كذلك فإن التقارب العربي مع النظام السوري لا يسعى لنزع أسباب الثورة الشعبية على النظام، أي وقف تغوّله على حقوق السوريين، كما كان مسعى المبادرة العربية عام 2011، والأطراف "المطبّعة" لا تقدّم نفسها قادرةً على فرض حلّ سياسيٍّ وفق قرار مجلس الأمن 2254، من شأنه أن يرضي الأطراف السورية المتنازعة من المعارضات بكل أشكالها وأهدافها مع النظام، فهل تسعى الدول العربية والإقليمية من خلال التطبيع للاستثمار في أزمة العلاقات الروسية - الأميركية، وإبقاء الأرض السورية ساحة تصفيةٍ للحسابات الدولية والإقليمية تجنّباً للإصابة بشظاياها؟ أم أن النظام جرّهم إلى صفقاته من دون مقابل؟
من جهة، يأتي التطبيع العربي مع النظام السوري في ظل تعنّت رئيس النظام ورفضه تقديم أي إشاراتٍ إلى تغير سلوكه، سواء الداخلي تجاه الشعب الذي ادّعت الدول مناصرته، وكان ذلك السبب المعلن لقطيعتها له عام 2011، أو تغير سلوكه الخارجي، حيث لم يقدّم أي بيان يستدرك من خلاله نظرته الدونية إلى الأنظمة العربية، أو يحمي تلك الدول من عصابات المخدّرات التي تتلاعب باقتصادها وشعوبها، ما يعني أن الأنظمة التي تتسارع في خطوات التطبيع معه تدرك مكانتها لديه، وتتعامل معه ضمن حدود ما تعتقده أن رئيس النظام، بشار الأسد، بواقعه الحالي، ووفق رؤيتها له، وكل ما نسبته إليه من صفات، من قاتل إلى مجرم إلى مهرّب، هو من تريد التطبيع معه، أي إنها ترى في شخصه وسياسته ما يخدم مآربها من هذه العودة العربية إلى نظامه، كما يروّج الأسد والمسؤولون لديه في تصريحاتهم، وليس استعادة نظامه إلى الحضن العربي، كما يُروَّج في إعلام الأنظمة "المطبّعة".
ومن جهة مقابلة، التطبيع السوري - التركي الذي وضع النظام انسحاب تركيا من أراضيه شرطاً لقبوله، ما يعني أن تركيا هي التي تسعى له تحت الوصاية الروسية. وبالتالي، عليها قبول شروط النظام، إلا أن الواقع يقول إن شرط النظام سقط مع بقاء أسباب الوجود التركي في سورية، وهو حربها على الكرد، وإنهاء وجودهم من على حدودها، وهو ما لن يتحقّق مع تجديد الولايات المتحدة تصريحاتها عن رغبتها في البقاء في سورية عبر بيان للبيت الأبيض يوم 27 الشهر الماضي (مارس/ آذار) بعد سلسة حوادث استهدفت مقاتلين أميركيين في سورية، حيث قال: "الحوادث لن تؤدّي إلى سحب القوات الأميركية المنتشرة منذ نحو ثماني سنوات في سورية، حيث تقاتل إلى جانب شركاء محليين يقودهم الأكراد فلول تنظيم الدولة الإسلامية"، أي إن التطبيع التركي - السوري الذي يتطوّر اليوم بعقده محادثات في موسكو على مستوى نواب وزراء خارجية الدول بحضور إيراني ورعاية روسية سيكون من دون دفع أي فاتورة تركية أو أميركية في سورية.
وأيضاً، لا يمكن النظر إلى خطوات التطبيع مع النظام السوري بمعزلٍ عن العلاقات العربية المستجدّة مع إسرائيل، وانتقال موقعها من دولة احتلال إلى دولة جوار. وبالتزامن أيضاً مع استعادة العلاقات العربية مع إيران، ما يعني الرغبة في إبقاء الصراع محصوراً بين إسرائيل وإيران من دون أن يؤدّي ذلك إلى تبعاتٍ تتحمّلها الدول القريبة لطرفي الصراع، وهذا ما يجعل إبعاد الحرب عن ساحتها الجغرافية في كلا البلدين (إسرائيل وإيران) مصلحة لكل الأطراف في المنطقة. ويمكن إرجاع مسألة تقوية النظام السوري من دون إنهاء ملف الصراع إلى إرادة مشتركة ببقاء أرض سورية ساحة معركة "مقفلة"، أو حسب التعبير الشعبي "مضبضبة"، تفرغ من خلالها إسرائيل غضبها في سورية، من دون أن يتحوّل هذا الغضب إلى حربٍ معلنةٍ قد تنشأ فيما لو تمدّدت الضربات لتنال من عمق الأراضي الإيرانية، وبالتالي لن ينجو منها الخليج العربي برمته.
ويمكن النظر إلى الصمت الأميركي أيضاً من زاوية أن محاصرة نيران الصراع الإسرائيلي - الإيراني في سورية مصلحة أميركية داخلية في المقام الأول، حيث لا يرغب الأميركيون في دخول جيشهم حرباً جديدة تجرّهم إليها إسرائيل معها، فقد جرّبوا نيرانها في العراق سابقاً على جنودهم، ولا تزال تأثيراتها تضغط على السياسة الأميركية، كذلك فإنها مصلحة غربية اقتصادية، حيث تُدفع تكلفتها من جيوب دافعي الضرائب في الغرب، سواء لجهة تمويل إسرائيل، أو لجهة استقبال مزيد من وفود اللاجئين المتأثرين بواقع حروب الدول، ما يعني أن الصمت الأميركي - الغربي تجاه تطوّرات ملف التطبيع في المنطقة العربية مع نظام الأسد من جهة، ونظام الملالي من جهة ثانية، هو تابع لمباركتهما وسعيهما لتوسيع خطوات التطبيع العربي مع إسرائيل.
في الوقت نفسه، لا تؤثر خطوات المصالحات التركية - العربية - السورية بخريطة النفوذ الحالية للدول في سورية. فمن جهة، ستبقى تركيا في مواقعها الحالية شماليّ سورية، بذريعة أمنها القومي وبقاء القوات الكردية تحميها القوات الأميركية، أي إن المصلحة التركية عسكرياً مصونة. كذلك، يحقّق التطبيع مصالح داخلية للحزب الحاكم برئاسة رجب طيب أردوغان، وذلك بنزع ملف الصراع مع سورية وآثاره من يد المعارضة التركية.
كذلك ليس في نية بشار الأسد، ولا بمقدرته، تخفيف النفوذ الإيراني في سورية، ولا يبدو أن هذا هو المطلوب منه، بل يمكن النظر إلى الأمر على أن الرغبة العربية تقديم نموذج تعاون مثمر مع إيران في سورية لاستثمار نفوذهم فيها، وحماية مشاريعهم المستقبلية من فساد النظام الذي اختبروه لمصلحة إيران، التي تتقاطع مصالحهم مع استتباب الأمن معها، وليس تقليصه. كذلك إن تحقيق الرغبة الروسية في التقارب العربي مع النظام السوري يمكنه أن يقوّي علاقة بعض هذه الأنظمة مع روسيا التي تدّعي نزع هيمنة القطب الواحد الأميركي، وتعدّد مصادر القوة الدولية، بعد أن أصبح الدعم الأميركي "المزعوم" للديمقراطيات يهدّد استقرار الأنظمة الحالية، علماً أن هذا الدعم لم يُحدِث أي فارق لمصلحة الشعوب التي طرق أبوابها ما سمي الربيع العربي.
رغم حقيقة أن الواقع السوري لا يُغري بأرباح استثمارية، حتى لو صمتت الولايات المتحدة عن محاولات التحايل عليه بغطاء المساعدات الإنسانية، وعطّلت تنفيذ قانون العقوبات (قيصر) ضد المخالفين له، ولكن الاستثمار في إبقاء النظام السوري مركز عمليات عسكرية لإسرائيل ضد إيران، وتجنيب منطقة الخليج من ارتدادات دخول حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، هو استثمارٌ بحد ذاته، ولا تمانع هذه الدول من دفع الرأسمال المطلوب من أجل تحقيقه، ما يعني أن النظر إلى التراجع عن مقاطعة النظام السوري وإعادة العلاقات معه لا يجب أن يكون تحت باب التخوين للقيم الأخلاقية التي قامت على أساسها هذه المقاطعة، والتي يدفع المحافظون على مواقفهم ثمنها، بل هي تحت عناوين المصالح التي يفهمها أيضاً النظام، ويعايرها بميزان مصالحه، ويحقّق منها صفقات رابحة على حساب الشعب السوري وتضحياته من أجل الحرية
----------
العربي الجديد.