نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


ســورية، حــريتك





وصول شعلة الثورة العربية إلى سوريا حدثٌ يضاعف المفاجأة والدهشة. فإذا كنا لم نتجاوز بعد تلك اللحظة المشعة من المفاجأة بالثورة في تونس ثم مصر، وانتقالها إلى بلاد عربية على نحو مبدع، فإن إعلان الشبان عنها في سوريا حقق ما كان كل سوري حر يحلم به لعقود، وما كانت نخبة من المثقفين عبر العالم العربي ترى فيه حقاً تاريخياً وطبيعياً وإنسانياً للشعب السوري.



أصبحت الثورة الآن في سوريا تحرر نفوس أبنائها من الخوف، في بلد جعل نظامه من الاستبداد قانوناً يجبر كل مواطن على الاستسلام له. كان نجاح النظام السوري في فرض استبداده لعقود هو نفسه الذي تحقق لدكتاتوريينا في جميع البلاد العربية، مع إضافة شرعية ترفعها لأجله جهات محسوبة على حركات تقدمية عربية. إنه الاستبداد الذي يعرض نفسه في صورة مقدس، سابق على أي مقدس سواه، حامي الأمة. يجلس الاستبداد السيد على عرش محمول فوق أعناق العبيد، والشعب قطيع من الساجدين، المباركين.
عندما خرج الفوج الأول من الثوار في درعا، وسقط من بينهم ضحايا برصاص النظام، كان ذلك علامة لا تخطئها العين الفاحصة. ما سبق لابن علي وحسني مبارك أن أجرما به، في الرد على التظاهر السلمي لشبان يطالبون بالحرية والكرامة، ثم ما يجرم به القذافي الآن، هو نفسه الذي أجرم به بشار الأسد. بالطريقة نفسها، المهينة لما ينطق به الشبان الغاضبون، أجاب النظام السوري المحبين لبلدهم. لا شك أن ثقافة المظاهرات السلمية أحرجت هذا النظام، مثلما أربكت النظامين السابقين في تونس ومصر. فالنظام السوري، ككل نظام ديكتاتوري، يحبذ التعبير العنيف للمعارضة حتى يمحق من يشاء بدون طلب إذن أو بلبلة. أما الآن، فإن قتل متظاهرين، خرجوا إلى الشوارع بثقافتهم السلمية، لا يمكن طي صفحته. لهذا فإن مشهد القتلى لم يقابله سوى الإنكار من جانب المستبد. يُنـوّع المصرحون الرسميون لازمتهم المفضلة بأن ما نشاهد كذب، وبأن السوريين يخرجون فقط إلى المنتزهات والمطاعم والمقاهي. ما عدا ذلك صور ملفقة. وللإعلام الخارجي خانة المتآمر، في وقت لا تسمح فيه السلطة لوسائل الإعلام الأجنبية، أو الجمعيات الحقوقية العربية والدولية، بالشهادة المباشرة على ما يقع. كأن ما يحصل في سوريا ليس له مكان في العاصفة التي جاءت من حيث لا أحد يدري كي تقتلع الاستعباد من جذوره. أو كأن المشاهدين في قنوات العالم مجرد دواب. كذب هذا القتل، وكذب هذا التعذيب العلني وكذلك اعتقالات المعارضين. خطاب جبان، تفضحه بلاغة الوطنية التي يلجأ إليها المنكرون.
لكن الدم يتردد في نشرات الأخبار. نفوس سقطت فوق الأرض برصاص الأمن وهي تنطق بكلمة واحدة مختصرة، كلمة 'حرية'. معجم الغاضبين كله يسكن هذه الكلمة ولا يبرحها. يسرجها ويطوف بها. كلمة يغلفها الهواء. وفي مقابلها، من الجهة المظلمة من حياة الناس، نظام مستبد يقدم سجونه وأقبيته في صيغة قلاع لحماية الوحدة العربية ومواجهة العدو الإسرائيلي. ثم صمت حماة العروبة عن الضحايا من أبناء الشعب السوري، أو تجريم (وتخوين) من يفضح سجون وأقبية الاستبداد. إنها ازدواجية خطاب لم يعد أحد من الأحرار يحتضنه.
ذلك المشهد الأول في مدينة درعا، التي أصبحت عنوان الثورة السورية لدى الملايين من المشاهدين عبر العالم، عثر على شبيه له في مدن سورية صغرى متباعدة، بلغت قامشلي في أقصى الشمال. ثم المدن التي أخذت، شيئاً فشيئاً، تنضم إلى الشعلة الأولى. كوكبة من المدن. شبان يتقدمون الصفوف في مظاهرات تتشكل ولا تتوقف. والرصاص القاتل يطارد. ألا يفهم النظام السوري أن الشبان قرروا الخروج إلى الشوارع، في كرنفال شعبي، وهم يرددون نشيداً لا تميز بينه وبين الغناء، لاسترجاع حريتهم؟ ألا يشاهد قليلا مما لم يتراجع عنه الشبان في تونس ومصر وليبيا واليمن؟ أليس من السذاجة أن يرص حوله صفوفاً من القتلة عوضاً من أن يتواضع ويستجيب لمطالب الشعب؟ حتى الاستشهاد ممكن، يرد الشبان على استخفاف النظام بما يطلبون. منهم من رفع كفنه على كتفيه وخرج. ثوب أبيض. هي الحرية أيضاً. ولو بالموت. وفي شوارع من مدن متفرقة يغني الشبان ويرقصون. والعالم يشاهدهم عبر كاميرات الهواة، التي تنقل الصورة نيئة. لا يترددون. كلمة على لسانهم. حرية. بين درعا واللاذقية شعب يعلن عن غضبه، يفضح الاستبداد الذي لا يتعب، والظلم الذي لا يخجل، والكذب الذي لا يختفي، وابتسامة المغرور باستبداده. في يوم 'جمعة الإصرار' تحركت دمشق بطلابها. إنهم بدورهم يرفعون شعار الحرية، تأكيداً لما اختاره الشبان ومعهم الشعب. طريق واحدة هي الحرية. لا وصاية بعد اليوم على المجتمع، لا إلغاء للمعارضة، لا سبيل إلى الطائفية. يريد الشعب بكل ثقة نظاماً سياسياً تعددياً، يحق فيه للجميع أن يعيش وفق ما يختار.
للمثقفين العرب في العصر الحديث علاقة خاصة مع تاريخ سوريا. وهم من المفروض أن يقتربوا، اليوم، من صوت الشعب السوري في ثورة شبانه : أن يقفوا ضد القتل، أن يبادروا بمساندة الدعوة إلى الحرية والكرامة، أن يؤكدوا على احترام الروح السلمية للمتظاهرين، أن يفضحوا الظلم، الإهانة، الكذب، الفساد، بمزيد من الصلابة. ليس قليلا ما قدمه السوريون للثقافة العربية. لذلك فإن كلمة المثقفين يمكن أن تتحول إلى طوق رمزي يحمي الشبان من بطش المستبد، الذي يفقد صوابه. أقصد حماية جميع أبناء الشعب السوري، من عرب وأكراد ودروز، مسلمين ومسيحيين، سنيين وشيعة. كلمتهم سترفع التباسات، لأنها ستعيد معاني الكلمات إلى مكانها الحقيقي.
كنت دائماً من بين الذين يحزنون لاعتقال الشعب السوري، الذي علمنا، عبر التاريخ، جمال الحرية. وله علينا، في العصر الحديث، فضائل لا تعد. أجيال من الشبان العرب تعلموا، مثلا، معنى الثورة على الاستبداد من كتابات عبد الرحمن الكواكبي، أحد معلمي الحرية في العالم العربي الحديث. إنه الكاشف في العربية عن المعاني الحديثة لكلمة 'الاستبداد'. وجميع الذين يستعملونها أبناؤه. ثم لك من أمثال الكواكبي شعراء وكتاب ومفكرون ومترجمون وفنانون وصحفيون. كيف لنا أن نحيط بما أنجبته سوريا الحديثة من الأحرار الأشداء، في كتاباتهم ومواقفهم؟ مع صور الغاضبين وأصواتهم، أو من خلال ذكر أعداد الشهداء في مناطق سورية، أستعيد صوراً لوجوه مثقفين سوريين منفيين في شتى بلاد العالم. تاريخ صور بعضهم يعود إلى شبابي. السابقون علي جيلي وأبناء جيلي في المغرب، من الطلبة الجامعيين في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، يتذكرون بالامتنان والشكر أساتذة سوريين كانوا المعلمين الكبار لعدد من الكتاب والأدباء والباحثين المغاربة، المعروفين اليوم، في العلوم الإنسانية أو القانونية أو الطبيعية. يكفي ذكر اسم علم قريب من نفسي هو الدكتور أمجد الطرابلسي. عاش حياة المنفى في المغرب. أحب المغاربة، وعلم جيل ما بعد الاستقلال، في كلية الآداب بفاس والرباط، لغة المعرفة التي هي أعز ما ناله المغاربة من أساتذتهم السوريين.
أستحضر، اليوم، صورة هذا المعلم الكبير تحية لصمته. فهو كان يتجنب الحديث بالنقد، أمام طلبته، عن سوريا والنظام السوري. لم يكن قط يقدم نفسه على أنه منفي أو مبعد عن بلده. ولكن عينيه كانتا تدمعان حينما أصبحت 'زميلا' له (كما كان يحرص على أن يقول لي ولسواي تواضعاً منه، فيما نحن كنا نعامله دائماً معاملة المعلم الاستثنائي في حياتنا، تكريماً لأخلاقه وعلمه) في شعبة اللغة العربية وكان يفاتحني في الحديث بألم عما افتقده بلده وشعبه بسبب اضطرار مثقفين وسياسيين إلى الهروب من بطش نظام مستبد. نعم. خسرت سوريا أبناءها مثلما خسروا حياتهم في بلدهم. بأي خيال يمكن أن نستعين لندرك ما كانت ستكون عليه اليوم سوريا، منذ الاستعمار التركي حتى اليوم، لو لم يتحكم الاستبداد؟ أتذكركم، أيها الأصدقاء وأنتم في المنافي. أبارك ثورة شبانكم، وأتقاسم معكم حلم أن تعودوا إلى سوريا العزيزة على نفس كل من يعرف تاريخ سوريا، ويقدر إبداع السوريين وثقافتهم التنويرية عبر العالم العربي.
ولست أدري كيف وردت على ذهني، بمجرد ما شاهدت صور الشبان السوريين في درعا يرفعون اللافتات ويصرخون، أبيات الشاعر خليل حاوي:
يعْـبرونَ الجسْر في الصّبح خفافـاً
أضلعي امْتدّتْ لهمْ جسْراً وطيدْ
منْ كُهوفِ الشرق، منْ مُستنقع الشرقِ
إلى الشرق الجديدْ
أضلعي امتدّتْ لهمْ جسراً وطيدْ.
لا أريد أن أبحث عن مبرر ما، ولا أن أطابق بين صورة لشبان عرب في الخمسينيات وشبان سوريين يثورون اليوم. هي أبيات وأنا أذكرها، كما وردت علي، تحية لخليل حاوي، الشاعر الذي كان مجنوناً بالثورة العربية وانتحر بعد دخول جيش الاحتلال الإسرائيلي بيروت سنة 1982. هذه الأبيات من قصيدة 'الجسر'، كنت قرأتها سنة 1966 في الطبعة الثالثة من ديوان 'نهر الرماد'، الصادرة سنة 1962. يكاد نصف قرن يمر على قراءتي لشاعر كانت قصيدته تتشبث بما يتهاوى من حلم الوحدة والحرية. وهي اليوم تعود إلي، بعد أن كان الشابي على لسان الشبان الثائرين في تونس، ومن تونس إلى مصر واليمن وليبيا والمغرب والبحرين. أبيات خليل حاوي لهؤلاء الشبان جميعاً، من أرض عربية إلى أخرى، بعد أن كنا أصبحنا نجد صعوبة في الدفاع عن الثورة مثلما أصبحنا نجد صعوبة في الدفاع عن القيم الإنسانية الكبرى، وفي مقدمتها الحرية. شبان يُغيّـرون اللغة ويقتحمون الموانع، كيفما كانت. وأكبر مانع كان هو الخوف.
لا شيء يخيف الشبان السوريين اليوم بعد خروجهم، وخروج الشعب السوري، رافعاً صوته في وجه الاستبداد. حرية هي وحدها التي يريد. حرية أن يكون كل فرد، عربياً أو كردياً أو درزياً، مسلماً أو مسيحياً، سنياً أو شيعياً، مواطناً كامل المواطنة، كامل الكرامة، فوق أرضه، يمارس حياته بحرية، يعبر عن رأيه بحرية، يتكلم لغته بحرية، ينتمي لشعبه بحرية، يعيش طقوسه الدينية أو العرقية أو الفردية بحرية. ليس في الحرية سوى الجميل، وهي لا تعتدي على أحد، ولا تخشى من أحد. كلمة تصدق على ما نريد مستقبلاً أن يكون المشترك، بدون خوف. لنا جميعاً أن نرددها مع شبان سوريا، تحية لهم وتضامناً معهم. هي وحدها. فقط. وحدها. حريتك. حرية.
-------------
القدس العربي

محمد بنيــس
الخميس 21 أبريل 2011