أعود إلى فيلم (أيام الضجر)، فحين وضع قيد العرض الجماهيري، بعد انتهاء المهرجان بأشهر قليلة في صالة الكندي التابعة لوزارة الثقافة، كان الحضور الجماهيري محزناً، وقد كتبت أعلق على هذه الحال آنذاك: “كان من المتعذر الحصول على بطاقة لحضور الفيلم، بالنسبة لجمهور المهرجان، حتى قبل ثلاثة أيام من عرضه، أما الآن فصالة سينما (الكندي) في دمشق على الأقل، والتي تبيع تذاكرها بسعر تشجيعي جداً، تبدو وكأنها تعرض فيلماً قديماً لا يجتذب أحداً!”.
أسوق هذه الحالة لتصوير مدى الحظوة التي كان يتمتع بها المخرج عبد اللطيف عبد الحميد الذي رحل عن عالمنا مساء يوم أمس (15/5)، عن عمر ناهز (70) عاماً، والذي كان يسميه حتى أصدقاؤه: “فتى المؤسسة المدلل”، والمقصود بالمؤسسة، هي المؤسسة العامة للسينما التابعة لوزارة الثقافة التي كانت تتكفّل بالإنتاج السينمائي، فقد قدّم عبد اللطيف خلال مسيرته (15) فيلماً روائياً، جميعها من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، باستثناء فيلم (قمران وزيتونة) الذي شاركت في إنتاجه مع شركة الفرسان، وفيلم (مطر أيلول) من إنتاج هيثم حقي بالتعاون مع شبكة “أوربت”، أي إن المؤسسة أنتجت لعبد اللطيف عبد الحميد أكثر من مجموع ما أنتجته لكل من: نبيل المالح، ومحمد ملص، وعمر أميرلاي، وأسامة محمد في تاريخها كله، وهم جيمعا أهم منه سينمائيا بما لا يقاس.
والواقع لم يكن عبد اللطيف عبد الحميد فتى المؤسسة المدلل وحسب، بل كان فتى النظام المدلل برمته… صحيح أن عبد اللطيف كان عاشقاً للسينما، وكان همّه الإنتاج السينمائي، وكان يخرج أفلامه بميزانيات معقولة، لكن الصحيح أيضاً أنه مُنح تلك الفرص؛ ليس بسبب عشقه وإخلاصه للسينما في نظام كل الثقافة لديه لا تساوي حذاء عتيقاً، لكن مُنح الفرص تقديراً لالتصاقه بهذا النظام، وطاعته المطلقة لكل الإدارات التي تعاقبت على المؤسسة العامة للسينما، والتي خاض السينمائيون ضدها حرباً ضروساً؛ من أجل تحسين شروط وحرية الإبداع. في كل تلك الحروب، وكثير منها كانت محقّة، كان عبد اللطيف يقف في صف الإدارة التي تمنحه الفرصة، وكنا حين نجري تحقيقات صحفية عن تلك المشكلات، نأخذ رأيه؛ باعتباره صوت الإدارة وصوت النظام، لا السينمائي الذي يقف مع زملائه ويدعم مطالبهم وينتمي إليهم.
استفاد عبد اللطيف من كل الفرص التي مُنحت له كاتباً ومؤلفاً لمعظم أفلامه، (باستثناء فيلم الطريق الذي كتبه مع ابن طائفته الشاعر عادل محمود)، كما استفاد من الظهور ممثلاً في العديد من الأفلام، مثلما استفادت زوجته لاريسا عبد الحميد من عملها الطويل كمصممة ملابس في أفلامه وغيرها من إنتاجات المؤسسة، حتى وفاتها. وقبل ذلك لا يجب أن ننسى أن عبد اللطيف الذي درس الأدب العربي في جامعة (تشرين) لمدة عامين، أُوفد في بعثة على حساب الدولة إلى موسكو عام 1975 ليدرس السينما هناك قبل أن يعود عام 1981، وإذا أردنا أن نضع مشروع عبد اللطيف عبد الحميد في إنجاز أفلام سينمائية ذات جماهيرية، وبسوية فنية تتراوح بين المتوسط والجيد، واستمرارية مثيرة للدهشة في ظلّ الشحّ في الإنتاج السينمائي السوري، فلا بد أن نضعها في هذا السياق، السياق الذي صنع منه مقرَّباً من السلطة، ليس على خلفية انتمائه الطائفي بالضرورة، بل على خلفية مواقفه الممالئة للسلطة على طول الخط، والتي أنتجت بعد الثورة أقذر الأفلام، في الافتراء على أحلام السوريين في التغيير، وحقّهم في أن يحيوا في بلد، يمكنهم فيه انتخاب رئيس كل أربع أو ست سنوات، لا العيش تحت ظل رئيس وابنه الوريث أكثر من نصف قرن مع 16 فرع أمن، تُحصي عليهم أنفاسهم، وتُغيّب أبناءهم وراء الشمس من أجل كلمة، وتحجب فرص العمل وتمنحها تبعاً للرضا والغضب الأمني، في مزرعة “البلد بلدهم”.
ليس غريباً أن يردّ عبد اللطيف عبد الحميد الدَّين للنظام، بهذه الطريقة من الافتراء أو التزوير أو سواها، فهو ابنه المدلل، وصاحب البداية الميمونة المباركة، فعندما قدّم أول أفلامه (ليالي ابن آوى) عام 1989، وكان مثل فيلم (نجوم النهار) لأسامة محمد، بلهجة ريف الساحل السوري، دعت وزيرة الثقافة آنذاك الدكتورة نجاح العطار الرئيس حافظ الأسد لرؤية الفيلم في عرض خاص. كانت تدرك حساسية أن تقدم السينما لأول مرة أفلاماً بلهجة الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس، ولا تخلو من كوميديا، فأرادت أن تأخذ ضوءاً أخضر للعرض من أعلى سلطة ستحمي قرارها. يُنقل أن حافظ الأسد ابتسم، وابتهج بفيلم (ليالي ابن أوى) لعبد اللطيف عبد الحميد، بينما قطب، وتجهّم في فيلم (نجوم النهار) الذي كان كوميديا هجائية لاذعة عن عسكرة الطائفة العلوية والسلطة الأبوية، أو الأخوية القامعة التي تنتج انهيارات لا سبيل لرأب صدوعها، وعندما سئل عن رأيه، التزم الصمت المتجهم. فمُنع فيلم أسامة محمد من العرض الجماهيري، مع السماح له في المشاركة بالمهرجانات فقط، وسُمح بعرض فيلم عبد اللطيف عبد الحميد مشفوعاً ببركة إعجاب حافظ الأسد، ثم سرعان ما مُنح بعد أقل من عامين فرصة إنتاج فيلمه الروائي الثاني (رسائل شفهية) عام 1991.