نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان

هل يشعل العراق حرباً إقليمية؟

09/11/2024 - عاصم عبد الرحمن


غزّة وبيروت: فيلم في الحمرا… عن مصيرهما الواحد






الثلاثاء 30 تموز. الثامنة إلا ربعاً بتوقيت بيروت. مقهى برزخ الثقافي، شارع الحمرا. العشرات تجمّعوا لحضور فيلم “إلى أبي” للمخرج الفلسطيني عبد السلام شحادة، بمبادرة من الصحافية الفلسطينية الأميركية ملايكة كنعاني تابّر، للتضامن مع أهالي غزة ودعمهم مادّياً. وهو فيلم عن المخرج نفسه، العالق في غزّة وبعيداً عنها. فيلم عن غزّة من ستّينيات القرن الماضي إلى عام 2008. وكيف عبرت من أيامها الجميلة إلى بداية دمارها، وذلك من خلال الصور التي تحكي التحوّلات.فجأة، قبل بداية الفيلم، يصرخ أحدهم: “بدأت الحرب؟ غارة على الضاحية“. الكلّ يفتح الموبايلات. يروح ويجيء. هذا يتّصل بأهله في الضاحية وآخر يطمئنّ على الأقارب. وين ضربوا؟ في قتلى؟ في أطفال؟ مين المستهدف؟ كم صاروخ؟ الضربة قوية؟


ملصق فيلم الى ابي
ملصق فيلم الى ابي
 

فجأة أيضاً، امتزجت حكاية المخرج التي بدأت قبل 60 عاماً على شواطئ غزة ورفح، بحكاية المشاهدين الآن وهنا. حكاية التهجير والصورة والتشتّت والضياع نفسها. هنا وهناك. بالأمس واليوم. الكلّ عالق في مكان ما. إنّها الحرب التي كنّا غير مصدّقين أنّها ستصل إلى أسوار بيروت.

 

لا أحد يعرف ماذا يفعل، يبقى مكانه أو يغادر. أحدهم ترك مقعده ليحجز تذكرة طيران ويعود إلى لندن: “يا الله ما في حجوزات. إذا علقت هون بروح عليّي شغلي”… آخر يتّصل بزميل له عالق في المغرب ويحاول مساعدته لإيجاد حلّ؟

الثلاثاء 30 تموز. الثامنة إلا ربعاً بتوقيت بيروت. مقهى برزخ الثقافي، شارع الحمرا. العشرات تجمّعوا لحضور فيلم “إلى أبي” للمخرج الفلسطيني عبد السلام شحادة

بعدها تتالت الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود، قبل أن يبدأ المخرج الفلسطيني عبد السلام شحادة أو الراوي في الفيلم بالكلام: “أنا اسمي عبد السلام، وُلدت في مخيّم رفح، ولكن بعد الهجرة بـ13 سنة. كان أهلي يسردون لي حكايات سكنتْ كلّها في أعماقي. كيف تهجّروا في الـ48، وكيف أصبحت تلك القصص والحكايات ذكريات وصوراً راسخة في الذاكرة، لكنّني أنا أيضاً أصبحت حكاية، فدعوني أحكِها لكم”.

يحكيها أمام لبنانيين يعيشون الحرب، عالقين فيها، مثل حكايته تماماً. فقد مضت 10 شهور والنار بين البقاع والجنوب والضاحية، واللبنانيون يعلنون رفضهم الحرب ويتمسّكون باحتفالاتهم ويرفضون إيقاف حياتهم على توقيت إيران وإسرائيل. يتضامنون مع غزة. يبكون ويتظاهرون ويعلنون رفضهم الانجرار وراء المغامرات المتسرّعة التي لم يحسب عاقبتها أصحابها.

هنا وهناك. لا أحد يعرف إذا كانت كافية إدانة الكفاح المسلّح أو يجب الفرح به. فآلاف الأطفال يموتون والملايين يهجّرون ويجوعون. لم يعد القلب يحتمل وجعاً. وهنا أيضاً 80 ألف عائلة مهجّرة من جنوب لبنان وشهداء وضحايا… يسأل اللبنانيون أنفسهم: من يحمينا؟ أين هي الدولة؟ من يأخذ قرار السلم وقرار الحرب؟ ما هي استراتيجيّاتنا الدفاعية؟ هل ساندت حرب الحزب على إسرائيل أهالي غزة أو حماس؟ هل خفّفت من وقع الحرب والإبادة الجماعية؟

امتزجت حكاية المخرج التي بدأت قبل 60 عاماً على شواطئ غزة ورفح، بحكاية المشاهدين الآن وهنا. حكاية التهجير

لا أجوبة حاسمة على أسئلة أصبحت فضفاضة ووجودية. الكلّ عالق في مكان ما. الكلّ خائف. لا أحد يريد الحرب. لكنّ مجزرة مجدل شمس مفصليّة هنا، وانقسم عليها الجميع. فما بعد مجدل شمس ليس كما قبلها. المجزرة فتحت الباب على جحيم سورية منذ 2011… من قاتل؟ ومن قتل؟ من جنّد؟ من ساند النظام الفاشي؟

هي أيضاً أسئلة كثيرة انتشرت على مواقع التواصل وقسمت الأصدقاء الافتراضيين، وبدأت حملات الـ”بلوك”، خاصة بين السوريين. فالمجزرة خدمت بنيامين نتنياهو وطموحاته العسكرية كما خدمت خطاب التقسيم والفتنة في لبنان وربّما في سوريا. وإن حاول أعيان الدروز احتواءها.

كلّنا عالقون في مكان ما

… يتوقّف عرض الفيلم لبرهة. ثمّ تعود صورة عبدالسلام شحادة المشبعة بالنوستالجيا وفلسفة المكان والزمان ووجع النزوح والانقسام إلى الشاشة.

الصورة الفوتوغرافية بطلة فيلم “إلى أبي”، الحائز جائزة النسر الذهبي لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان روتردام للسينما العربية في 2009. وكعادة بيروت، تعيد عرض أفلام تشبه اللحظة، احتفاءً بمخرجيها أو بحكاياتها التي تظلّ “حيّة”.

يتشارك أهالي غزة، ومعهم أهالي الضفّة ورام الله، المصير نفسه: الانتظار بكلّ مقاييسه ولوعته وعدم يقينه

جديد الفيلم أنّ عبد السلام شحادة الذي علِق في القاهرة بعدما خرج من غزة في الأول من تشرين الأول، قبل أسبوع من 7 أكتوبر، لم يستطع الرجوع كحال كثيرين من اللبنانيين اليوم بعدما ألغت شركات طيران عالمية رحلاتها إلى لبنان في الأيام الأخيرة. وهو ينطلق من صورته وصورة الناس حوله وصورة البلاد.

الفيلم تحيّة من المخرج الذي استطاع النجاة بعد أشهر، والسفر إلى كندا حيث يقيم الآن قسراً، إلى كلّ مصوّري فلسطين الفوتوغرافيين، خصوصاً أباه الروحيّ المصوّر الحاج سلامة الذي أشعل شغفه بالتصوير، وإلى زملائه الذين نقلوا لنا شكل البلاد وحكاياتها ورائحة بحرها ومدنها… فالصورة بالنسبة للصحافي والمصوّر والمخرج شحادة، كما قال لـ”أساس”، “هي وعيي وتكويني وأسطورتي الجديدة والقديمة، الصورة ملجئي ومكان إيوائي، أجلس فيها وأحنّ إليها، وهي الأمل الباعث والوعي المكسّر المهشّم، أرميها فتتبعثر وأعيد ترتيبها لأحاول أن أصنع فيلماً يحكي اليوم عن الاقتلاع وزمن الصمت والانتظار الطويل”.

يتشارك أهالي غزة، ومعهم أهالي الضفّة ورام الله، المصير نفسه: الانتظار بكلّ مقاييسه ولوعته وعدم يقينه. ربّما هو أصعب بكثير من انتظار الكاتب والشاعر الإيرلندي صاموئيل بيكيت في مسرحية “في انتظار غودو”. هنا الانتظار محموم بالدم والاغتيالات والفوضى والتهجير والانقسامات السياسية والفقر والجوع والانهيار الاقتصادي. هنا الانتظار بلا أدنى مقوّمات الدولة!

ختم عبدالسلام شحادة فيلمه بالأمل، غامزاً من قناة تشرذم الشعب الفلسطيني وعدم وحدته والتفافه حول قضيّته لأجل فلسطين فقط

وثيقة ضدّ التزييف والاحتلال

الصورة في فيلم “إلى أبي” وثيقة رافقت كلّ المتغيّرات السياسية والاجتماعية والأنتروبولوجية والثقافية. فلولا هذه الصورة لكنّا جميعاً اليوم، عرباً وأجانب مؤيّدين للقضيّة وفلسطينيّين داخل الأراضي المحتلّة وخارجها، في الشتات وفي غزة ورام الله، لا نعرف كيف كانت هذه الأرض التي لا تزال تقاوم منذ 75 سنة تقريباً لتحافظ على تاريخها وملامحها وآثارها وهويّتها العربية. الصورة هي الحقيقة والشاهد على زمن فلسطين الجميل الذي يتغنّى به أهل البلاد، زمن النساء المتحرّرات بأناقتهنّ وجمالهنّ وتعليمهنّ العالي، اللواتي رأيناهنّ في استوديو الحاج سلامة في غزة، وزمن الرجال الذين نقلوا العلوم والتاريخ وحتى فكر المقاومة الحقيقية والدفاع عن الأرض، إلى الدول العربية، وصورة ما بقي من زعامات وأبطال.

الفيلم هو رواية تاريخية توثيقية من فصول خمسة رئيسية كلّها ملوّنة بالدم: حرب حزيران سنة 1967، والانتفاضة الأولى، ودخول السلطة الفلسطينية غزة، والانتفاضة الثانية، وفيلم “الأيدي الصغيرة” الذي أنجزه المخرج عبدالسلام شحادة في عام 1996، قبل 12 سنة.

الحاضرون هنا في الحمرا يُنقّلون عيونهم بين شاشة غزة في الفيلم وشاشة بيروت على هواتفهم النقّالة التي لا تهدأ بسبب الأخبار العاجلة. المصير متشابه: حروب وانتفاضات وشهداء، والتاريخ يعيد نفسه. انتظار التحرير (تحرير القدس) طال، وانتظار تغيير قوانين العدالة الإلهية طال، وانتظار أن “يرجع لبنان يتعمّر” كما وعدنا الموسيقار زكي ناصيف، طال… ونحن المواطنين ضحايا ندفع الثمن كما دفعه عبدالسلام شحادة ومن رأيناهم في فيلمه.

إنّه وهم سلميّ جعلنا ننسى نحن المؤيّدين للقضية أنّ هناك سجناً كبيراً تديره حماس برعاية إيرانية وتحتلّه إسرائيل، وهو ما يشبه إلى حدّ ما لبنان

داء الأمل

يقول صاحب أفلام “الظلّ” و”قرب الموت” و”قوس قزح” و”البقجة” و”بخّور غزة”، في منتصف فيلم “إلى أبي”، في فصل يفصل بين غزة الصبيّة المنطلقة في الستّينيات وغزة المدمّرة جرّاء الحصار: “كنّا متفائلين شاعرين أنّ بكرا سيكون أحلى، لكن صار الجمال يختفي”… وهو ما حصل في مناطق كثيرة في لبنان، سواء بعد انتهاء الحرب أو بعد تحرير الجنوب في 2006، وتغيير الهواء المنفتح المتحرّر واليساريّ والناصري… إلى هواء حزبيّ أصفر كنّا نخاله هواءً مقاوماً للدفاع عن حرّيات الفرد وتحرير الوطن من العدوّ، إلا أنّه رسم لبنانَ جديداً يتكلّم العربية ويفكّر بالفارسية.

إنّه وهم سلميّ جعلنا ننسى نحن المؤيّدين للقضية أنّ هناك سجناً كبيراً تديره حماس برعاية إيرانية وتحتلّه إسرائيل، وهو ما يشبه إلى حدّ ما لبنان… ربّما نسينا أنّ تلك القضيّة لم تُحلّ بعد، وأنّها اليوم تكبر ويتمادى العدوّ بقتل أهلها.

هكذا ختم عبدالسلام شحادة فيلمه بالأمل، غامزاً من قناة تشرذم الشعب الفلسطيني وعدم وحدته والتفافه حول قضيّته لأجل فلسطين فقط. وقال بلهجة غزّيّة: “بيسألوني شو هاي الصورة السوداء التي ترسمها وتصوّرها (عن دمار غزة) فأقول يا ريت أقدر أعمل صورة أروتشها وأضوّيها وأحلّيها وأحط فيها بلادنا كبيرة وواسعة وفيها شجر وميناء ومطار، ونوّرها بالليل، والحدود تكون مفتوحة…. ولا مرّة الناس حبوا بعضهم. يا ريت يجرّبوا ويعرفوا”.


رنا نجار - اساس ميديا
الخميس 8 غشت 2024