حفظ الزمن تلك الحكاية بسبب رد أبي العلاء المعرّي الشهير على النص الذي تضمنها، والمعروف برسالة ابن القارح، بكتاب شهير في تاريخ الأدب العربي (والعالمي) يتخيل فيه وجود ابن القارح نفسه في المكان الذي يحشر فيه الناس يوم القيامة ستة أشهر، إلى أن يغفر له فيدخل الجنة ويلتقي أدباء كان يظنهم في النار، ثم يدخل النار فيرى شعراء وكتابا آخرين فينظر في أحوالهم، وما الذي أوصلهم إلى تلك النهاية.
تذكرت الحكاية لسببين، الأول هو أن جزءا كبيرا من وصف ابن القارح لصديقه الذي فيه «جنة مجنونة، والذي يحقد حقد من لا تلين كبده، والملول المتقلب الذي يمكن أن يمل الملال» يمكن أن ينفع في توصيف طباع الشاعر والكاتب الإعلامي والسيناريست السوري الراحل حكم البابا. والثاني هو أن البابا، يبدو شخصية مناسبة أيضا لاتباع المنهج الذي انتهجه المعري في «رسالة الغفران» والذي أنطق فيه الشعراء والأدباء، ليشرحوا الأسباب التي غفر الله لهم بها وأدخلهم جنته، أو أخطاءهم التي تسببت في إيصالهم إلى جهنم.
كاسر للمحرّمات السياسية أم طائفي؟
خلقت وفاة البابا مؤخرا إشكالية واضحة بين السوريين، وأثارت جدلا كبيرا بينهم على وسائل التواصل الاجتماعي، عبرت عنه تعليقات تترحم عليه وتذكر فضائله، وتعتبره أحد أعلام الثورة السورية، وأحد الشخصيات المؤثرة في الإعلام والحراك السياسي والأدب، فتحشره، أو تتمنى له الحشر، مع طائفة الخيّرين الأبرار، وتغفر له أخطاءه (التي أوردها كثيرون من مادحيه)؛ وتعليقات من الجانب المعاكس، تعتبره، إذا كان المعلق ضمن طيف معارضة النظام السوري، عدوّا للثورة، وطائفيا، وحقودا، ومسؤولا عن جرائم؛ وتصفه، إذا كان المعلق من طيف الموالين للنظام السوري، بالعميل الأمريكي، والمجرم الطائفي السني المحرض على إبادة العلويين إلخ، فتحشره، لو أردنا استخدام معادلة المعري، ضمن طائفة المجرمين الأشرار، وتحكم عليه بالخلود في جهنم وبئس المصير.
تعرفت إلى البابا في عام 2004 حين بدأ يرفد «القدس العربي» بمقالات ضمن زاوية «فضائيات وأرضيات» وكذلك في صفحة الرأي، وكانت مقالات ساخرة وجريئة جدا في موازين سقف النظام السوري، ففي تلك الفترة بالذات اعتقل النظام الكاتب والسياسي الشهير ميشيل كيلو، بعد كتابة مقالة، صارت شهيرة في تاريخ الإعلام العربي، كان عنوانها «نعوات سورية» وكان البابا يتلقى تهديدات من أجهزة أمن النظام، واستدعاءات إليها، ويستلم اشتراطات يحاول ضباطها فرضها عليه، ويواجه كل ذلك بتحد وسلاطة لسان وسخرية.
نسخة لعلي مملوك بناء على طلبه!
أتذكر، على سبيل المثال، مقالة كتبها لصفحة «الرأي» في صحيفتنا وختمها بجملة ساخرة تفيد بأن نسخة طبق الأصل من ذلك الرأي سترسل إلى اللواء علي مملوك (المسؤول المخابراتي الكبير) بناء على طلبه! كانت ردود فعل البابا تعادل، في نظر كثيرين، حدا جنونيا، خصوصا في جرأته على كسر تابو الموضوع الطائفي، في ظل نظام مارس، منذ انقلاب عام 1963، عنفا ماديا وثقافيا هائلا ضد الأغلبية السنية، وكان منع الحديث في هذا الموضوع صراحة، يتوازى مع توظيفه سلطويا في كل الاتجاهات الممكنة، لكن الأنكى من ذلك أنه كان أيضا خارج التداول التقليدي ضمن القوى السياسية اليسارية، التي ينتمي البابا إليها. استخدم البابا، وبطريقة انتحارية، قضية انتمائه للسنة باعتبارها طائفة مقموعة، ومسألة تحدره من مدينة حماة، التي ارتكب فيها النظام عام 1982 مجزرة هائلة، في مواجهة النظام، كما في مواجهة ثقافة يسارية سائدة.
اكتسب البابا عداوة كثيرين بعد معارك إعلامية وثقافية فجة، لكن كسره للمحرمات السياسية ساهم في تثبيت وجوده الوازن في نشاطات الثورة السورية منذ عام 2011، حيث كان أحد منظمي أول مؤتمر للمعارضة السورية في مدينة أنطاليا عام 2011، ثم في تنظيم مهرجان كبير لدعم الثورة السورية في قطر عام 2012، وكذلك من خلال دوره مسؤولا عن الملف السوري في قناة «العربية».
كنت أحد المشاركين في مؤتمر أنطاليا، كما كنت أحد المساهمين في تنظيم مهرجان الدوحة، وشهدت، شخصيا، بعضا من وقائع نشاط حكم الإعلامي والسياسي لاحقا، وفي تلك الفعاليات كلها، كانت مفارقات البابا وتناقضاته تتكشف بسهولة، حيث تجتمع إرادة الفعل والتغيير والتأثير، مع سلوكيات ركيكة تدل على شخصية تعاني من رضوض نفسية بالغة، فتعكس أعطابها بتلك السلوكيات والتصريحات الفظة والطفولية والديكتاتورية المؤذية لمن حوله.
حيرة المعرّي!
انضاف إلى علاقتي المهنية بالبابا جانب شخصي، فأثناء حضوري لفعالية «دبي آرت» عام 2012 صارحني بأنه يريد اللجوء إلى بريطانيا وبأنه يريد مرافقتي في رحلتي عائدا إلى لندن لمساعدته، وهو ما حصل فعلا، وبعد دخوله البلاد سكن في شارعي نفسه، مع زوجته حينها، المهندسة ريم القدسي، فصارت لقاءاتنا يومية.
ساهمت تلك المعرفة الشخصية في فتح البابا باب أسراره الشخصية وسرد تفاصيل الكثير من الحوادث التي شكلت شخصيته، واستذكار المرارات الرهيبة التي عاناها طفلا، وأدت إلى نوع من الكراهية المستعصية نحو أمه وأبيه، وحب تقديسي لعمته التي تكفلت بتربيته. جعلتني معرفتي بهذه الأحداث أقدر على تفسير عناصر شخصيته المتناقضة اجتماعيا وسياسيا، من الشك الفظيع بالآخرين، والقسوة حتى مع أقرب الناس إليه، والبحث العاطفي المرير عن الحبيبة، الزوجة، الأم، مرورا بالتعاطف الحقيقي مع كثيرين والعمل على مساعدتهم، ثم قدرته على إيذائهم نفسيا، ودفعهم لاستنكار أفعاله وأقواله!
مع اتجاه أحوال الثورة السورية نحو منحنى تراجيدي فظيع، تواكب مع صعود السلفية العسكرية المتطرفة، زاد مستوى التطرف لدى حكم، وتزامن اليأس والشعور بالمظلومية والإحباط مع تقدّم مرض السرطان في جسده، فازدادت حدة انفعالاته ضد تشكيلات السياسة السورية المعارضة، وضد معارفه الشخصيين وأصدقائه، وحتى ضد أقرب الناس إليه عائليا.
كانت تلك الوقائع تعبيرات متناقضة لروح البابا الهالكة المعذبة، ولم يكن الاضطهاد السياسي ـ الاجتماعي سوى أحد تلك التعبيرات الكثيرة عن ذلك العذاب، الذي يتنقل بالضحية من تحدي الظالمين والسخرية منهم، إلى الرغبة الشديدة في ممارسة العسف والظلم. أتخيل أن المعري كان سيحتار في الحكم على حكم البابا، فكثير من «حسنات» جرأته وشجاعته وتصديه للنظام السوري واضحة للعيان، كما أن الكثير من «سيئاته» وأذياته وأخطائه السياسية فاضحة أيضا. أتخيّل أن حشر البابا سيطول كثيرا، وإذا لاحظنا أن بعض التعليقات عليه نسجت على منواله، وربما زادت عليه في الإقذاع والعنف الرمزي، وإذا احتسبنا أيضا أن درجات العنف والإقصاء والرغبة في الاجتثاث لدى كثيرين من السوريين، أعلى بكثير من طاقتهم على الغفران، لخلصنا إلى نتيجة مؤسفة وهي أن البابا ليس سوى المرآة الكاشفة، وأن السوريين محشورون أيضا في حشر كبير
------------.
القدس العربي