إمارة الإنقاذ
تخضعُ المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في محافظة إدلب وريف حلب الغربي لسلطة «هيئة تحرير الشام» وحكومة «الإنقاذ» المرتبطة بها. لم يكن الحال كذلك طوال الوقت، فقد كانت محافظة إدلب وأرياف حلب تعجّ بالفصائل المحلية التي تشكّلت على مستوى القرى والبلدات وقاتلت لإخراجها من قبضة قوات النظام، وتعايشت بعد ذلك مع سيطرة فصائل إسلامية كبيرة لا تَستخدم القبضة الحديدية، كان من أهمها حركة أحرار الشام الإسلامية وصقور الشام، وكذلك مع تجمّع كبير يحمل علم الجيش الحر هو جبهة ثوار سوريا. وبعض هذه الفصائل التي بقيت على محلّيتها، من حيث طموحات الامتداد والسيطرة، كانت من الأهم عسكرياً في المنطقة، مثل جبهة ثوار سراقب وجيش العزة. لكن ذلك تغيَّر تماماً اليوم، إذ تتحكم الهيئة وزعيمها أبو محمد الجولاني بكل تلك المناطق بعد قضائها على أغلب تلك الفصائل وإنهائها مادياً ومعنوياً. كثيرون لا ينسَون كلمات الشرعي المصري -الذي انشقَّ عن الهيئة لاحقاً- أبو اليقظان المصري، عندما قال للعناصر «اضرب في الرأس» خلال تحضيرهم لإحدى المعارك مع فصائل محلية في المنطقة.
وعلى الرغم من استتباب الأمر نظرياً لأحمد الشرع، الملقب بأبو محمد الجولاني (الفاتح، حسب كنايته في مطلع تُشكُّل فصيله)، في حكم إدلب ومحيطها، وحتى اقترابه من السيطرة على مناطق في ريف حلب الشمالي وعفرين بعد اشتباكات مع الفيلق الثالث حال دونها تدخُّل الجيش التركي، إلّا أنّ عدوّاً جديداً ظهر للجولاني في «عقر داره». هذه المرة سيتردّد الرجل في «الضرب في الرأس»، إذ أنّ كثيراً من الرؤوس كانت من قيادات تنظيمه نفسه، حيث نفَّذَ الجهاز الأمني في الهيئة بقيادة نائب الجولاني والشخصية الأقرب إليه اليوم أنس خطاب المعروف باسم أبو أحمد حدود، ومنذ بداية الصيف الماضي، حملة اعتقالات واسعة شملت مئات العناصر والقيادات ضمن الهيئة بتهمة العمالة للخارج. كان الجولاني ومَن حوله يُشيعون طوال أشهر بأنّهم حصلوا على اعترافات دون إكراه من هؤلاء المعتقلين، الذين لم يُعرَف عددهم الحقيقي حتى اليوم، بالعمالة للتحالف الدولي والنظام السوري وروسيا.
شهدت الأيام القليلة الماضية انقلاباً على مسار الأحداث هذا، إذ خرج الجولاني مجدداً واعتبر أنّ إجراءات الجهاز الأمني كانت قاسية وشابتها تجاوزات كثيرة أدَّت لاعترافات كاذبة، وبدأت فجأة حملة إفراجات جماعية عمّن اعتقلوا لأشهر بتهمة العمالة، وسط حفلة تبرئة جماعية لهم ومحاولة لردّ اعتبارهم، دون أن نعلم حقاً ما الذي جرى. لم تتوقف حملة الاعتقالات والإفراجات التي أعقبتها على عناصر في الهيئة، بل شملت آخرين من مقاتلين سابقين وحاليين في فصائل أخرى، ومدنيين أيضاً، لكنّ ذلك لم يكن ليمر بسهولة على الشارع الإدلبي.
من بين أسباب كثيرة تراكمت خلال السنوات الماضية، من بينها احتكار الحياة العامة والاقتصادية في إدلب، أدّت أخبار التعذيب داخل سجون الهيئة، ومقتل عدد من المعتقلين بسببه، إلى انفجار واسع للمظاهرات التي شملت تقريباً معظم مدن وبلدات المنطقة التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام. وكان للمظاهرات التي قادها شبان من خريجي وطلبة الجامعات في مدينة إدلب، ورفعهُم لشعارات تطالب بإسقاط الجولاني وجهازه الأمني، صدىً واسعٌ في المنطقة التي بدأت تشهد اليوم حراكاً شبه يومي مناهضاً لسيطرة الهيئة وسطوتها ورفضاً لسلطة الأمر الواقع فيها.
وضعت تلك التطورات الجولاني في موقفٍ صعبٍ للغاية، والرسائل التي تطلقها الأجهزة المرتبطة به تشمل طيفين من التوجهات؛ أولها يحاول تقديم موقفٍ يتفهّم المتظاهرين، ويحاول تقديم «إصلاحات» وإن شكلية لإرضائهم، والثاني يحاول أن يعتبر ما يجري فتنة، أو بالأحرى سحباً للشارع إلى فتنة كبيرة في المنطقة دون أن يدري.
ليس في الأمر جديدٌ على تعامل الأنظمة والتنظيمات القمعية مع أي حراكٍ مناهضٍ لها، فهي اللعبة ذاتها التي تريد لاحقاً تبرير حملات قمع وحشية مُحتملة، خاصةً وأنّ هناك جهةً يمكن تحميلها مسؤولية ما يجري وربما تقديمها لاحقاً كعبرة يمكن تخويف الآخرين بها. فعلى الرغم من أنّ حملة الاعتقالات، التي بدأت الصيف الماضي، اعتمدت بشكلٍ أساسي على تهم العمالة لجهات خارجية، إلّا أنّ حملات سبقتها وأعقبتها ركَّزَت جهودها على القضاء على أي وجود لـ«حزب التحرير الإسلامي» في إدلب وعموم المنطقة التي تسيطر عليها الهيئة.
حزب التحرير هو واحدٌ من أقدم حركات الإسلام السياسي في المنطقة والعالم، والذي تميَّزَ منذ بدايته بتطرُّف أفكاره التي تنادي مثلاً بعودة الخلافة، وفي الوقت نفسه باعتماده مبادئ السلمية ونبذه للعنف في سبيل الوصول إلى هدفه. عُرِفَ أعضاء هذا الحزب بالنشاط الكبير في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، فعلى سبيل المثال استطاع الحزب، وعلى الرغم من قلّة مريديه في القسم الشرقي من مدينة حلب خلال فترة سيطرة الجيش الحر عليها بين عامي 2013-2016، نشر عدد كبير من اللافتات والصور التي تُروّج للحزب إلى درجة كان يمكن أن تدفع للاعتقاد بأنّه بات يسيطر على المدينة.
يتنافس الحزب في منطقة إدلب مع الهيئة على جمهور الإسلاميين الأكثر محافظةً، كما كان يطلق دعاية مضادة للهيئة تتهمها بتسليم المناطق للنظام السوري، و«التخاذل» عن محاربة النظام مقابل فتح معابر تجارية معه. وقد دفع هذا التبايُنُ هيئة تحرير الشام إلى استخدام قوتها ضد الحزب، وبدء حملة اعتقالات لأفراده وسجنهم دون أي محاكمة. بالمقابل أدّت تلك الاعتقالات إلى نشوء حراك تقوده نساء حزب التحرير من عائلات المعتقلين لدى الهيئة، واللواتي أصبحت وقفاتهنّ نشاطاً مُتوقَّعاً بشكل أسبوعي في المنطقة التي يحكمها أبو محمد الجولاني، للمطالبة بإسقاطه مع أجهزته الأمنية والإفراج عن أزواجهن وأبنائهن من المعتقلين لدى الهيئة.
ليست أخبار قتلى التعذيب في سجون الجولاني السبب الوحيد الذي فجّر الحراك المناهض لسطوة «هيئة تحرير الشام» في إدلب، إذ تراكمَ عدد كبير من الأسباب التي قد يخصُّ بعضها فئات بعينها، فالصبايا والشباب الذين يدرسون في الجامعة اليوم أو تخرجوا منها منذ وقتٍ قريب، وجدوا أنفسهم في منطقة يحكمها تنظيم مُصنَّف كتنظيمٍ إرهابي، وتخضع كل أوجه الحياة فيها لهذا التنظيم أو أحد أذرعه، إذ لا يمكن لأحد أن يفتح دكاناً دون أن يأتيه عناصر الهيئة ليقاسموه في رزقه، ولا يمكن المشاركة في ندوة طلّابية في إدلب دون أن تُثار أسئلة عن علاقة المشاركين بتنظيم على قوائم الإرهاب الدولية، فيما رصاص الجندرما التركية يحرس بعناية قاتلة حدودَ تركيا، دون الحديث عن الأفق المُغلق في ما تبقّى من سوريا وطلب أهلها الفرار من مختلف المناطق التي يعيشون فيها.
يشارك في الحراك المناهض للهيئة أيضاً مقاتلون سابقون من فصائل سبق أن ابتلعها الجولاني، أو مقاتلون سابقون فضّلوا إلقاء السلاح على الانسحاب مع فصائلهم إلى ريف حلب الشمالي بعد أن هُزمت على يد الجولاني؛ ومدنيون وجدوا أنفسهم بعد سنوات من النضال من أجل إسقاط حكم الأسد الوحشي، الذي دائماً ما وُصِفَ بأنه حكم أمني، يعيشون تحت سلطة تستخدم الأمن بالطريقة ذاتها للحفاظ على استمرارها؛ وجهاديون بدأوا أيضاً برفع صوتهم المناهض للهيئة، التي تخلّت حسب تصورهم عن مشروعها «الجهادي» الأساسي عندما «بدلت لونها»؛ وقادة سابقون في الهيئة ذاتها، انشقوا عنها لأنّهم لم يجدوا لأنفسهم مكاناً في الحلقة المصغرة المحيطة بالجولاني والتي تتحكّم بكل شيء في المنطقة.
مناطق حكومة الفصائل المؤقتة
تعمل الحكومة السورية المؤقتة في مناطق ريف حلب الشمالي، حيث ينتشر خليطٌ بالغ التعقيد من فصائل انضوت تحت لواء ما يُعرف بـ«الجيش الوطني السوري». ويتكون «الجيش» رسمياً من «فيالق» ليست سوى تحالفات رخوة لفصائل معارضة سبقَ أن قاتل كثيرٌ منها تحت راية الجيش السوري الحرّ، وتحتفظ في معظمها بأسمائها الأصلية ويحتفظ قادتها بسلطة لا تتّسق بالضرورة مع الهيكلية الرسمية. وتتألف بعض هذه الفصائل من مقاتلين من أبناء المناطق نفسها، فيما يتألف بعضها الآخر من مقاتلين تم تهجيرهم من سائر أنحاء البلد، من شرقه إلى جنوبه ووسطه وغربه وشماله، بعد خسارتهم لمعارك مع داعش أو قوات سوريا الديمقراطية أو قوات النظام أو هيئة تحرير الشام.
ينضوي في هذه الفصائل عشرات آلاف المقاتلين، يتلقون رواتب متواضعة من وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة، ولديها مصادر تمويل أخرى ذاتية متنوعة ترتكز في معظمها على عمليات التهريب والسيطرة على المعابر والطرقات، وفرض الأتاوات وصولاً في بعض الحالات إلى عمليات نهب للأرزاق في عفرين على وجه الخصوص، وفي غيرها أيضاً، بما في ذلك أعمال الخطف لطلب فدية وغير ذلك من جرائم. ولا يشمل السجلّ الإجرامي جميعَ الفصائل والمجموعات والعناصر بطبيعة الحال، بل يختلف الأمر وفقاً لعوامل معقدة تبدأ بعلاقة الفصيل بالسكّان في مناطق تواجده ولا تنتهي عند البنية المافيوية المتباينة بين الفصائل، بحسب تاريخها وسجلّها السابق في المناطق التي نشأت فيها.
كذلك تتباين هذه الفصائل في خلفياتها الإيديولوجية، بين تنظيمات من منابت سلفية مثل جيش الإسلام، ومنابت إخوانية مثل فيلق الشام، ومنابت إثنية مثل الفصائل التركمانية، وغير ذلك. ولا يعني التباين الإيديولوجي والإثني أشياءَ كثيرة اليوم على صعيد فهم تحالفات هذه الفصائل وتفسير مَسالكها الحالية والمُحتملة، لكن الإشارة إليه ضرورية للقول إننا لا نتحدث عن «جيش نظامي»، ويجدر أن يبقى هذا في البال عند النظر في المآلات المحتملة خلال الأشهر والسنوات القادمة.
بدأت النواة الأساسية لمشروع الجيش الوطني فعلياً مع عملية «درع الفرات» عام 2016، التي خاضت فيها فصائل بمشاركة ميدانية من الجيش التركي معارك لطرد تنظيم داعش من ريف حلب الشمالي والشرقي. ثم جاء تأسيس الجيش الوطني بعدها رسمياً بدعم تركي عام 2017، وخاضت فصائل منه بعد ذلك مع القوات التركية عملية «غصن الزيتون» مطلع 2018 ضد قوات سوريا الديمقراطية في عفرين، انتهت باحتلال المنطقة وطرد مقاتلي قسد وتهجير عشرات الآلاف من السكّان الكرد. بعدها خاضت فصائل منه أيضاً معركة «نبع السلام» في شمالي الجزيرة السورية عام 2019 ضد قسد مُجدداً، وسيطرت على مناطق تل أبيض ورأس العين ومحيطها وارتكبت هناك جرائم متنوعة أيضاً. وما ينطبق على ريف حلب الشمالي ينطبق على شمالي الجزيرة السورية من حيث التشرذم والرثاثة، مع اختلاف في الديناميات المحلية.
طوال هذا الوقت لم يتوقف الحديث عن «إعادة هيكلة الجيش الوطني» دون طائل، كما دارت مراراً جولات من المعارك الداخلية بين هذه الفصائل، موضوعها الأساس كان التنازع على السيطرة والموارد، وربما التنافس على الحظوة لدى القوات التركية وعلى مصادر القوة استعداداً لمرحلة أخرى ليس معروفاً متى يمكن أن تأتي فعلاً. وبينما لا يجد كثيرون ممّن حملوا السلاح ضد النظام هناك في مراحل سابقة بديلاً عن البقاء في هذه التشكيلات، التي سيعني تفكُّكها استباحةً لحياة المقاتلين السابقين فيها خاصة إذا انتهى الأمر بعودة النظام إلى المنطقة، فإن استمرار الأوضاع على حالها يعني بدوره كارثة مفتوحة من نوع آخر.
الكلمة العليا في كلّ هذه المناطق، إدارياً وأمنياً وعسكرياً، هي للقوات والمخابرات والإدارة التركية، وقد ارتبطت صياغة كل هذه الأوضاع أساساً بحاجات «الأمن القومي التركي» في مواجهة حزب العمال الكردستاني، وبالسياسات التركية التي تهدف بوضوح إلى تقويض الوجود الكردي بشرياً وسياسياً وأمنياً قرب الحدود السورية التركية. يعني ذلك أول ما يعني أن مصير المنطقة رهينٌ بما تقرره الحكومة التركية إلى حدّ بعيد، وأن الجرائم التي تورطت فيها تلك الفصائل، خاصة في ممارساتها ضد الكُرد في عفرين التي تحمل عناصر جريمة التطهير العرقي، ستترك أثراً مديداً على السكّان وعلاقاتهم البينية في شمال سوريا لعقود قادمة.
تعيش هذه المناطق أوضاعاً اجتماعية واقتصادية وأمنية بالغة الصعوبة، تتمحور كلها حول عوامل ثلاثة ليس معروفاً كيف يمكن أن تؤدي مشاريع «إعادة الهيكلة» التي يتم طرحها دورياً إلى حلّها: غياب أي أفق للتغيير السياسي في سوريا بما يمهّد لحد أدنى من عودة الحياة إلى طبيعتها؛ والضعف الشديد في الاستقلالية على كل المستويات تجاه السيطرة التركية وإملاءاتها؛ وغياب الأمن نتيجة تَعدُّد المسيطرين وتنازعهم والطبيعة المافيوية لتشكيلات أساسية منهم. وإذا كانت «إعادة هيكلة» جدّية لمؤسسة «الجيش الوطني» قد تُساهم في جعل هذه المشكلات أقل وطأة، وخاصة ما يتعلق بالفوضى والاعتداء على حقوق الناس، فإن الوقائع على الأرض لا تشير إلى ترجيح السير جدياً على هذا الطريق.
ومن هذه الوقائع عشرات الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها هذه الفصائل، والتي فصَّلَ تقريرٌ صدر عن هيومن رايتس ووتش الأسبوع الماضي بعنوان «
كل شي بقوة السلاح » ملامحَ أساسية من طبائعها، وصوراً لأشكال الحصانة التامة للمنتهكين وقدرتهم التامة على استباحة كرامات وأملاك وحيوات الناس تحت حكمهم، خاصةً الكُرد منهم، دون أي آلية ردع داخلية ولا محاسبة من الغطاء التركي. وبعض الجرائم، مثل نهب الأرزاق في عفرين، باتت ممارسات منهجية بنيوية لا يبدو أن «قيادة الجيش الوطني»، إن كان يوجد ما يمكن اعتباره «قيادة» فعلاً، تجدُ حرجاً فيها. وذلك كله يحدث في سياق من غياب أي فعالية لأجهزة القضاء المحلية تجاه الفصائل وانتهاكاتها.
كذلك فإن التأمُّلَ في تفاصيل المعارك الداخلية، ومن أبرزها ما جرى عام 2022 عندما اقتحمت هيئة تحرير الشام مناطق في عفرين، يقول الكثير عن واقع المنطقة وطروحات «إعادة الهيكلة». في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2022،
اغتالت مجموعة تابعة لفرقة الحمزة ، المنضوية في «الجيش الوطني»، الناشط محمد أبو غنوم وزوجته بالرصاص في مدينة الباب بريف حلب، وأدى ذلك إلى مظاهرات غاضبة تطالب بالقصاص من القتلة، ليتدخل بعدها الفيلق الثالث في «الجيش الوطني» ويقوم باعتقال القتلة والسيطرة على مقرات «الحمزات» في مدينة الباب، وتندلع بعدها معارك واسعة بين «الحمزات» والفيلق الثالث وتمتد الاشتباكات إلى عفرين، وتدخل هيئة تحرير الشام في المواجهة ضد الفيلق الثالث، وتتسع دائرة المواجهة بانضمام فصائل أخرى في «الجيش الوطني» لصالح هذا الطرف أو ذاك.
وصلت قوات الهيئة تحرير الشام إلى مدينة عفرين وتجاوزتها باتجاه مناطق على طريق اعزاز، وبدا وقتها أنها تنوي السيطرة فعلاً على منطقة عفرين على الأقل وربما أكثر من ذلك،
لكن المعارك توقفت بعدها بضغط تركي أعقبته انسحابات متتالية لقوات الهيئة من المناطق التي تقدمت إليها باتجاه إدلب.
ثمة تفاصيل كثيرة قبل وأثناء وبعد تلك المواجهة لا يتّسع المجال لذكرها، لكن الخلاصة أن هذا المقدار من الاستعداد للاقتتال وتغيير التحالفات من أجل السيطرة، بما في ذلك التحالف مع هيئة تحرير الشام، وبالمقابل عدم اللجوء إلى أي جهاز قضائي لمحاسبة مرتكبي الجريمة بل الذهاب سريعاً إلى معركة أكبر بدا واضحاً أنها تتجاوز الجريمة نفسها، يشي بأن الكلام عن «إعادة الهيكلة» والـ«مأسسة» يبدو مستحيل التنفيذ، هذا إذا كان جدياً أصلاً. والأرجح أن هذا ينطبق على مشروع إعادة الهيكلة الجديد الذي
تم طرحه الشهر الماضي، الذي يبدو مُكرَّساً فقط للتصدي لهيئة تحرير الشام وتصاعد حضورها في مناطق سيطرة «الجيش الوطني»، ذلك بينما تواجه الهيئة مظاهرات ضد ممارستها وتسلطها وجرائمها في مناطق إدلب وريف حلب الغربي، وكان مُحرّك هذه الموجة من الاحتجاج مقتل شخص في سجون الهيئة تحت التعذيب، والضحية عنصرٌ في أحد الفصائل المنضوية اليوم في «الجيش الوطني».
أما فرقة الحمزة التي قتلَ عناصرُ منها محمد أبو غنوم وزوجته قبل نحو عام ونصف، فإنها تُواصل جرائمها بعد كل ما جرى ويجري، وكان عناصر فيها قد وجَّهوا تهديدات للناشطة هبة حاج عارف في مدينة بزاعة بريف حلب، والأرجح أنهم هم الذين قاموا بقتلها لاحقاً.
هبة حاج عارف ناشطة نسوية سورية، وعضوة في الحركة السياسية النسوية السورية، وسبق أن كانت عضوة في المجلس المحلي لمدينة بزاعة، لكنها تقدمت باستقالتها بعد ضغوط وتهديدات من سلطات الأمر الواقع على ما أكدت مصادر مقرّبة منها ومن عائلتها لجهات إعلامية عديدة. وسلطةُ الأمر الواقع الأساسية في بزاعة هي فرقة الحمزة نفسها، التي يبدو أن عناصر فيها واصلوا تهديداتهم لهبة حتى بعد استقالتها من المجلس المحلي. فارقت هبة حاج عارف الحياة مقتولة قبل أيام في منزلها في بزاعة، ولا يبدو أن المسار يتجه فعلاً إلى محاسبة القتلة، حتى أن مديرية الأمن المحلية
قالت في بيان لها إنه تم اعتقال أشخاص مشتبه بهم ، مؤكدة على «عدم وجود أي صلة لهم بالفصائل العسكرية إضافة إلى عدم وجود ارتباط بين الحادثة وأي عمل له علاقة بالشأن العام».
يبدو أن هناك مساراً للتنصّل من المسؤولية عن الجريمة إذن، وهو يأتي في سياق مسار عام من التدهور الرهيب في مستوى الحريات العامة والتضييق على النشطاء والناشطات؛ والناشطات على وجه الخصوص، اللواتي يتعرّضنَ دورياً لهجمات تتهمهّن بـ«نشر الانحلال» على ما سبق للشيخ أسامة الرفاعي أن قال في خطبة في مدينة اعزاز.
في شمال غربي سوريا، على ضفتي خطّ تماس الكباش المركّب بين هيئة تحرير الشام وفصائل الجيش الوطني المرعي تركياً، نجد مشاهد مُتماثلة في فداحة آثارها على كرامات وحيوات الناس، ترتكبها تحت رموزٍ مختلفة وولاءات متنافرة قوى أمرٍ واقع متعددة، تجد في انسداد الآفاق السورية مرتعاً لممارسة سلطةٍ قد تدوم سنواتٍ طويلة أو قد تنهار بسرعة، مثلها في ذلك مثل «الأبد» الأسدي الحاكم في الأمد الجغرافي المجاور. الدوام والانهيار احتمالات ممكنة ومستحيلة في آنٍ معاً، سواء كان للنظام الأسدي أو لسلطات الأمر الواقع حيث لا يُسيطر، وهي احتمالات خارج إرادة وأيادي السوريين والسوريات في كلّ حال.