وعلى الرغم من وضع الحماية الذي منح لهذه المنطقة، باشرت قوات النظام مدعومة بمساندة عسكرية روسية كبيرة بحصار درعا وقصفها إلى أن استحالت لركام. وبعد مرور أسابيع من العنف الوحشي، أرغمت درعا على الاستسلام، وجرى التخلي عن أهم مظلة موثوقة للمعارضين لدى واشنطن وهي الجبهة الجنوبية، وذلك عندما نصح أفرادها مسؤولون أميركيون بالاستسلام. ومنذ ذلك الحين، لم يعد وضع النظام محل مساءلة أو تشكيك، بما أن الفاعلين الدوليين قد انسحبوا بشكل ممنهج، بعد أن دهمهم التعب ولم تعد القضية السورية تهمهم. ومنذ تلك اللحظة الحاسمة، انتصر الأسد وانتهت الأزمة السورية بنظر كثيرين، وجرى احتواء ما خلفته من آثار.
ولكن الأسد لم ينتصر في الحقيقة، بل بقي فحسب، بفضل الدعم الراسخ الذي لم ينقطع والذي قدمته له روسيا وإيران، وبسبب عدم التدخل الدولي أيضاً. وخلال السنوات التي أعقبت ذلك، تلاشى الاهتمام العالمي بالعمل على حل أزمة سوريا التي أتعبت الجميع، لدرجة بات معها مجرد التلميح إلى بذل مزيد من الجهود فيما يخص الشأن السوري ضمن دوائر صنع القرار في واشنطن اليوم يثير تعابير السخط أو الضحكات الساخرة، من دون أن يكترث أحد بهذا الأمر.
مشكلات عالقة
بيد أن الوضع في سوريا بات أسوأ مما كان عليه في أي وقت من الأوقات، ومن نواح كثيرة، إذ ثمة مؤشرات واضحة ومستمرة حول عودة تنظيم الدولة، وهنالك تجارة المخدرات الدولية المرتبطة بالنظام والتي تدر عليه مليارات الدولارات، فضلاً عن استمرار الأعمال العدائية على المستوى الجيوسياسي والتي تورطت فيها إسرائيل وإيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة. كما أن سيطرة النظام على مناطقه أصبحت هشة وضعيفة مقارنة بسيطرته عليها خلال أي وقت مضى.
وخير مثال على ذلك ما يحدث في الجنوب السوري، إذ بعد مرور ست سنين على قصف مهد الثورة إلى أن خضعت وأذعنت، تراجع حكم الأسد للجنوب السوري.
وعندما عزم الأسد هو والدولة التي تموله، أي روسيا، على تحويل الجنوب إلى مثال يجسد سوريا المستقرة بعد ما يسمى "تطهيرها" من المعارضين، تحولت تلك المنطقة إلى أكثر منطقة انعدم فيها الاستقرار في سوريا منذ عام 2018، إذ بحسب ما وثقه موقع سيريا ويكلي، قتل ما لا يقل عن 47 شخصاً في محافظتي درعا والسويداء خلال الفترة ما بين منتصف شهر حزيران ومنتصف شهر تموز وحدها، وذلك ضمن سلسلة الاغتيالات اليومية، والكمائن، والمداهمات والخطف وقتل الرهائن، ولذلك أصبحت درعا على وجه الخصوص تجسد حالة الفلتان الأمني والفوضى.
جرأة غير مسبوقة
وبعيداً عن الاضطرابات الخانقة، أصبح من قاتل في السابق بين صفوف المعارضة وغيرها من الفصائل المسلحة من أبناء محافظتي درعا والسويداء الجنوبيتين أشد جرأة في وقوفهم ضد انتهاكات النظام خلال الأسابيع القليلة الماضية، إذ في الفترة الممتدة من منتصف حزيران حتى منتصف تموز، اختطف مقاتلون مسلحون، ومعظمهم قاتلوا بين صفوف المعارضة المسلحة فيما مضى، ما لا يقل عن 25 ضابطاً من الجيش السوري انتقاماً من النظام بسبب اعتقالاته العشوائية التي طالت مدنيين في هاتين المنطقتين. وقد جرى استغلال قضية الرهائن بشكل ناجح لإجبار النظام على إطلاق سراح المعتقلين من المدنيين، إذ قبل ذلك لم يكن أحد ليجرؤ على الوقوف ضد النظام أو إجباره على الخضوع.
كما أصبحت الفصائل المحلية المسلحة التي تعتبر بأنها تصالحت مع النظام على الورق، تشن هجمات مباشرة على حواجز التفتيش التابعة لجيش النظام وعلى المباني التابعة له ومقاره وذلك انتقاماً من النظام على انتهاكاته. إذ مثلاً، عندما اعتقلت امرأة من مدينة إنخل بدرعا في أثناء محاولتها تجديد جواز سفرها في دمشق في العاشر من تموز الحالي، شن مقاتلو المعارضة السابقين في إنخل هجمات على ثلاث حواجز عسكرية تابعة للنظام وعلى مقار تابعة للمخابرات في منطقتهم، وعندما ردت عليهم قوات النظام بإطلاق النار واستخدام قذائف الهاون والمدفعية، نصب المقاتلون المحليون كميناً لمركبة عسكرية مصفحة تابعة للنظام وصلت حاملة تعزيزات إلى قواته، فدمروها بقنابل يدوية أطلقوها كالصواريخ، وفي مساء ذلك اليوم جرى إطلاق سراح السيدة نفسها.
انتفاضة السويداء واغتيال الجرماني
وفي محافظة السويداء المجاورة، حيث يرابط أهاليها لمدة فاقت 330 يوماً متتابعاً من خلال الاحتجاجات المطالبة بسقوط الأسد، نصبت قوات النظام بشكل مخالف للتوقعات حاجزاً أمنياً جديداً عند المدخل الرئيسي لمركز المحافظة في 23 حزيران الماضي، وفي غضون ساعات، حشد ما لا يقل عن ست فصائل مسلحة محلية قواتهم وشنوا هجمات على مواقع للنظام، واشتبكوا مع قواته في قتال عنيف استمر لمدة 48 ساعة، ما دفع النظام لإرسال تعزيزات من دمشق.
وفي 25 حزيران، أجبر النظام على الانسحاب، فحول الحاجز المدجج بالسلاح إلى نقطة لا تخضع لأي سلطة محلية. أي أن هذا التحدي المباشر لسياسة النظام الأمنية بات ملحوظاً، لا سيما في تلك المحافظة التي لم تخضع ألبتة لسيطرة المعارضة.
أثارت تلك الحادثة اهتماماً كبيراً على المستوى الإقليمي، كونها سلطت الضوء على مدى ضعف النظام واستسلامه، وفي ذلك ما يفسر سبب اغتيال مرهج الجرماني، الشهير بأبي غيث، وهو أحد أبرز قادة الجماعات المسلحة المناهضة للنظام في السويداء، والذي قاد كثيراً من الهجمات التي أسلفنا الحديث عنها، وذلك في فجر يوم 17 تموز وفي عقر داره، حيث قتل برصاصة في الرأس أتت من نافذة غرفة الجلوس في بيته بعد أن أطلقها قاتل مأجور بمسدس مزود بكاتم للصوت، إذ كانت زوجته معه في البيت، لكنها لم تسمع صوت الطلقة ألبتة.
وخلال الفترة نفسها، اختطفت الجماعات المسلحة المحلية في جنوبي سوريا أربعة عناصر من المخابرات التابعة للنظام بعد تورطهم في عدد من الانتهاكات شملت القتل والتعذيب والجرائم المنظمة. وقد تعرض الأربعة للتعذيب وأجبروا على الاعتراف بجرائمهم أمام الكاميرا، ثم أعدموا بعد أن انتشرت مقاطع الفيديو التي وثقت اعترافاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وعلاوة على ذلك، اغتيل لؤي العلي الذي يعتبر الذراع اليمنى للمخابرات العسكرية سيئة الصيت في قلب محافظة درعا في 13 تموز الجاري، بما أن هذا الرجل المعروف بكنية أبي لقمان، كان قد أشرف على عمليات التعذيب طوال فترة امتدت لعقد من الزمان تقريباً وذلك داخل أكبر مقر لاحتجاز واستجواب الناس في محافظة درعا.
اغتيالات بالجملة
إن إمعان النظر في أمور كهذه يقدم لنا لمحة حول حقيقة حكم النظام خلال فترة الأزمة السورية التي امتدت لـ14 عاماً تقريباً، إذ بدلاً من أن يعزز النظام سلطته، بدت سلطة الأسد في حالة انهيار، وفي تلك الأثناء، ما يزال النظام يواصل فشله في الوقوف ضد عودة تنظيم الدولة من خلال الجهود التي يبذلها بشكل متقطع، فخلال الشهر الماضي فقط، قتل ما لا يقل عن 69 عنصراً من قوات الأمن التابعة للنظام خلال هجمات شبه يومية شنها تنظيم الدولة في البادية السورية. ويأتي ذلك وسط عملية تطهير امتدت لشهر شنها النظام ضد تلك الجماعة الجهادية. وفي هذه الأثناء، توفيت لونا الشبل مستشارة الأسد في الثالث من تموز بحادث سيارة مريب يعتقد كثيرون بأنه مدبر، في حين قتل محمد براء قاطرجي الذي يعتبر العمود الفقري الأساسي لاقتصاد النظام بغارة جوية إسرائيلية نفذت يوم 15 تموز، وغيرهم كثيرون.
على الرغم من مواجهة نظام سيئ الصيت لم يوفر أي وسيلة لسحق المعارضة، يبدو بأن الكيل قد فاض بالأهالي في جنوبي سوريا، إذ ابتداء من انتفاضة السويداء الشعبية التي امتدت تقريباً لسنة، وصولاً إلى التوجهات التي ظهرت أخيراً بين المقاتلين من أبناء المنطقة والتي تتمثل بمجابهة انتهاكات النظام وسياسته الأمنية بشكل مباشر، فإن ذلك لا يمثل أي شكل من أشكال حل للأزمة، بل يعبر عن تطورها وتوسعها وتصعيدها لتتحول إلى انتفاضة جديدة مرة أخرى.
-------------
موقع تلفزيون سوريا