نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان

هل يشعل العراق حرباً إقليمية؟

09/11/2024 - عاصم عبد الرحمن


رحيل عبد اللطيف عبد الحميد يفتح سجل "فتى مؤسسة السينماالمدلل"!





في عام 2008 كان المخرج عبد اللطيف عبد الحميد، يقدم فيلمه الروائي الثامن (أيام الضجر) الذي مثّل سوريا في مهرجان دمشق السينمائي… كان الفيلم مرتبكاً، يحاول أن يقارب إسقاطات على الوضع المحتدم في سوريا ولبنان، بعد خروج الجيش السوري من لبنان، وبروز الأصوات المنتقدة للنظام السوري، والمستقوية بالدعم الغربي، لكن عزّ على إدارة المهرجان أن يخرج هذا الفيلم الذي أشبعه النقّاد في أروقة المهرجان على ما أذكر نقداً وتشريحاً، من دون جائزة… وكان مدير المهرجان محمد الأحمد قد اخترع شيئاً، اسمه (لجنة تحكيم الأفلام العربية)؛ لمجاملة أصدقائه المصريين الذين كانوا يخرجون غالباً بلا جوائز في دورات المهرجان السابقة، فقرّر بالتنسيق مع لجنة تحكيم الأفلام العربية التي يرأسها دريد لحام منح الجائزة هذا العام للفيلم السوري (أيام الضجر)، وفي عام 2009 منح مهرجان دمشق السينمائي جائزته البرونزية لفيلم آخر لعبد اللطيف هو (قمران وزيتونة)، لكن نجدت أنزور الذي كان عضو لجنة تحكيم الأفلام الطويلة انسحب مع المخرجة المصرية ساندرا نشأت احتجاجاً على النتائج. وأياً يكن تقييمنا المعروف لنجدت أنزور، إلا أن هذا الانسحاب يوضح أن النتائج فُرضت على لجنة التحكيم ولم تظهر برضاها أو بالتنسيق معها!



أعود إلى فيلم (أيام الضجر)، فحين وضع قيد العرض الجماهيري، بعد انتهاء المهرجان بأشهر قليلة في صالة الكندي التابعة لوزارة الثقافة، كان الحضور الجماهيري محزناً، وقد كتبت أعلق على هذه الحال آنذاك: “كان من المتعذر الحصول على بطاقة لحضور الفيلم،  بالنسبة لجمهور المهرجان، حتى قبل ثلاثة أيام من عرضه، أما الآن فصالة سينما (الكندي) في دمشق على الأقل، والتي تبيع تذاكرها بسعر تشجيعي جداً، تبدو وكأنها تعرض فيلماً قديماً لا يجتذب أحداً!”.
فيلم (أيام الضجر) 2008
(أيام الضجر) الذي كتبه مخرجه عبد اللطيف عبد الحميد، يعود إلى زمن الوحدة بين مصر وسوريا، وإلى عام 1958، وهو يتحدث عن أسرة مكونة من زوجة وأربعة أولاد، لعسكري من ريف الساحل السوري، تعيش في الجبهة على الحدود مع فلسطين المحتلة في الجولان السوري، وعندما كانت مصر وسورية تواصلان الاحتفال بقيام الوحدة بينهما، في أواخر شباط/ فبراير من ذلك العام، نزل بحّارة الأسطول السادس الأمريكي في لبنان، بطلب من رئيسه آنذاك كميل شمعون (25 تموز/ يوليو)، فتمّ نقل الكثير من الأُسر إلى قراها في الساحل، وانتقل الأطفال من أجواء الترقّب والإثارة الطفولية التي كانت توحيها الجبهة بالنسبة لهم، إلى أجواء السكون في تلك القرى التي كانت بعيدة تماماً عن كثير من منجزات الحضارة! وقع العمل في العديد من الأخطاء التاريخية، حين صوّر أن الضباط المصريين هم الذين يسيطرون على جبهة الجولان، رغم أن الوحدة لم يمضِ عليها أربعة أشهر، وهي مدة لا تسمح لهم بالانتشار في مناطق حدودية لا يعرفون شيئاً عن جغرافيتها، كما صوّر في أحد المشاهد أن كل الذين يحرسون جبهة الجولان كانوا من قرى الساحل السوري؛ في محاولة لترسيخ بُعد طائفي في دفاعهم التاريخي عن حدود الوطن، رغم كل ذلك اعتُبر هذا الفيلم ناجحاً، ومنحوه جائزة!
أسوق هذه الحالة لتصوير مدى الحظوة التي كان يتمتع بها المخرج عبد اللطيف عبد الحميد الذي رحل عن عالمنا مساء يوم أمس (15/5)، عن عمر ناهز (70) عاماً، والذي كان يسميه حتى أصدقاؤه: “فتى المؤسسة المدلل”، والمقصود بالمؤسسة، هي المؤسسة العامة للسينما التابعة لوزارة الثقافة التي كانت تتكفّل بالإنتاج السينمائي، فقد قدّم عبد اللطيف خلال مسيرته (15) فيلماً روائياً، جميعها من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، باستثناء فيلم (قمران وزيتونة) الذي شاركت في إنتاجه مع شركة الفرسان، وفيلم (مطر أيلول) من إنتاج هيثم حقي بالتعاون مع شبكة “أوربت”، أي إن المؤسسة أنتجت لعبد اللطيف عبد الحميد أكثر من مجموع ما أنتجته لكل من: نبيل المالح، ومحمد ملص، وعمر أميرلاي، وأسامة محمد في تاريخها كله، وهم جيمعا أهم منه سينمائيا بما لا يقاس.
والواقع لم يكن عبد اللطيف عبد الحميد فتى المؤسسة المدلل وحسب، بل كان فتى النظام المدلل برمته… صحيح أن عبد اللطيف كان عاشقاً للسينما، وكان همّه الإنتاج السينمائي، وكان يخرج أفلامه بميزانيات معقولة، لكن الصحيح أيضاً أنه مُنح تلك الفرص؛ ليس بسبب عشقه وإخلاصه للسينما في نظام كل الثقافة لديه لا تساوي حذاء عتيقاً، لكن مُنح الفرص تقديراً لالتصاقه بهذا النظام، وطاعته المطلقة لكل الإدارات التي تعاقبت على المؤسسة العامة للسينما، والتي خاض السينمائيون ضدها حرباً ضروساً؛ من أجل تحسين شروط وحرية الإبداع. في كل تلك الحروب، وكثير منها كانت محقّة، كان عبد اللطيف يقف في صف الإدارة التي تمنحه الفرصة، وكنا حين نجري تحقيقات صحفية عن تلك المشكلات، نأخذ رأيه؛ باعتباره صوت الإدارة وصوت النظام، لا السينمائي الذي يقف مع زملائه ويدعم مطالبهم وينتمي إليهم.
استفاد عبد اللطيف من كل الفرص التي مُنحت له كاتباً ومؤلفاً لمعظم أفلامه، (باستثناء فيلم الطريق الذي كتبه مع ابن طائفته الشاعر عادل محمود)، كما استفاد من الظهور ممثلاً في العديد من الأفلام، مثلما استفادت زوجته لاريسا عبد الحميد من عملها الطويل كمصممة ملابس في أفلامه وغيرها من إنتاجات المؤسسة، حتى وفاتها. وقبل ذلك لا يجب أن ننسى أن عبد اللطيف الذي درس الأدب العربي في جامعة (تشرين) لمدة عامين، أُوفد في بعثة على حساب الدولة إلى موسكو  عام 1975 ليدرس السينما هناك قبل أن يعود عام 1981، وإذا أردنا أن نضع مشروع عبد اللطيف عبد الحميد في إنجاز أفلام سينمائية ذات جماهيرية، وبسوية فنية تتراوح بين المتوسط والجيد، واستمرارية مثيرة للدهشة في ظلّ الشحّ في الإنتاج السينمائي السوري، فلا بد أن نضعها في هذا السياق، السياق الذي صنع منه مقرَّباً من السلطة، ليس على خلفية انتمائه الطائفي بالضرورة، بل على خلفية مواقفه الممالئة للسلطة على طول الخط، والتي أنتجت بعد الثورة أقذر الأفلام، في الافتراء على أحلام السوريين في التغيير، وحقّهم في أن يحيوا في بلد، يمكنهم فيه انتخاب رئيس كل أربع أو ست سنوات، لا العيش تحت ظل رئيس وابنه الوريث أكثر من نصف قرن مع 16 فرع أمن، تُحصي عليهم أنفاسهم، وتُغيّب أبناءهم وراء الشمس من أجل كلمة، وتحجب فرص العمل وتمنحها تبعاً للرضا والغضب الأمني، في مزرعة “البلد بلدهم”.
عبد اللطيف عبد الحميد مع زوجته لاريسا عبد الحميد ممصمة الملابس التي رحلت عام 2021
في فيلم (الإفطار الأخير) الذي أنتجته له المؤسسة العامة للسينما عام 2019، وحصد عليه جائزة أفضل سيناريو في مهرجان متواضع يُدار حُبّياً وبروتوكولياً، هو (مهرجان الإسكندرية)، يصور عبد اللطيف عبد الحميد قصة حب بين زوجين، تطالهما قذائف “الإرهابيين” التي كانت تسقط على دمشق قادمة من الغوطة المحاصرة التي قصفها بشار الأسد بالكيماوي، فتقتل هذين العاشقين.  طبعاً لا ذكر للكيماوي على الإطلاق، ولا حضور لقصف المدن، ولا البراميل، ولا المجازر، ولا تهجير، وتشريد ملايين، ولا غرقهم في البحر… كل ما يمكن قوله عن الحرب أن هناك فقط قذائف هاون، يطلقها إرهابيون يسمون أنفسهم “ثوّاراً”، فيقتلون الأزواج الذين يحبون بعضهم، وهم في بيوتهم يتناولون طعام الفطور!   
ليس غريباً أن يردّ عبد اللطيف عبد الحميد الدَّين للنظام، بهذه الطريقة من الافتراء أو التزوير أو سواها، فهو ابنه المدلل، وصاحب البداية الميمونة المباركة، فعندما قدّم أول أفلامه (ليالي ابن آوى) عام 1989، وكان مثل فيلم (نجوم النهار) لأسامة محمد، بلهجة ريف الساحل السوري، دعت وزيرة الثقافة آنذاك الدكتورة نجاح العطار الرئيس حافظ الأسد لرؤية الفيلم في عرض خاص. كانت تدرك حساسية أن تقدم السينما لأول مرة أفلاماً بلهجة الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس، ولا تخلو من كوميديا، فأرادت أن تأخذ ضوءاً أخضر للعرض من أعلى سلطة ستحمي قرارها. يُنقل أن حافظ الأسد ابتسم، وابتهج بفيلم (ليالي ابن أوى) لعبد اللطيف عبد الحميد، بينما قطب، وتجهّم في فيلم (نجوم النهار) الذي كان كوميديا هجائية لاذعة عن عسكرة الطائفة العلوية والسلطة الأبوية، أو الأخوية القامعة التي تنتج انهيارات لا سبيل لرأب صدوعها، وعندما سئل عن رأيه، التزم الصمت المتجهم. فمُنع فيلم أسامة محمد من العرض الجماهيري، مع السماح له في المشاركة بالمهرجانات فقط، وسُمح بعرض فيلم عبد اللطيف عبد الحميد مشفوعاً ببركة إعجاب حافظ الأسد، ثم سرعان ما مُنح بعد أقل من عامين فرصة إنتاج فيلمه الروائي الثاني (رسائل شفهية) عام 1991.
أسعد فضة في فيلم (ليالي ابن آوى) 1989
ليس ذنب عبد اللطيف عبد الحميد، أن الأب القائد أُعجب بفيلمه، إذ يبقى (ليالي ابن آوى) من الأفلام المهمة في مشواره، وفي طريقة تناوله لأثر هزيمة حزيران 67 سياسياً واجتماعياً، وإن سعى لتكريس المقولات الشائعة حول أثر الهزيمة على ثقة الإنسان العربي بنفسه، دون الاقتراب من أي محظورات حقيقية،  لكن يبقى ذلك مؤشراً على السقف الذي عرف عبد اللطيف عبد الحميد كيف يتأقلم معه منذ البداية، بمساعدة رقابة، يقول إنها دفعته لإعادة كتابة فيلمه ثلاث مرات، قبل الموافقة، وقبل أن يسير بخطاه الواثقة؛ ليصبح الأكثر حظوة في تاريخ المؤسسة العامة للسينما، والأكثر وفاء للنظام، ولروايته الكاذبة بعد تفجّر الثورة السورية ضده بين كل سينمائيي جيله!  

محمد منصور – العربي القديم
الاحد 19 ماي 2024