ليس هناك من سوريين يحضّرون سرّاً للثورة المقبلة، فهذه مهمة يتولاها بجدارة الأسد نفسه. لقد كانت أسباب الثورة عليه من بين ما ورثه الأسد الابن، وهو لم يفعل سوى ما يعزّزها، وحتى عندما انتفض السوريون في آذار2011 لم يحاول نزع أي مبرر من مبررات غضبهم، بل فعل العكس تماماً. هو فعل ما كان يفعله دائماً، لكنه منذ آذار2011 صار مكشوفاً أكثر من قبل، وصارت أفعاله تحت المجهر.
في المستوى المباشر لما نذهب إليه، سادت طرفة في العام نفسه مفادها أن عاطف نجيب، ابن خالة بشار الأسد، هو القائد الفعلي للثورة السورية باعتقاله أطفال درعا وتعذيبهم، ثم بإهانته البذيئة أهاليهم الذين ذهبوا لمطالبته بإطلاق سراحهم. في خلفية الطرفة، وهذا ظنٌّ كان شائعاً، أنه كان في وسع الأسد معاقبة ابن خالته "ولو رمزياً" واسترضاء الأهالي الذين سيقدِّرون له لفتته. والفكرة ذاتها نجدها في ما كان يتداوله السوريون منذ عقود، وملخّصه قدرة الأسد "الأب ثم الابن" على كسب محبة السوريين بتخفيف القمع وإعطائهم بعض الحريات ومشاركتهم مستويات متدنية من القرار والسلطة. ذلك بالضبط ما لم يحدث لأن حدوثه مستحيل، لا لقصور في تقدير الأسد أو لطبعٍ من طباعه.
ما حدث منذ اثني عشر عاماً لا يُردّ فقط إلى أن الطغاة، عبر التاريخ، يتسببون في اندلاع الثورات. من المهم الانتباه في حالتنا، وحالات قليلة مشابهة، إلى نسخة مستحدثة فريدة من الطغيان تحت مسمّى "جمهورية وراثية". أمامنا كلمتان لا يستقيم أن تتجاورا على هذا النحو بأي منطق كان، وإذا تأملنا هذا قليلاً فإن مخالفة المنطق تتطلب باستمرار استخدامَ العنف بكافة أنواعه من أجل الإبقاء عليهما متجاورتين في اللغة وفي الواقع.
من المستحسن عدم البحث عن بدائل لهذا التعبير أو اختصارات، فاقتراح كلمة "جملوكية" مثلاً، بدل جمهورية وراثية، يصلح للتندر إلا أنه يخفي التناقض الفظيع الموجود في التعبير الأصلي. الإبقاء على الأصل الفاجر ليس للتذكير فقط بفجور الطغاة في الانقلاب على الجمهورية، فهو أيضاً للتذكير بالكارثة المختزَنة فيه. إنه انقلاب لا يحدث لمرة واحدة، وإلا كنا إزاء تحوّل صريح واضح من الجمهورية إلى الملكية؛ هو انقلاب متواصل بما تحمله الكلمة من عنف ضد المحكومين.
إنه فوق ذلك عنف مضاعف، أو عنف فائض لا حد له، لأن غايته لا تتوقف عند الاحتفاظ بالحكم. الطاغية في حالتنا يستخدم العنف لحماية استبداده، ولحماية توريث الاستبداد؛ يستخدم منه ما يلزم راهناً ويستخدم الفائض منه استباقاً من أجل وريثه. لعل هذا الفائض، الذي لا يبدو مفهوماً أو مسوَّغاً في توقيته، بمثابة الميزة التي لا بد منها للجمهورية الوراثية.
يكاد العنف، بأشكاله المباشرة وغير المباشرة، أن يظهر كغاية بحد ذاته، لأنه يخدم في الجمهورية الوراثية نزوعاً لا حدّ له إلى الاستئثار بالسلطة. أيضاً، يجب عدم شخصنة هذا النزوع الاحتكاري بردّه إلى طبع شخصي، فالتوريث في هذه الجمهورية يقتضي إزاحة جميع المنافسين المحتملين، في السياسة والاقتصاد والعسكر والمخابرات.. إلخ، ويقتضي الرفض الجذري لمنطق الشراكة، ولو كان الشركاء في مرتبة متدنية لا خطر منها، باستثناء الشركاء المتورطين في ممارسة العنف.
كلّ ما صار مفضوحاً عن احتكار السلطة والثروة في سوريا غير طارئ على طبيعة السلطة نفسها، بمعنى أن ما يتسرب من أخبار عن تغوّلٍ مسفّ على صعيد الاقتصاد والمال "بعد تغوّل التشبيح" لا يعود إلى ظرف مؤقت، بل هو في منتهى الانسجام مع ذلك الجشع المتنامي إلى ممارسة السطوة المطلقة والعنف. في ظروف مختلفة، لو لم تندلع الثورة عام2011، كان شكل ما يمارسه الأسد اليوم هو الذي سيختلف، أما الجوهر فهو ذاته، أيْ هو الجوهر الذي سيضع السوريين أمام خيار وحيد هو الثورة.
قد يكون مؤسفاً القول أن الثورة المقبلة لن تكون "بالمعنى المباشر" انتصاراً لملايين السوريين الذين اعتقلهم وعذّبهم أو أبادهم أو هجرهم الأسد الابن ومن قبله الأب، وقد لا تكون استئنافاً لثورة2011 إلا لجهة بقاء الاستحقاقات والمطالب ذاتها ما بقي الأسد في السلطة. نجزم بأن محاولات تعويم الأسد، أو إعادة تدوير سلطته، لن تنجح في زحزحة نزوع جمهوريته الوراثية الأصيل إلى احتكار السلطة والثروة، وأي نجاح من هذا القبيل "إذا حدث" سيكون مؤقتاً وعلى سبيل المناورة قبل الاستئناف الحتمي لما هو جوهر التوريث.
والكلام السابق عن حتمية الثورة لا ينضوي في التغني بها، فالحتمية تعني دائماً استنفاذ الحلول الأخرى، وتعني غالباً أن كلفة الانفجار اللاحق ستكون باهظة. ما يدبّره نهج سلطة الأسد اليوم هو تلك الحتمية وجعلها باهظة الثمن في الوقت نفسه، وبالطبع ليس من شأنه فكّ التلازم بينهما. ولا بأس إذا كان الكلام عن الحتمية فيه شيء من السلوى للذين يعزّ عليهم التفريط بما يعتبرونه ثورة موجودة مستمرة، وإن كان من الأجدى منذ الآن الانتماء إلى الثورة المقبلة.
لن يدبّر الأسد كل شيء، وينبغي ألا يكون الحال كذلك مستقبلاً، بمعنى أن ينفجر الوضع مع عجز عن الانقلاب عليه. هذا واحد من دروس الثورة الفائتة، إذا توفرت النية للاستفادة منه، وهو يتطلب نقداً حقيقياً للسنوات الماضية. ربما يلزم أن يكون نقداً لا محابياً ولا ينطلق من عداء، وله القدرة على اختراق الاصطفافات والانقسامات الحالية بحيث لا يكون تحت وطأتها. من "كرَم" الثورة الفائتة أن فيها الكثير من الدروس، حتى لأولئك الذين عادوها، والذين لن يجدون مفراً" هم أو أولادهم" من الثورة، وليس قدراً مكتوباً لهم أن يضيعوا تلك الفرصة.
--------
المدن
*كاتب سوري.