نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

إيران وتجرّع كأس السم

30/10/2024 - هدى الحسيني

كيف صارت إيران الحلقة الأضعف؟

23/10/2024 - مروان قبلان

الأسد والقفز بين القوارب

20/10/2024 - صبا مدور

هل ستطول الحرب الإسرائيلية نظام الأسد؟

20/10/2024 - العقيد عبد الجبار عكيدي


مطعم الديمقراطية مفتوح أمام الجائعين ولكن






قال أبي : سنسافر وغايتنا القاهرة. وركبنا القطار فدهشت ُ .. كان خاليا ً من الأهرامات وأبي الهول ونهر النيل .. لماذا لا أراها؟ّ! وأليست هذه المعالم موجودة في القاهرة ؟! زجرني أبي : وهل القطار هو القاهرة ؟! إنه مجرد وسيلة مواصلات ربما ُتبلغنا مرادنا وربما تتعطل فلا نصل.


مضى على هذه الأمثولة ستون عاما، أتذكرها كلما رأيت أناسا ً يخلطون بين الديمقراطية كنظام الحكم فيه للشعب وبين الانتخابات كوسيلة لتحقيق هذه الغاية.

اليوم ومع تطور الوعي بما تعنيه كلمة الديمقراطية تمكنت الشعوب المتقدمة من أن تحكم نفسها- ليس بنفسها مباشرة كما كان الحال في المدن الإغريقية القديمة - بل بواسطة رؤساء ونواب تختارهم بحريتها، وتحاسبهم وتبدلهم دوريا ً بإرادتها ، فإذا أخطأ الحكام أو انحرفوا عما فيه مصلحة المحكومين، لم يقل أحد : فليول ِ الربُ من يصلح .لأن الناس في ظل الديمقراطية لا يلجئون للرب ليغير أحوالهم - لا كفرا ً والعياذ بالله – بل لأن هؤلاء الناس قد بلغوا سن الرشد ، فأدركوا أن الشأنَ السياسيَّ مسئولية الشعوب ما دامت هي مصدر السلطات .

الديمقراطية أساسها أن الإنسان سيد مصيره، وإنه مسئول وحده عما يُجرى له أو عليه ، فهي إذن فلسفة حداثية لا يجدي معها الشكوى لكائن علويّ Transcendental ولا ُيقبل أمامها عذر بالعجز أو الضعف، وهي فلسفة ينبثق منها بالضرورة نظام ٌ َتصدرُ التشريعاتُ والقوانينُ والأحكامُ القضائية فيه باسم الشعب، إذ ُيفصل الدينُ ( الذي هو مطلق ثابت ) عن السياسة (بحسبانها نسبية متغيرة ) وبهذا ُيكرس الإنسان سيدا ً لمصيره ومؤلفا ً لتاريخه .

تلك خلاصةُ نظرية الديمقراطية، وحيثما جهلت المجتمعاتُ المتخلفة مغزاها، لابد ُتحبس في دائرة شريرة يقود فيها جهل ُ الناس الفكريّ والسياسيّ إلى إفقارهم ماديا ً ومعنويا ً بما يعيد إنتاج الجهل فالإفقار فالجهل دواليك. فأي نفع في الترويج لفكرة الانتخابات بينما تتم الغطرشة على حقيقة الديمقراطية؟

نظم غادرها قطار التاريخ

بالانتخابات إذن قد يركب الشعب ُ قطار الإسكندرية قاصدا ً القاهرة، لكنه يقينا ً لن يجد النيلَ جالسا ً داخله، فلماذا يندهش ما لم يكن في الحقيقة أحمقَ إما بالوراثة وإما أحمقَ بالثقافة ؟

فأما الأحمق بالوراثة فهو من يسـْلم عقله لفكر يعاكس تيار التقدم ، ومثاله : المطالـِبُ بعودة نظام الخلافة الذي هو نظام ديكتاتوري كامل الأوصاف Dictatorship Top جوهره إملاء إرادة فرد على الآخرين دون اعتبار لإرادتهم. وبهذا المقتضى يباشر الحاكم مهام السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية دون حسيب أو رقيب إلا الله في الآخرة!! ومن نافلة القول أن تيار التقدم التاريخي قد تمكن من إزاحة ذلك النظام إزاحة تامة ونهائية حين أسقط الأتراك آخر نماذجه (الخلافة العثمانية) عام 1924 مستبدلين به نظام الدولة المدنية الحديثة التي تفصل بين الدولة والدين، وتفصل بين سلطات الدولة الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وقبل هذا وذاك تعترف بالشعب مصدراً للسلطات جميعا. ولقد فعلتها تركيا فما لبثت حتى انحسرت عنها صفة " رجل أوربا المريض" لتغدو دولة "عفية" مرحبا ً بها في نادي الدول المتقدمة.

أما الحمقى بالاكتساب الثقافي (السلبي) فهم المبرطعون في حظائر الحياة اليومية لا يعنيهم سوى الطعام والشراب والتناسل، حتى إذا عجزوا عن تلبية تلك المطالب الحيوية، راهنوا على الخروج من مأزقهم بالسباحة خلف نفس الفكر الذي استدرجهم للغرق. هؤلاء – وإن لم يحلموا بالماضي ذهبيا ً كان أم نحاسياً – يتسربلون بثقافة الأمر الواقع، التي بمفاهيمها الفوقية تضللهم عن حقيقة كونهم شعباً جاهلا فقيرا مغلوبا على أمره، شعبا ً تمثلت ذروة مأساته – إبان فترة ستينات القرن الماضي - في استسلامه لمنظومة شمولية Totalitarianism على رأسها أب بونابرتيّ ، أو بالمصرية الفصحى : سيد أحمد عبد جواد ، مستبدٌ محبوب! وكبطل أسطوري عائل لشعبه فقد كان معقولا أن يُمنح الصلاحيات المطلقة، وهو وإن كان مرحباً - في سياق الدعاية لحكمه المطلق – بمن ينافقه تحت عنوان (ما شئت لا ما شاءت الأقدار ُ / فاحكم فأنت الواحد القهار ُ) إلا أنه أمسى مدركاً – بعد قراءته لمكيافيللي - أن النفاق السياسيّ الذي يصعد من أسفل، أقل تأثيرا ً بما لا يقاس من النفاق الهابط من أعلى. وآية ذلك أن تسبيح الرعية بحمد السلطان أمر قد ُيقبل فيه الطعن والتجريح، أما أن يداهن الحاكمُ الجبار المحكومين مسبغاً عليهم وصف الشعب المعلم والملهم فذلك هو النفاق السياسي المبدع ، إذ تمضي فعالياته( المكتسبات الاقتصادية) جنبا إلى جنب السجون والمعتقلات والتعذيب، لتشكل الآليتان معاً الصياغة العصرية لمصطلح " سيف المعز وذهبه" والتي بموجبها تجرع الشعب الملهم المعلم كأس الهزيمة الحزيرانية المروعة، وبها كذلك جاءه رب عائلة جديد (لويس نابليوني) يجمّـل "للكل" – منفردا أيضا- الصلح مع عدو الأمة التاريخي، وفي نفس الوقت يمحو "كل" ما اكتسبه الشعب في ظل "عمه" البطل الأسطوري.

محو الأجزاء تحطيم للكل

بهاتين الآليتين إذن – الإجبار والنفاق - دعمت العسكرتاريا ( = حكم العسكر) إستراتيجية السلطة المطلقة في خمسينات وستينات القرن الماضي. ولأن العسكرتاريا تأمر ولا تقبل أوامرُها غير الطاعة؛ فلقد بادرت – متسقة مع طبيعتها "الكليـّة" - بإلغاء جميع الأحزاب Parties (= الأجزاء) عدا جماعة الإخوان. لماذا ؟ لأن تلك الجماعة تنبذ مثلها فكرة الأجزاء، وتؤمن مثلها بمبدأ تغطية الكل بعباءة السمع والطاعة. وهكذا اتفق الفريقان على نفي وإقصاء أي "جزء" سياسيّ يستعصى على الذوبان في النسق " الكليّ " لأي منهما.

بيد أنه ما انصرم شهر العسل حتى وقع الشقاق بين الزوجين (الشبيهين في البنية والنقيضين في الغايات) فكان أن طلق العسكرُ "الجماعة" لتتمترس – مضطرة - خارج المشهد السياسيّ "القانونيّ" بلا سبيل أمامها سوى الـ... Underground تقود أفرادها إلى غابات العنف المادي والرمزي، وصحارى الاغتيالات العلنية والسرية، ومعاهد تكفير الحكومات والأفراد بمرحلتيها المتوسطة والعليا، حتى إذا اقتضت ضرورات زمن التغيير قيام أحزاب مدنية جديدة؛ وجدت الجماعة الأخوانية نفسها مصنفة ً في الخانة "المحظورة" فهل فتّ هذا في عضدها ؟ لا فلقد بقيت – جراء تجميدها في ثلاجات العمل السياسيّ غير المشروع - تنتظر دورها لتؤسس نظاما دكتاتورياً دينيا شعاره المصحف والمسدس، يشجعها على ذلك توهمها أن غالبية الشعب المصري من المسلمين يطلبونها ويلحون في الطلب كأنها هي الإسلام ذاته! وما الإسلام في رؤية "الجماعة" هذه إلا التسليم بالسمع والطاعة للمرشد العام( الاسم الكودي للخليفة) وذلك هو سر القطيعة التي ما زالت قائمة ما بين جماعة الأخوان وبين ورثة العسكرتاريا الساعين لإعادتها كبديل عن النظام السياسي القائم حاليا، بوصفه نظاماً يحاول أن ينفلت من الفكر الشمولي الموروث عن ستينات القرن الماضي، فضلا عن الموروث التاريخيّ من عصور الخلفاء والدولة الدينية القديمة. وهو ما لا ترحب به لا ورثة العسكرتاريا، ولا الجماعة الأخوانية بوضعها الحاليّ الأليم المحاصر.

تقليب التربة ومحاولة غرس الجديد

من هنا يتبين أن حكاية السمع والطاعة هذه قد ولـّى زمانها – موضوعيا ً- ولم يعد شعب حيّ ينصت لتفاصيلها المملة الكئيبة، وانظر شعوب رومانيا وجورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا ثم جنوب السودان فتونس مؤخراً..الذين برهنوا على أن " لقمة " الديمقراطية هي وحدها الطعام الضامن للاستقرار والأمن والازدهار، شريطة أن يكون الناس مستعدين لسداد فاتورتها بكامل بنودها:

1- القبول بدولة تحمي الأديان دون أن تسمي لنفسها دينا 2- الرضوخ لتشريعات مصدرُها الوحيد دستورُ دولةٍ مدنية خالصة State Secular 3- تعزيز نظام الإدارة المنتخبة بتفعيل مبدأ تداول السلطة في إطار حدود زمنية قصوى 4- ترقية النشء مجتمعياً (من خلال مناهج تعليم عصرية لا غش فيها) حتى يتبنى – واعيا - مبدأ مساواة أفراده في الحقوق والواجبات دون تفرقة بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو العرق أو اللون 5- دعم المثقفين والفنانين والأدباء المعنيين بعلاج كل فرد مصاب بالنرجسية (مرض عشق الذات) حتى يرضى بحق غيره في الاختلاف السياسي والعقائدي.

فضع هذه الثقافة "الجديدة" في جيبك وهلم لمطعم الديمقراطية حيث الغذاء وفير، ولكن عليك وأنت عند الباب ألا تلتفت لمن يقدم إليك عباءة الحماقة الموروثة أو المكتسبة، بزعم أن المطعم هذا يمور بالرياح والعواصف.

مهدي بندق
الاربعاء 26 يناير 2011