نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


طيف المواطن السياسي





في روايته "خفة الكائن التي لا تحتمل"، يتحدّث ميلان كونديرا عن الأثر الذي يتركه "طيف المواطن السياسي" في حياته بشكل عام، أي "ما يقوله المواطن، ما يعتقده، كيف يتصرّف". ملاحظة كونديرا هذه، ترتبط بأواليات هيمنة النظام الشيوعي الشمولي على حياة المواطنين، وإنزال المشمولين بالرضا الى مرتبة نماذج سلوكية محددة يقاس على أساسها السلوك القويم. في لبنان، تلاحق المواطنين فكرة هذا "الطيف" الذي يهيمن على كثير من تفاصيل حياتهم والإمكانات التي يمكنهم تحقيقها. وهو، أي هذا "الطيف" نفسه، بات صورة يُطلَب من المواطن اللبناني التماثل معها، وهو الساعي الى الافادة من كل الإمكانات التي يمنحه إيّاها كونه لبنانياً


فكرة "الطيف" كيف تلاحق اللبناني؟ افتراق "طيف المواطن السياسي" اللبناني الأول عن النموذج الذي تحدّث عنه كونديرا، يكمن في أن صورة هذا الطيف ليست صورة لـ"مواطن". فالطيف الذي ينبغي تلبّسه هو طيف يختلف باختلاف الإنتماء الى الجماعات اللبنانية التي ترسم كلٌّ منها صورة طيفها "الواجب"، متميّزة بنموذجها المرسوم عن الجماعات الأخرى. هو، بمعنى آخر أكثر تحديداً، طيف اللبناني الطائفي السياسي. إذاً، هناك أطياف، لا طيف واحد، وعلى اللبناني أن يسير على هدى طيف طائفته لا على هدى طيف طائفة أخرى، ولا على هدى طيف يحدّد معالمه بنفسه بعيداً من المعايير المحددة سلفاً.

لكل لبناني طيفٌ يلاحقه، ويحدد له إمكانات حياته. هو نوع من الشمولية الجماعاتية، لا شمولية النظام اللبناني. النظام اللبناني ديموقراطي، كونه جامعاً عدداً من الشموليات التي تُقرأ تعددية. لكن هذه التعددية لا تعفي اللبناني من فكرة النموذج الجاهز الذي يجب التماثل معه. اللافت أن التحرر من أسر هذه النماذج، الذي يُفترض فيه أن يعلي من مرتبة اللبناني المواطنية، كونه يتحرر من محددات الجماعات التحت – دولتية، ينتج مفعولاً عكسياً بحرمان هذا المواطن فرصة الوصول الى دوائر يفترض أن تكون دولتية لا مجموعاتية: التوظيف في الوظائف العامة والارتقاء في سلّم هذه الوظائف في الدرجة الأولى.

في النظام الشمولي الذي يتحدّث عنه كونديرا، تكون فكرة الطيف أكثر وطأة على المواطن. فتصرّف المواطنين "بطريقة يحسن معها ذكرهم"، هو ضرورة من أجل اللعب في الفريق الوطني أو إقامة معرض أو تمضية العطلة على شاطئ البحر. كل شيء يكون خاضعاً للكيفية التي بها ذُكر المواطن. طبعاً، هذه تفاصيل لا يحددها الطيف الذي يجب على اللبناني التماثل به. ولكن، كلّما غصنا أعمق في النشاطات الاجتماعية، رأينا كيف أن فكرة الطيف تلاحقنا.

لكل لبناني طيف – نموذج إذاً، هو طيف جماعته. السنّي فوقه طيف، المسيحي فوقه طيف، الدرزي فوقه طيف، والشيعي فوقه طيف. مثلاً، طيف الللبناني الشيعي يتضمّن، في ما يتضمّن، عدم الانتقاد العلني للمقاومة، والتسليم بحكمة قادة التنظيمات السياسية الشيعية المسيطرة في السياسة الداخلية وفي رؤيتها للسياسة الخارجية وتوقّعاتها لمساراتها القريبة والبعيدة، واختصار المشكلات اللبنانية بالدفاع عن أرضه، ومدح تحالف الثنائي الشيعي الأقوى، وانتقاد التنظيمات السياسية الأخرى وتصديق "الشائعات" التي تطلق عليها حين يختلف معها الثنائي الشيعي القوي، والجهوزية للنزول الى الشارع عند استدعائه، وسوى ذلك. ربما قريباً، تدخل الصلاة والصوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (باليد لا بالقلب او باللسان) وانتظار الإمام المهدي في محدّدات هذا الطيف.

كل لبناني عليه ان يتماهى مع طيف طائفته إذا أراد ان يتوظف او ان يحظى بالامتيازات التي تقدّمها تنظيمات طائفته القوية، التي تحدّد هي نفسها صورة طيفها. أليست هذه شمولية؟ إن لم تكن كذلك، فماذا تكون؟ انها فكرة الانسان الذي عليه ان يسلك سلوكات محدّدة بدقّة إذا لم يرد أن يعاني "الحرمان" والمعاقبة.

في المجتمع الشيوعي الذي يصفه كونديرا، التفتيش ومراقبة المواطنين هما "نشاطان اجتماعيان أساسيان ودائمان". إذا اراد الرسّام عرض لوحاته، او اراد احدهم الحصول على تأشيرة، او اراد رياضي ان يلعب في الفريق الوطني، فيجب أولاً أن تُجمَع كل انواع التقارير والشهادات المتعلّقة بهم. الشهادات تُجمَع من القيّمة على باب المبنى، من الزملاء في العمل، من الشرطة، من خليّة الحزب، من لجنة المصنع. بعدها، يضاف بعضها الى بعض، وتُراز وتُراجَع على أيدي موظفين مكلّفين هذه المهمة على وجه التخصيص. المهم "لا علاقة لما تقوله هذه الإفادات بأهلية المواطن... إن لها علاقة بشيء واحد، بما يدعى "طيف المواطن السياسي".

يستطيع الرسام اللبناني عرض لوحاته ويستطيع المواطن الحصول على تأشيرة، من دون مروره بأواليات التفتيش والمراقبة الموصوفتين. ولكن إذا أراد ان يتوظف في الدولة، او أراد ان يرتقي في السلّم الوظيفي، فسيخضع حكماً لهذين التفتيش والمراقبة. انهما التفتيش والمراقبة الملازمان لكل ما يضع اللبنانيون مفهوم "الواسطة" سبيلاً الى بلوغه. إنها شمولية فاقعة، وإن كانت عبارة عن شموليات تُقرأ تعددية، وحقوقاً للطوائف في التمثل في النظام السياسي اللبناني.

يُستقصى عن اللبناني بالسبل التي وصفها كونديرا. فمن خصائص الأفراد الذين يحيون بتوافق مع الصورة التي يحسن بها ذكرهم، ان يكونوا مراقِبين لتصرّفات غيرهم واقوالهم وافعالهم. هؤلاء هم عيون الشموليات التي لا تنام.
القطاع العام اللبناني، الذي يفترض أن يكون محفّزاً على التفكير بطريقة وطنية جامعة، كونه تجسيداً لضرورة الإجتماع اللبناني العابر للطوائف، بات مدخلاً لشموليات تحت – دولتية. فالديموقراطية اللبنانية تضع الطائفة حلقة وسطية بين المواطن والدولة، والتنظيمات السياسية المسيطرة على كلّ من الطوائف لا تسمح بعبور هذه الحلقة الوسطية من دون التماثل مع طيفها السياسي. إننا نعيش في دولة ديموقراطية تشجّع على نشوء شموليات داخلها واستدامتها. وهذه مفارقة

حسن عباس
الاحد 30 ماي 2010