لسنا نتحدّث، هنا، عن أحد أقطاب المحافظين الجدد في أمريكا، أو أحد عتاة مفكّري اليمين في أوروبا، أو أحد الساسة العنصريين الذين صاروا في الغرب أصحاب صولة وجولة في صندوق الإقتراع، وقبله في الوجدان الجَمْعي المريض برهاب العرب والمسلمين. صاحب الأفكار هذه ليس سوى البروفيسور فؤاد عجمي، الأمريكي اللبناني الأصل، وأستاذ الدراسات الشرق ـ أوسطية في جامعة جونز هوبكنز، الذي مرّت عليه الأيام المصرية الثمانية عشر المشهودة مرور الصاعقة، كما للمرء أن يتخيّل. وكما هزّت العالم، شعوباً وساسة ومفكّرين، فضلاً عن الخبراء والثقاة والنطاسيين، الاصيل بينهم أو الزائف، فإنها هزّت تسعة أعشار 'حكمة' البروفيسور حول الشعوب العربية عموماً، وحول شعب مصر بصفة خاصة.
فما الذي يمكن أن يقوله اليوم عن الإنتفاضة، الآن وقد أنجزت انتصارها الكبير الأوّل فأسقطت شخص حسني مبارك ومعظم زبانيته، وتستعدّ لمواجهة تحديات أخرى جسيمة قبل الإطاحة بالنظام ذاته، من حيث ركائزه الأمتن وجذوره الأعمق؟ ليس في وسع البروفيسور أن يكون ضدّ الإنتفاضة، بالطبع، ولكنه لا يستطيع إلا الغمز من قناة شعب مصر، واستخراج الأرانب ذاتها من قبعة الحاوي العتيق إياه، تارة عن طريق التلويح بأشباح الإسلاميين المتشددين، وطوراً عن طريق ممارسة النوستالجيا إلى مصر إلى ما قبل 1952.
وفي أحدث مقالاته حول مصر، ونشرته 'وول ستريت جورنال' وبعد تنحّي مبارك، يذكّرنا عجمي بأنّ 'الجهاديين الذين كانوا قادرين على إسقاط مبارك، وجّهوا الضربة لأهداف أمريكية بدلاً عنه. ولا ننسى أنّ محمد عطا وأيمن الظواهري كانا من تنشئة جمهورية طغيان حسني مبارك'. كما يسرد مضمون مكالمة شخصية تلقاها من صديق مصري، في أواسط السبعينيات من عمره، أبلغه أنّ جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك انتزعوا منه حبّ مصر، لكنه في يوم 28 كانون الثاني (يناير) الماضي، بعد صلاة الجمعة، أعادوا إليه حبّ بلده. كلتا الإشارتين، وبمعزل عن تكتيك الإتكاء على الحقّ في سبيل نصرة الباطل، غرضها إسباغ الضباب الداكن على مسائل ساطعة الوضوح، أو صارت أوضح بكثير، وانجلت ملابساتها أكثر، خلال أيام الإنتفاضة.
وفي كتابه الشهير 'قصر أحلام العرب'، 1998، في الفصل المعنون 'القدّيسون والدنيوي'، الذي خصّصه لمصر والمصريين، برهن عجمي أنّ البروفيسور ذا الأصل العربي هو وحده القادر على التحلّي بجسارة القول إن أنور السادات وقاتله خالد الإسطنبولي (كما يسمّيه، وليس الإسلامبولي كما هي الكنية الحقيقية) هما وجهان لعملة مصرية واحدة: الأوّل توأم للثاني. كيف؟ هنا فلسفة عجمي في تركيب تلك التوأمة: 'إن تاريخ مصر، وهويتها تحديداً، على قدر من السيولة يكفي لاستيعاب الحاكم المراوغ الذي ابتلع كبرياءه بقصد التعامل مع إسرائيل والولايات المتحدة، وكذلك لاستيعاب القاتل الذي روّعه الثمن الثقافي المدفوع لقاء الصفقة. وبمعنى ما، السادات والإسطنبولي توأمان'.
ولأنّ البروفيسور تمرّس طويلاً في تقنيات اللعب الأكاديمي، فإنه اتكأ على الكثير من المداميك السوسيولوجية ليقول إن خالد الإسطنبولي (الإسلامبولي) هو ـ و'بكلّ المعاني'، كما يؤكد ـ ابن ثورة الضباط الأحرار التي قادها جمال عبد الناصر عام 1952، ووالده اختار له هذا الاسم تيمناً باسم الابن البكر للرئيس. حين وقعت هزيمة 1967 كان الفتى في العاشرة من العمر، و'كانت ثورة عبد الناصر قد تكشفت عن الكثير من الصخب والعنف والوهم، وحياة الإسطنبولي لم تكن سوى مرآة لدوّامة البلد'. ورغم إقرار عجمي بأن الفتى لم يكن 'أصولياً' بالولادة، أي أنّ خياراته العقائدية لم تولد معه كما تولد العلامة الفارقة، فإنه يغمغم ويتأتىء دون أن يشدد على حقيقة أخرى طبيعية واجتماعية ـ سياسية، مفادها أنّ الولادة العقائدية لأمثال الإسلامبولي لم تكن قيصرية، بل طبيعية ومنطقية وتاريخية.
ألا تقف سيرورات أخرى، طبيعية ومنطقية وتاريخية بدورها، خلف الولادة غير القيصرية لفتى مصري آخر يُدعى وائل غنيم، 'ابن العالم الحديث'، الذي 'لم يندفع بفعل التقوى'، حسب توصيف عجمي؟ وكيف يتغافل البروفيسور اللوذعي عن محرّك تاريخ مصر المعاصرة، الزاخر المتعدد الخصب، الذي استولد نموذجَيْ عطا وغنيم، ولن يتوقف عن استيلاد عشرات النماذج الأخرى، ما دامت مصر ولاّدة؟ وفي أوّل المطاف ونهايته، أين رحم ميدان التحرير النابض بالحياة والثورة، من 'بلاد بوش' الإفتراضية الإستيهامية الزائفة؟
-----------------------
القدس العربي
فما الذي يمكن أن يقوله اليوم عن الإنتفاضة، الآن وقد أنجزت انتصارها الكبير الأوّل فأسقطت شخص حسني مبارك ومعظم زبانيته، وتستعدّ لمواجهة تحديات أخرى جسيمة قبل الإطاحة بالنظام ذاته، من حيث ركائزه الأمتن وجذوره الأعمق؟ ليس في وسع البروفيسور أن يكون ضدّ الإنتفاضة، بالطبع، ولكنه لا يستطيع إلا الغمز من قناة شعب مصر، واستخراج الأرانب ذاتها من قبعة الحاوي العتيق إياه، تارة عن طريق التلويح بأشباح الإسلاميين المتشددين، وطوراً عن طريق ممارسة النوستالجيا إلى مصر إلى ما قبل 1952.
وفي أحدث مقالاته حول مصر، ونشرته 'وول ستريت جورنال' وبعد تنحّي مبارك، يذكّرنا عجمي بأنّ 'الجهاديين الذين كانوا قادرين على إسقاط مبارك، وجّهوا الضربة لأهداف أمريكية بدلاً عنه. ولا ننسى أنّ محمد عطا وأيمن الظواهري كانا من تنشئة جمهورية طغيان حسني مبارك'. كما يسرد مضمون مكالمة شخصية تلقاها من صديق مصري، في أواسط السبعينيات من عمره، أبلغه أنّ جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك انتزعوا منه حبّ مصر، لكنه في يوم 28 كانون الثاني (يناير) الماضي، بعد صلاة الجمعة، أعادوا إليه حبّ بلده. كلتا الإشارتين، وبمعزل عن تكتيك الإتكاء على الحقّ في سبيل نصرة الباطل، غرضها إسباغ الضباب الداكن على مسائل ساطعة الوضوح، أو صارت أوضح بكثير، وانجلت ملابساتها أكثر، خلال أيام الإنتفاضة.
وفي كتابه الشهير 'قصر أحلام العرب'، 1998، في الفصل المعنون 'القدّيسون والدنيوي'، الذي خصّصه لمصر والمصريين، برهن عجمي أنّ البروفيسور ذا الأصل العربي هو وحده القادر على التحلّي بجسارة القول إن أنور السادات وقاتله خالد الإسطنبولي (كما يسمّيه، وليس الإسلامبولي كما هي الكنية الحقيقية) هما وجهان لعملة مصرية واحدة: الأوّل توأم للثاني. كيف؟ هنا فلسفة عجمي في تركيب تلك التوأمة: 'إن تاريخ مصر، وهويتها تحديداً، على قدر من السيولة يكفي لاستيعاب الحاكم المراوغ الذي ابتلع كبرياءه بقصد التعامل مع إسرائيل والولايات المتحدة، وكذلك لاستيعاب القاتل الذي روّعه الثمن الثقافي المدفوع لقاء الصفقة. وبمعنى ما، السادات والإسطنبولي توأمان'.
ولأنّ البروفيسور تمرّس طويلاً في تقنيات اللعب الأكاديمي، فإنه اتكأ على الكثير من المداميك السوسيولوجية ليقول إن خالد الإسطنبولي (الإسلامبولي) هو ـ و'بكلّ المعاني'، كما يؤكد ـ ابن ثورة الضباط الأحرار التي قادها جمال عبد الناصر عام 1952، ووالده اختار له هذا الاسم تيمناً باسم الابن البكر للرئيس. حين وقعت هزيمة 1967 كان الفتى في العاشرة من العمر، و'كانت ثورة عبد الناصر قد تكشفت عن الكثير من الصخب والعنف والوهم، وحياة الإسطنبولي لم تكن سوى مرآة لدوّامة البلد'. ورغم إقرار عجمي بأن الفتى لم يكن 'أصولياً' بالولادة، أي أنّ خياراته العقائدية لم تولد معه كما تولد العلامة الفارقة، فإنه يغمغم ويتأتىء دون أن يشدد على حقيقة أخرى طبيعية واجتماعية ـ سياسية، مفادها أنّ الولادة العقائدية لأمثال الإسلامبولي لم تكن قيصرية، بل طبيعية ومنطقية وتاريخية.
ألا تقف سيرورات أخرى، طبيعية ومنطقية وتاريخية بدورها، خلف الولادة غير القيصرية لفتى مصري آخر يُدعى وائل غنيم، 'ابن العالم الحديث'، الذي 'لم يندفع بفعل التقوى'، حسب توصيف عجمي؟ وكيف يتغافل البروفيسور اللوذعي عن محرّك تاريخ مصر المعاصرة، الزاخر المتعدد الخصب، الذي استولد نموذجَيْ عطا وغنيم، ولن يتوقف عن استيلاد عشرات النماذج الأخرى، ما دامت مصر ولاّدة؟ وفي أوّل المطاف ونهايته، أين رحم ميدان التحرير النابض بالحياة والثورة، من 'بلاد بوش' الإفتراضية الإستيهامية الزائفة؟
-----------------------
القدس العربي