كلما مر الوقت يصبح التحدي أمام القوات أكثر تعقيداً. حماس منظمة إرهابية، لكنها في الدفاع تحارب بأساليب حرب العصابات. لا أفضلية من ناحيتها للتصادم المباشر مع الجيش الذي يتمتع بتفوق كبير في التكنولوجيا وقوة النيران. حماس تبحث عن نقاط ضعف يمكنها من خلالها جباية ثمن باهظ من الجيش الإسرائيلي. المتحدث بلسان الجيش، العميد دانييل هاجري، اعترف بإجراء “معارك صعبة في غزة”، وأن “لذلك أثماناً”.
خلال 20 سنة اختلف الجيش الإسرائيلي وناقش مسألة الغزو البري. الادعاءات السائدة قالت إن القوات البرية، بالأساس الاحتياط، غير مدربة ومؤهلة لمهمة معقدة جداً في منطقة مبنية، وأن الجمهور في إسرائيل سيجد صعوبة في مواجهة حجم الخسائر. هذه المرة الحكومة والجيش حسموا هذا التردد لصالح قتال صعب في القطاع، وذلك إزاء خطورة الهجوم الذي نفذته حماس. السؤال هو: هل ستكون هذه العملية وبحق ناجعة كما أملوا قبل أن تحسم؟ هذا السؤال سيتضح فيما بعد رغم تسجيل إنجازات عملياتية.
في الأيام الأولى جرت العملية البرية بصورة منظمة، كما أن كل الوحدات التي شاركت في العملية اجتازت في السنوات الأخيرة تدريبات مفصلة على إمكانية حدوث حرب في غزة. الخطط العملية السابقة كانت أقل طموحاً واحتاجت إلى إعادة ملاءمة بعد الهجوم الإرهابي في 7 تشرين الأول. ولكن الحديث هنا لا يدور عن تحد لم يستعد الجيش الإسرائيلي له جيداً. لا يمكن تجاهل تأثير عوامل أخرى، مثل المعنويات القتالية والإيمان بعدالة القضية. رغم غضب كبير لدى الحكومة ورؤساء جهاز الأمن المشاركين في فشل المفاجأة، يبدو أن القادة والجنود ينشغلون الآن في بذل الجهود للمس بحماس.
تتركز النشاطات البرية الآن على شمال القطاع، المفصول بوادي غزة. الأبعاد غير كبيرة: عرض القطاع في الجزء الضيق منه هو بالكاد 6 كم. هناك مرحلة يجب على السهم الأزرق الذي يعكس حركة قوات الجيش الإسرائيلي على الخارطة أن يتوقف وأن يبدأ بالبحث عن مهمات أخرى له: تدمير الأنفاق والتمشيط بحثاً عن مسلحين وسلاح (في سيناريو متفائل أيضاً البحث عن مخطوفين). كلما ضيقت إسرائيل الحصار، فإنها تواجه مخاطرة أن تصبح القوات ثابتة ومكشوفة للإصابة.
تطرح أيضاً مسألة الوقت؛ فالجيش يستعد لأشهر كثيرة من نشاطات مستمرة في القطاع. وتفضل الإدارة الأمريكية تجنب إسرائيل للوجود الدائم، وفي مرحلة ما قد تكون أسابيع، يجب عليها التركيز على اقتحامات عسكرية (دخول وخروج) لأهداف معينة؛ فالصبر الدولي محدود. ومشاهد الدمار التي تتسبب بها إسرائيل في القطاع تجعل الرأي العام في بعض الدول الغربية يميل ضدها. ولمحاولة تقليص الأضرار وافقت إسرائيل على زيادة المساعدات الإنسانية لجنوب القطاع. الآن يناقشون إمكانية إدخال عشرات الشاحنات من مصر يومياً. تشترط إسرائيل ذلك بفحص دقيق. الأزمة الإنسانية في القطاع كبيرة، ومن شأن ذلك أن يكون له تأثير على حرية عمل الجيش الإسرائيلي لفترة طويلة.
معضلة “حزب الله”
أمس، أطلق المتمردون الحوثيون، شركاء إيران، صواريخ بالستية وطائرات مسيرة من اليمن نحو إيلات، وتم اعتراضها بنجاح فوق البحر الأحمر. هذا جزء من الجهود الإيرانية المخطط لها لدعم حماس في الحرب ضد إسرائيل. ولكن بؤرة المخاطرة الرئيسية بقيت في جبهة لبنان. معضلة “حزب الله” ستتعزز كلما تعمق اختراق الجيش الإسرائيلي في قلب غزة. وفي بيروت وطهران يثور تخوف من عدم قدرة حماس على الصمود.
في هذا الشأن، بالمناسبة، من الأفضل أن تكون إسرائيل حذرة في التقديرات. ففي الـ 51 يوماً من القتال في عملية “الجرف الصامد” في 2014 توقعت الاستخبارات العسكرية أكثر من عشر مرات أن توافق حماس على وقف لإطلاق النار. ولكن خابت توقعاتها. هذا الاستعداد لوقف إطلاق النار تبلور فقط في نهاية المعركة بعد أن زاد الجيش هجماته في غزة (مستوى قوة سبق اجتيازه منذ فترة طويلة في هذه المرة إزاء الظروف الصعبة). في الأيام القريبة القادمة، ربما يزيد “حزب الله” من حدة ردوده ويحاول نقل خط إطلاق الصواريخ نحو الجنوب بالتدريج. هذا يتعلق أيضاً بخطوات إسرائيل. فالجيش الإسرائيلي يضرب جزءاً كبيراً من الخلايا التي تطلق الصواريخ المضادة للدروع والقذائف، ويبعد بالتدريج مواقع قوة الرضوان التابعة لـ “حزب الله” عن المناطق الحدودية.
في وسائل الإعلام العربية، نشر أن قائد “فيلق القدس” في حرس الثورة الإيراني، الجنرال إسماعيل قاآني، وصل إلى بيروت بعد 7 تشرين الأول لبلورة سياسة رد لإيران و”حزب الله”. مع ذلك، ثمة ادعاء بأن القرار النهائي في يد رئيس “حزب الله”، حسن نصر الله، وأن قيادة إيران تظهر احتراماً كبيراً لتفهمه لما يحدث في الجانب الإسرائيلي. في هذه الأثناء يتم نشر استطلاعات في لبنان، ويظهر في وسائل الإعلام المقربة من “حزب الله” أن معظم الجمهور اللبناني يعارض الدخول إلى الحرب ويخشى أن يؤدي إلى تدمير لبنان، الذي يعاني أصلاً أزمة اقتصادية خطيرة جداً.
معهد أبحاث القدس في الأردن، الذي كبار الباحثين فيه هم جنرالات احتياط في الجيش الأردني، أجرى في الأسبوع الماضي نقاشات حول الحرب في غزة. وكتب الأعضاء في المعهد أن “الحرب البرية في غزة هي حاجة وجودية بالنسبة لإسرائيل، بعد الهزة الأرضية في 7 تشرين الأول”. وحسب تقديرهم، “إيران لن تتدخل بشكل مباشر في الحرب، وحزب الله لن يفعل إلا إذا فرضت عليه إسرائيل ذلك. الوضع الحالي في الدول العربية لا يشير إلى توسع الحرب. أما واشنطن فتظهر عدم الرغبة في ذلك”. مع ذلك، الخبراء في الأردن يعتقدون أن “إسرائيل ربما تقضي على قدرات حماس، لكن المقاومة هي أيديولوجيا وعقيدة ومشروع لن ينتهي. فهي تراكم شعبية أكبر وسترتدي صوراً جديدة”.
قصر نظر
الصعوبة الدولية لإسرائيل لا تقتصر على عدم التأييد في أوساط الليبراليين في العالم. تصريحات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تحولت إلى متطرفة أكثر ووصلت إلى حد اللاسامية. بوتين، مثل خصومه في الغرب، يصف الحرب كجزء من صراع دولي بين الخير والشر. أيضاً ويرى أن روسيا والفلسطينيين في الجانب نفسه، لكن بالنسبة لموسكو فإن إسرائيل جزء من تحالف الشر مع الولايات المتحدة وأوكرانيا، الذي يجب على العقلانيين النزيهين محاربته. أقواله هذه تستخف بادعاءات رئيس الحكومة نتنياهو قبل بضع سنوات وكأنه نجح في جعل روسيا مؤيدة لإسرائيل والتلويح بالعلاقات مع بوتين في دعايته الانتخابية.
إن قصر نظر سياسة إسرائيل الخارجية برز أيضاً في خطاب غير ناجح لسفير إسرائيل في الأمم المتحدة، جلعاد اردان. فادعاءات إسرائيل قوية جداً، ولا حاجة لتعزيزها بمشهد استعراضي يعلق فيه السفير ورجال البعثة شعاراً أصفر على معاطفهم. المذبحة التي نفذها مخربو حماس في غلاف غزة ذكرت وبحق بوحشيتها في صور من الكارثة. ولكن إسرائيل غير عاجزة؛ فهي دولة عظمى إقليمية عسكرياً، وتحصل على دعم أمني غير مسبوق من أمريكا.
هذه المبالغات التاريخية لا تفيد في شيء عدا عن إثارة الشفقة والذعر. رئيس “يد واسم”، داني ديان (كما هو دائما، صوت العقلانية والمنطق) قال وبحق أن قرار السفير هو أمر يسيء لضحايا الكارثة والدولة. ولكن بطريقة معينة، يطرح الشك في أن اردان لا يهتم برد ديان وأمثاله، فهو يستعد للتنافس الذي سيجري في الليكود حول وراثة نتنياهو.
برميل البارود
في كل هذه الضجة الفظيعة، محظور تجاهل ما يحدث في الضفة الغربية. رجال الأمن الذين يتابعون ما يحدث في الضفة يتحدثون عن جهود يخطط المستوطنون – ليس فقط المتطرفين والعنيفين – من أجل السيطرة على مناطق وإبعاد الفلسطينيين وفرض الرعب على سكان الضفة، بطريقة قد تشعل مواجهة أصعب هناك.
حسب أقوالهم، هذه نشاطات واسعة مخطط لها ومنظمة، ترافقها أيضاً نشاطات متقطعة ومستقلة من سكان البؤر غير القانونية. من بين هذه النشاطات: شق الطرق حول المستوطنات وربطها بالبؤر الاستيطانية والمزارع الجديدة نسبياً؛ فبعض الطرق شقها الجيش، ولكن الأغلبية شقها المستوطنون بشكل مستقل. هناك عملية مخطط لها لطرد الفلسطينيين من أراضيهم بواسطة العنف والتهديد، ضمن أمور أخرى، في منطقة سوسيا في جنوب جبل الخليل. يتم الشعور بزيادة في أعمال العنف، مثل اقتلاع مئات أشجار الزيتون وإحراق الممتلكات والتخريب والضرب وإطلاق النار. في الوقت نفسه، أقيمت بؤر استيطانية جديدة غير قانونية، اثنتان قرب “بدوئيل” في منطقة “أريئيل”، وواحدة في وادي “شيلا” شمالي رام الله، وأخرى في غور الأردن.
كل هذه تبدو أموراً صغيرة مقارنة مع المذبحة الصادمة في غلاف غزة أو القتال الصعب في غزة. ولكن من شأن هذه الأحداث أن تدهور الضفة إلى جبهة إضافية، بحيث تثبت هناك موارد قوات الجيش بحاجة إليها في ساحات تحتاج إلى العلاج بصورة أكثر إلحاحا وحسماً. الإدارة المدنية لا تبلغ عما يحدث بشكل كاف، ويثور الشك بوجود مؤامرة صمت من كبار ضباط الجيش الإسرائيلي في هذا الشأن. بعضهم يتعاونون بشكل فعال مع هذه العملية، وآخرون يغضون النظر ولا يواجهون.
يقول جهاز الأمن إن هناك نية لإصدار المزيد من أوامر الاعتقال الإداري لنشطاء متطرفين، ووضع قوات معززة من حرس الحدود في مناطق الاحتكاك بين المستوطنين والفلسطينيين، وأن “الشاباك” دخل إلى الصورة بشكل أكثر حدة. حتى الآن، ثمة برميل بارود آخر يهدد بالانفجار. والمطلوب رد أكثر شدة من الدولة، رغم وجود وكلاء “شبيبة التلال” في الحكومة و”الكابينت” الموسع.