سماتهم الشخصية الانفة والكبرياء والزهو والتصلب في الرأي بحيث تصعب قيادتهم؟ وهل ان الوردي مصيب في تشخيصه لازدواجية شخصية الفرد العراقي وتناشزها وتذبذبها بين قيم البداوة وقيم الحضارة؟ ام ان الحتمية الجغرافية كانت قد دفعت بعض المفكرين الى ارجاع خصائص الشخصية في العراق ليس الى التناقض بين البداوة والحضارة والصراع بينهما فحسب، بل الى جغرافية العراق الطبيعية والمناخ القاري الحار صيفا والقارص البرودة شتاءا، وكذلك الى طبيعة نهري دجلة والفرات، عصبي الحياة فيه، أم الى كل هذه العوامل مجتمعة؟!.
وليس من الغريب ان يقرن الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري تذبذب شخصية الفرد العراقي بتذبذب نهر دجلة بين فيضان مسرف في الشتاء وجفاف مسرف في الصيف. فهو يقول:
سلام على هضبات العراق وشطيه والجرف والمنحنى
ودجلة لهو الصبايا الملاح تخوض منها بماء صرى
تريك العراقي في الحالتين يسرف في شحه والندى
ومع ان هذه الاراء والنظريات تساهم في القاء الضوء على معرفة تأثير البيئة والطبيعة الجغرافية وتأثيرها على الشخصية، إلا ان الخصائص والسمات التي تطبع شخصية الفرد العراقي هي ليست صفات نابعة من جغرافية العراق وبيئته الطبيعية فقط بقدر ما هي خصائص وسمات اجتماعية نفسية مكتسبة ايضا خلال تطوره التاريخي المتقطع، مثلما ترتبط بالبيئة المجتمعية والثقافة القمعية والسلطات الابوية ـ الاستبدادية التي وقفت حجر عثرة امام اية امكانية لتطور طبيعي لمجتمع سليم وبالتالي لتطور خصائص وسمات لشخصية عراقية متوازنة. كما ان الخصائص والسمات التي طبعت شخصية الفرد العراقي هي ليست وراثية وثابتة بقدر ما هي مكتسبة ونسبية في الزمان والمكان وترتبط بظروف وشروط تاريخية واجتماعيةـ ثقافية واقتصادية-سياسية متعددة.
يقول ابن الاثير "فلما مرض معاوية الذي مات فيه، دعا ابنه يزيد فقال: "انظر أهل العراق، فان سألوك ان تعزل عنهم كل يوم عاملا فأفعل، فان عزل عامل أيسر من ان تشهر عليك مائة الف سيف"!.
هل يعني معاوية سرعة تقلب مزاج العراقيين وعدم رضاهم عن الحكام وميلهم للقيادة والزعامة؟ هذا الرأي يذكرنا ببيت من الشعر الحديث قاله علي الشرقي في وصفه ميل العراقيين للقيادة والزعامة:
قومي رؤوس كلهم أرأيت مزرعة البصل
ويعني بذلك اذا كانت رؤوسهم متشابهة فينبغي ان يكونوا متساوين في حق الزعامة.
لقد شاعت مقولة: " يا اهل العراق يا اهل الشقاق والنفاق" على ألسنة العرب والعراقيين ونسبوها الى الحجاج بن يوسف الثقفي(توفى عام 95 هجرية) الذي ذم اهل العراق لعدم ثبات ارائهم وميولهم السياسية. فعندما تولى حكم العراق وذهب يخطب في المسجد الجامع قال فيهم كلمته المشهورة: "يا اهل العراق يا اهل الشقاق والنفاق". كما نسب البعض هذه المقولة الى الامام علي ايضا. ولكن الكتاب والمؤرخين اختلفوا حول نسب هذه المقولة. فمنهم من ارجعها الى الحجاج بن يوسف الثقفي ومنهم من ارجعها الى الامام علي. غير ان ابن قتيبة يرى بان قائلها الاصلي هو عبد الله بن الزبير، بعد مقتل اخيه مصعب بن الزبير واليه على العراق (عام 73هجرية) وليس العراقيين، وانما القرشيين بقيادة عبد الملك بن مروان، حيث قال بن الزبير: "ألا ان اهل الشقاق والنفاق باعوه ( أي مصعب ) باقل ثمن كانوا يأخذونه به".
وكان الامام علي ذم أهل البصرة بسبب حرب الجمل، وذم العراقيين لانهم تقاعسوا عن القتال وتكذيبهم اياه قياسا بحماس اهل الشام للقتال وتصديقهم لمعاوية، ولم يصفهم على العموم باهل الشقاق والنفاق، فهو خص اهل البصرة بقوله: "عهدكم شقاق ودينكم نفاق"، مع ان قبائل العرب التي سكنت البصرة بعد الفتح الاسلامي كانت عثمانية وأموية الهوى.
ويقال ان الاسكندر المقدوني كتب الى استاذه ارسطو، الفيلسوف الاغريقي المعروف، بعد فتحه العراق عام 331 قبل الميلاد ما يلي: " لقد اعياني اهل العراق، ما اجريت عليهم حيلة الا وجدتهم قد سبقوني الى التخلص منها، فلا استطيع الايقاع بهم، ولا حيلة لي معهم الا ان اقتلهم عن آخرهم". ويقال ان ارسطو اجاب الاسكندر بما يلي: "لا خير لك من ان تقتلهم، ولو افنيتهم جميعا، فهل تقدر على الهواء الذي غذى طباعهم وخصهم بهذا الذكاء؟، فان ماتوا ظهر في موضعهم من يشاكلهم، فكأنك لم تصنع شيئا".
وعلى اية حال، فاذا كانت هذه القصة صحيحة او مختلقة، فانها تلتقي مع ما ذكره الجاحظ في وصف اهل العراق بأنهم اهل نظر وفطنة وذكاء تدفع الى الجدل والنقد واظهار العيوب مع قلة الطاعة والمعصية.
سأل عميد الادب العربي طه حسين الشيخ محمد رضا الشبيبي وهما يتحاوران في احدى جلسات المجمع العلمي المصري: لماذا كان العراقيون دائما ثائرين لا يستقرون على حال ولا يرتضون حاكما؟ فقد قرأت في تاريخ العراق منذ الفتح الاسلامي حتى الآن، وقلما وجدت حقبة خالية من الفتن والقلاقل؟ اجابه الشبيبي بسؤال اغاض طه حسين، قال: اتسمح ان اسألك انا ايضا؟ لماذا كان المصريين دائما خانعين خاضعين؟ لقد قرأت تاريخ مصر منذ الفتح الاسلامي وقبله ايضا فوجدت المصريين دائما يسترضون حكامهم مهما جاروا وطغوا، ويخفضون الهام لكل متحكم فيهم حتى لشجرة الدر؟
كما وصف الرئيس حسني مبارك، وهو يتحدث في احدى القنوات الفضائية العربية دون ان يتطرق الى العراق والعراقيين كونهم اصعب الناس، وانه عاش بينهم في زمن مضى لمدة شهرين او اكثر في قاعدة الحبانية الجوية عندما كان طيارا وعرف حقائق لم يدركها غيره.: قال " ليس هينا التعامل مع العراقيين، انه شعب متنوع ومتعدد وصعب الطباع. وكما علق قائلا بان العراقيين يتصفون بالعناد والكبرياء والعنجهية ولا يمكنهم ان يستمعوا ابدا الى اي عربي ينصحهم، ولا يمكنهم ان يتقبلوا ابدا حتى شرطي عربي في شوارع بغداد ينظم عملية السير"
وقبل جمال عبد الناصر وحسني مبارك كان علي طنطاوي وزكي مبارك وغيرهم تكلموا كثيرا عن طيبة العراقيين وحسن معشرهم وقوة ارادتهم وكرم ضيافتهم، عن خبرة وتجربة، لانهما عاشا في العراق وعملا في الجامعة لفترة ليست قصيرة في منتصف القرن الماضي.
لقد علمنا التاريخ بان العراق تعرض على مدى تاريخه الطويل لحروب وغزوات وكوارث وصراعات داخلية. وكان سقوط بغداد على ايدي التتار قد حول بغداد الى خرائب وانقاض، حيث " احرقت كتب العلم التي كانت في سائر العلوم والفنون التي ما كانت في الدنيا قبل.. انهم بنوا بها جسرا من الطين والماء عوضا عن الآجر".
وقد حاول بعض المؤرخين تفسير العنف والقسوة والشقاق والنفاق بجهل العراقيين وميلهم الى العنف ورغبتهم في العصيان التي اصبحت سجية من سجاياهم. وارجع البعض الآخر منهم هذه السجية الى تفوق عقول العراقيين وحذاقتهم، وسعى الطرفان الى اضفاء الشرعية على اقوالهم باسنادها الى احاديث شريفة، في حين ارجعها آخرون الى عنف الطبيعة وقسوتها وتبدلات المناخ وطغيان فيضان الانهار. كما كانت آلهة العراقيين القدماء تمتاز بالعنف والقوة والبطش، كالاله انليل وكلكامش.
ان المبالغة في تفسير العنف برده الى الحتمية الجغرافية يلغي بالضرورة دور الانسان ووعيه وظروفه الموضوعية والذاتية، باعتباره جوهرا فاعلا في تقرير مصيره، فالجاحظ، احد كبار المفكرين، المعتزلي الرأي والعقلاني المنهج، يفسر العلة في عصيان اهل العراق على الامراء بقوله انهم "اهل نظر وفطنة ثاقبة، ومع النظر والفطنة يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤوساء واظهار عيوب الامراء. ثم يقول وما زال العراق موصوفا بقلة الطاعة وبالشقاق على أولي الرئاسة.
ان رأي الجاحظ يكاد يشبه ما دعاه علي الوردي بشيوع " النزعة الجدلية" التي يتصف بها اهل العراق، التي تجعل شعبا من الشعوب فطنا متيقضا متفتح الذهن من ناحية، وكثير الشغب والانتقاد تجاه حكامه من ناحية اخرى. فأهل العراق هم على النقيض من غيرهم الذين اعتادوا ان يكونوا طائعين ومنصاعين يصدقون ما يقوله لهم حكامهم ويأتمرون بأمرهم. فهم يجادلون في كل قضية ويتنازعون حولها. وهم ضعفاء من الناحية السياسية واقوياء من الناحية الفكرية، ولذلك فان الفرد العراقي بحسب الوردي، اصبح مزدوج الشخصية، يرتفع بافكاره الى مستوى اعلى من مستوى بيئته الاجتماعية، ولكنه لا يستطيع ان يكون طيعا يصدق كل ما يقال له، ولذلك نراه يعاند ويجادل. ويحلل الوردي هذه الخاصية فيقول "ومن طبيعة الجدل انه يثير في الناس التساؤل والتطلع ولكنه يضعف فيهم الركود الفكري ". كما يصف اهل العراق "بانهم منشقون على انفسهم او متفرقون، انما لا يصح ان نصفهم غدرة على منوال ما شاع عنهم"، لانهم يختلفون عن غيرهم من الناس.
ومن الممكن مناقشة هذا الاشكالية ايضا: فهل ان هذه الذهنية او العقلية العراقية تعود الى ان نزعة الجدل التي جعلت من سماتهم الشخصية الانفة والكبرياء والزهو والتصلب في الرأي بحيث تصعب قيادتهم؟ وهل ان الوردي مصيب في تشخيصه لازدواجية شخصية الفرد العراقي وتناشزها وتذبذبها بين قيم البداوة وقيم الحضارة؟ ام ان الحتمية الجغرافية كانت قد دفعت بعض المفكرين الى ارجاع خصائص الشخصية في العراق ليس الى التناقض بين البداوة والحضارة والصراع بينهما فحسب، بل الى جغرافية العراق الطبيعية والمناخ القاري الحار صيفا والقارص البرودة شتاءا، وكذلك الى طبيعة نهري دجلة والفرات، عصبي الحياة فيه، أم الى كل هذه العوامل مجتمعة؟!.
وليس من الغريب ان يقرن الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري تذبذب شخصية الفرد العراقي بتذبذب نهر دجلة بين فيضان مسرف في الشتاء وجفاف مسرف في الصيف. فهو يقول:
سلام على هضبات العراق وشطيه والجرف والمنحنى
ودجلة لهو الصبايا الملاح تخوض منها بماء صرى
تريك العراقي في الحالتين يسرف في شحه والندى
ومع ان هذه الاراء والنظريات تساهم في القاء الضوء على معرفة تأثير البيئة والطبيعة الجغرافية وتأثيرها على الشخصية، إلا ان الخصائص والسمات التي تطبع شخصية الفرد العراقي هي ليست صفات نابعة من جغرافية العراق وبيئته الطبيعية فقط بقدر ما هي خصائص وسمات اجتماعية نفسية مكتسبة ايضا خلال تطوره التاريخي المتقطع، مثلما ترتبط بالبيئة المجتمعية والثقافة القمعية والسلطات الابوية ـ الاستبدادية التي وقفت حجر عثرة امام اية امكانية لتطور طبيعي لمجتمع سليم وبالتالي لتطور خصائص وسمات لشخصية عراقية متوازنة. كما ان الخصائص والسمات التي طبعت شخصية الفرد العراقي هي ليست وراثية وثابتة بقدر ما هي مكتسبة ونسبية في الزمان والمكان وترتبط بظروف وشروط تاريخية واجتماعيةـ ثقافية واقتصادية-سياسية متعددة.