نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


فتّحْ عينك.. أنت في كفرنبل






منذ التظاهرات الأبكر في مسيرة الانتفاضة السورية كانت لافتاتهم قد شدّت الانتباه إلى نبرتها اللاذعة، ومضمونها السياسي العميق، وطرافة ما تمزجه من متناقضات ومفارقات، وبراعة جمعها بين الفصحى والعامية؛ فضلاً عن مهارة التقاط جانب خاصّ في تسميات أيام الجُمَع، وإبرازه على نحو ذكي وساخر ومرير وتحريضي في آن. ومن جانبي، كانت برهة انشدادي الأولى إلى هذا الطراز من الانفراد الإبداعي، كما أجيز لنفسي وصفه دون تردّد، هي تلك اللافتة التي تقول: "فتّحْ عينك/ مافي نقطة: سلمية، سلمية"؛ أي، بالطبع، أنها ليست سلفية، ردّاً على ادعاءات النظام، وعلى لآراء التي تنتهي إلى خلاصة مماثلة، رغم زعمها الاستقلال عن صفّ النظام (مثل الذريعة الأشهر، حول خروج التظاهرات من المساجد).



لافتات أخرى قالت: "مطلوب في سورية مشايخ ومفتون يعبدون الله دون فرعون"، و"شركة أسد ومخلوف لمكافحة الجراثيم: دبابات، حوامات، مدافع، مدرعات، فرع خاص للشبيحة"، و"من يملك القدرة على رؤية الحقيقة لا يتجه إلى ظلها"، و"لمن يدّعي الخشية على الوطن.. الفراغ أفضل من بشار وزبانيته"، و"متنا ونموت وتبقى سورية"، و"كلّنا أمهات حمزة الخطيب" حين تكون التظاهرة نسائية. وفي التعليق على موقف المجتمع الدولي، قالت لافتة: "يبدو أننا نطلب الحماية ممن يحتاج لحماية سفرائه أولاً"؛ وفي السخرية من وعيد النظام ضدّ المجتمع الدولي، قالت أخرى: "بماذا تهددون؟ هل ستصدّرون الشبيحة إلى أنحاء العالم؟"؛ وهنا ما أعلنته لافتة في التعليق على نهاية نظام معمر القذافي: "نتائج دوري الإجرام: خرج القذافي من الدور نصف النهائي/ وتأهل بشار للدور النهائي"!


ولا تنجو المعارضة السورية من التنبيه، والنقد اللاذع حين يتطلب الأمر، فتقول لافتة: "إلى المعارضة السورية.. اتحدوا وكونوا على مستوى تضحيات الشارع الثائر"؛ وتقول أخرى، شهيرة وحظيت باهتمام واسع بالنظر إلى ما انطوت عليه من طرافة وانتقاد عميم وخيبة رجاء: "يسقط النظام والمعارضة.. تسقط الأمة العربية والإسلامية.. يسقط مجلس الأمن.. يسقط العالم.. يسقط كل شيء"! وأخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ اللافتات المكتوبة بالإنكليزية تظلّ في عداد الأذكى والأنضج، والأسلم لغوياً أيضاً، على نطاق التظاهرات السورية جمعاء.


أصحاب هذا الامتياز هم أهالي بلدة كَفْرَنْبِلْ (كما يحلو لهم لفظ الاسم، خلافاً لتسمية أخرى تعتمد "كَفْر نُبْل"، مصدر نَبُل ينبُل نُبلاً)، التي تقع في محافظة إدلب، غرب معرّة النعمان، ويتميّز أبناؤها (قرابة 30 ألف نسمة) بنسبة عالية في عدد حَمَلة الشهادات الجامعية (65 بالمئة من السكان) وخرّيجي الدراسات العليا (15 بالمئة). كما يفاخر بعضهم بأنّ نسب البلدة يعود إلى إلى نابيلو بن ياكين بن منسا بن ميران بن سام بن نوح، وبالتالي فإنّ تاريخ نشوئها غير بعيد عن تواريخ الحواضر السامية العتيقة التي قامت على سفوح ووديان وهضاب جبل الزاو، أو جبل الزاوية الحالي. كذلك يتحدّث أهلها، ليس أقلّ تفاخراً أيضاً، عن الهجرات التي خرجت من كفرنبل بعد وصول الإسكندر المقدوني إلى المنطقة، فبلغت جبلة على الساحل السوري، وتل كلخ في جبال حمص، والكرد في شمال شرق سورية، والبدو في سهول حماة، وتدمر في بادية الشام؛ إلى جانب تركيا في آسيا الصغرى، وقرطاجة في تونس!

وفي ربيع 1905 ذُهلت الرحالة الإنكليزية جرترود بيل إزاء العدد الكبير من المدن الدارسة والمدافن القديمة في منطقة جبل الزاوية، وعلى تخوم كفرنبل تحديداً، كما سحرتها تلك البرّية الجميلة حيث التلال الخضراء وبساتين الزيتون والعشب الطالع على الصخور التربة الحمراء المكتظة بزهور الياقوتية وشقائق النعمان. صحيح أنها لم تجد ما كانت تبحث عنه (لوح ديونيسيوس النافر)، إلا أنّ بيل غادرت جبل الزواية لا كما جاءت إليه: مفعمة بتاريخ حافل، وغنى بشري، ومشهدية جمالية فائقة أغرتها برقاد ليلة كاملة... داخل قبر! بعد 106 سنوات، سوف يرفع أبناء كفرنبل لافتة، لا تتوجه إلى نظام بشار الأسد بقدر ما تخاطب أحفاد بيل، وبينهم دعاة الرأفة تحديداً: "إلى جمعيات الرفق بالحيوان/ حاولوا حمايتنا/ لم يعد أحد يكترث لإنسانيتنا"!

وإلى جانب حفنة من الشهداء، كان في طليعتهم أمثال محمد عبد القادر الخطيب، أحمد العكل، عمر محمد سعيد الخطيب، أحمد ابراهيم البيور، عبد الله حمود الداني، أحمد حمد الفريدة، مصطفى سليم حزب الله (لا علاقة، البتة، بين كنية هذا الشهيد والحزب اللبناني الذي يساند النظام مساندة عمياء، غنيّ عن القول)؛ صنعت كفرنبل أمثولات مجيدة لا تُحصى، في التضحية والشجاعة والصبر والثبات والإصرار على انتصار الانتفاضة. ولم تكن عذابات أهلها مشرّفة لبلدتهم، الجميلة الوديعة الهادئة في العادة، فحسب؛ بل صارت قدوة تُحتذى في أرجاء جبل الزاوية، وعلى امتداد سورية بأسرها؛ وكابوساً يقضّ مضجع النظام، ويُلحق الفشل الذريع بكلّ ما ارتكبته الأجهزة الأمنية من ممارسات وحشية في مسعى قهر البلدة.

"فتّحْ عينك.. أنت في كفرنبل!" عبارة ينبغي أن تكون في بال الداخل إلى البلدة، سواء ذاك الذي يأتيها حاجّاً مستبشراً يستلهم الأمل من عتباتها الثائرة الشريفة، أم ذاك الذي يقتحمها شبّيحاً قاتلاً، ميّت الضمير ومرتعد الفرائص.


صبحي حديدي
الاثنين 24 أكتوبر 2011