نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


حوارات طرشانية في مدينة العميان




في أستانبول يستطيع حتى الأعمى أن يتعرف على خيرات الديمقراطية ، وإمكانية زرعها بنجاح ، وانتظار ثمارها المباركة في البلاد العربية والاسلامية ، وما بين المساحة القصيرة الممتدة من جامع السلطان أحمد الى كنيسة "آياصوفيا" لا يمكنك مهما كنت من القساة أوالمراوغين إلا ان تعترف و تفكر طويلا في فضيلة التسامح ، وأهمية تعايش الأديان والافكار والبشر مهما تطاحنوا وأختلفوا ، فهناك يربض ذاك المبنى الفخم الذي عاش ككنيسة قرابة تسعة قرون ثم كمسجد قرابة القرون الخمسة ، وهاهو الآن قد تحول بصمت ووقار الى متحف للفنون


الجامع الازرق
الجامع الازرق
وهناك أيضا المسجد الأزرق مسجد السلطان أحمد الذي أنشأه المهندس سنان لسلطان لم يستمع لغوغائيي الفكر والعقيدة حين طالبوه بهدم كنيسة بيزنطة وتحفتها المعمارية "آيا صوفيا" بل قال لمهندسه لنبقها على حالها ونقيم بالقرب منها مسجدنا وهكذا كان ، وما ذاك في ساحة التسامح داخل الاسلام بجديد فقد أعاد عمربن عبد العزيز لنصارى الشام كنائسهم في موقف سجله التاريخ بأحرف من محبة .
وقد بدأنا الاستهلال بالأعمى لأن أستانبول بالأصل كانت تسمى " مدينة العميان " ويقال في أساطير نشوئها – وخلف كل مدينة أسطورة – أن الكورنثيين ذهبوا الى عراف "دلفي" ليسألوه النصيحة ورأي النجوم في المكان الذي يجب أن يقيموا فيه مدينة توفر لهم السعادة والهناء ، فاستفتى العراف عفاريته ونجومه وبخوره ، وقال : أذهبوا الى المكان الذي أمام مدينة العميان ، وأقيموا بنيانكم على بركة النجوم .
ولما لم يكن أحد يعرف أين تلك المدينة أستسلم القوم لقدرهم ، ووثقوا بنبوءة عرافهم ، فأبحروا ليلا نحو المجهول الى ان ألقو المراسي على شاطئ بحر مرمرة وناموا ، فلما أفاقوا صباحا ووجدوا أنفسهم بين المناظر البديعة الموزعة بين البوسفور الفضي ومضيق القرن الذهبي أيقنوا أنهم وصلوا مبتغاهم ، وقال قائلهم : من يقف هنا و يرى هذا الجمال البهيج ، ولا يحس بالسعادة لابد ان يكون من العميان .
وقد وجد الكورنثيون ضالتهم جماليا لكنهم لاحقا سيدركون تحت وطأة الاستبداد والطغيان والتعسف والمصادرة إن جمال المناظر وحده لا يحقق السعادة ، فالانسان لا يمكن ان يسعد ويبني حضارة وثقافة دون حرية ، وشئ من العدالة والمساواة لذا غرقوا في الحروب الداخلية ، ولم يستطيعوا لقرون أن يتوافقوا حول مستقبلهم لإنعدام لغة الحوار الإيجابي بينهم ففي تلك المدينة أيضا ولد مصطلح " حوار بيزنطي " لأن أسم المدينة الأصلي باللاتينية هو " بيزانجا" التي حورها العرب الى بيزنطة لتصبح عنوانا لحضارة ورمزا لحوارات فارغة لا تنتهي الى نتيجة كما هو الحال في حوارات المثقفين " القعدة" الذين يتفرجون على أوطان تذبح وينشغلون عن الدفاع عنها وعن حريتها وكرامتها بفرضيات لا تستر عريهم ، ولا جبنهم الذي لا يليق بكرامة الثقافة ولا ينسجم مع بديهيات الفكر الحر .
ويقال في معرض التشهير بمصطلح " حوار بيزنطي "أن فلاسفة المدينة ومثقفيها ولاهوتييها كانوا مشغولين حين حاصرت جحافل محمد الفاتح القسطنطينية ، أو " بيزانجا " بالحوار حول قضية عويصة أثارها سؤال عجيب من أحد الفارغين ، وهو : كم من الملائكة يمكن ان يقفوا على رأس ابرة دون أن يتزحلقوا ..؟
ألا يذكركم هذا السؤال بالذين يتحاورون في المقاهي اليوم حول كل شئ باستثناء القضية الأساسية التي يفترض أن تشغل بال كل إنسان في منطقتنا وهي كيفية القضاء على الإستبداد ، والتفرغ لبناء أوطان حرة تحقق العدالة والمساواة لمواطنيها بعد حقب مديدة – إن لم نقل قرونا – من إلغاء الشعوب لصالح فئة معدودة من المستبدين .
في أستانبول وأثناء الإعلان عن تشكيل " المجلس الوطني السوري" قبل أيام تكاثر "البيزنطيون" الذين طرحوا مختلف أنواع الأسئلة ، وساقوا كل أشكال الإتهامات ضد مجلس لم يروا شيئا من خيره أو شره دون أن يلاحظوا أن الشعب السوري لا وقت لديه الآن لترف الحوارات البيزنطية حتى في بيزنطة ، فهناك جرائم يومية ترتكب ودم برئ يراق ، وأعراض تنتهك ، وجيش يوجه سلاحه الى صدور شعبه ، ووطن يستحق أي شكل من أشكال الحماية والدعم بدلا من هذه الفذلكات المعيبة التي تعود عليها مثقفو السلطة وفقهاء السلطان عن الخوف من الفتنة إن زال السلطان الجائر ، وكأن الفتنة ليست قائمة ؟ وكأن الذين يدافعون عنهم ليسو هم من أيقظها .
هؤلاء وتبريرا لمواقفهم المتخاذلة سارعوا الى القول بعد دقائق من تشكيل المجلس السوري انه انشئ ليمهد للتدخل العسكري ، وليكون بمثابة غطاء له ، وكأن برهان غليون الذي لم يقتل ذبابة ولا رفع ملعقة في وجه سائق باص هو المجرم وبشار الأسد الذي يبيد شعبه بالألوف حمل برئ يهدده بضعة مدنيين أجتمعوا على عجل بعد شهور من حوار الطرشان لبحث مصائر شعبهم في مدينة العميان .
بعض هؤلاء وفي الحالة السورية تحديدا يعتقدون أن النظام السوري الذي يدافعون عنه ضمنا – وأحيانا صراحة - باق طالما أن اسرائيل تريد له أن يبقى ، ويهمل هؤلاء .أو لعلهم لم يلاحظوا إن الاسرائيليين يطيلون أمد السقوط ، وهذا يختلف عن دعم البقاء ، فالمقصود أستراتيجيا بالنسبة للصهاينة ألا يرحل – أسدهم – إلا بعد أن يدمر ما أستطاع من قوة الجيش السوري نيابة عنهم ، وأن ينهي علاقة هذا الجيش بشعبه ، وهذا تحقق جزئيا بفضل غباء سياسي منقطع النظير .
وقبل الدخول في تخمينات عن الوقت الذي يحتاجه نظام مهلهل ليسقط هناك حكاية طريفة عن الحكام الضعفاء المرتهنين لقوى تحركهم لها علاقة بالأتراك ايضا ، ويرويها ابن الأثير في تاريخه اثناء الحديث عن خلفاء بني العباس ، فيقول :
حين تولي المعتز الخلافة سأل خواصه من المنجمين كم يعيش وكم يحكم ؟ فقال أحد ظرفاء مجلسه : أنا اعرف ، فقالوا له : أخبرنا قال : أن مولانا سيحكم طالما أراده الأتراك أن يحكم .
ولعل الذين أطالوا أمد سقوط الأسد ، والاتراك منهم في المرحلة الأولى قد أدركوا الآن أن اللعب بدماء السوريين لا يمكن أن يستمر دون نتائج كارثية للمنطقة ، وان حوار الطرشان عن ان أستقرار المنطقة لا يتم ويكتمل إلا بالحفاظ على الأنظمة المستبدة بعد ترقيع أسمالها هو في الواقع كالسعادة الإفتراضية في مدينة العميان مسألة غير ممكنة ، وغير قابلة للتحقق ، فالتضحيات التي تطلب من الشعب السوري ليتحمل الذبح المبرمج بصمت دون طلب حماية دولية للمدنيين ماهي في التحليل الأخير إلا نوع من أنواع الحوارات البيزنطية التي تنبع من فكرة عبثية ليس فيها جنس المنطق ، وبالتالي فهي، ومع كامل الإحترام لمطلقيها والمدافعين عنها ليست مقبولة ، وغير قابلة للنجاح .
نحن نعرف إن الذين يتحدثون عن إستقرار المنطقة يعنون إسرائيل ولا يعنيهم غيرها لكننا سنغمض أعيننا ونتظاهر بعدم المعرفة ونقول: إن كانت التضحية بشعوب كاملة ممكنة فليتقدموا ليضحوا ، وان كان هذا النوع من التضحيات غير موجود ، فليكفوا عن دعوة السوريين الى تحمل ما لا يطاق .
-------------------------
أخبار اليوم المصرية



د . محيي الدين اللاذقاني
الاثنين 10 أكتوبر 2011