وأكثر أمر ملفت للنظر في اجتماعات دافوس لهذه السنة، هو الإدراك العام بين مختلف الأوساط بأن الصين، ذلك البلد المزدهر، برغم أنها محكومة بقسوة، لم تعد نجماً صاعداً، بل نجماً قد صعد. ولعل الكلام الكثير في دافوس حول هذا الموضوع، يكون عامل تحفيز لمزيد من التأمل الذاتي في الغرب، في كل الأمور، وليس فقط حول موضوع الأنظمة المصرفية، بدلاً من مجرد الاكتفاء بجولة أخرى من توبيخ الشرق.
ربما حان الوقت لإعادة النظر في الديمقراطية كما نعرفها الآن، ليس فقط بسبب النجاح الاقتصادي للصين في ظل نظامها السلطوي، والذي يعتبر رمز الحداثة اللاغربية، بل لأن الغرب نفسه قد تغير.
ففي أجزاء كبيرة من العالم اليوم، لا سيما في الولايات المتحدة، لم نعد نعيش في ديمقراطيات صناعية، ناهيك عن الأرستقراطية القائمة على الزراعة، والتي انبثق عنها معظم أفكار الأنظمة السياسية ومؤسساتها. فنحن نعيش اليوم ديمقراطية استهلاكية.
في الديمقراطية الاستهلاكية، تنحو إشارات التغذية الرجعية من السياسة والإعلام والسوق، كلها إلى توجيه المجتمع نحو السعي إلى إشباع الرغبات الشخصية بشكل فوري، ويندر وجود قدرات سياسية للتفكير طويل الأمد، والتخطيط واستمرارية الحوكمة، على النسق الذي استطاع إلى الآن أن يرفع من شأن الصين ويدفعها إلى التقدم.
وعندما تجتمع ندرة القدرات السياسية والديمقراطية الاستهلاكية من جهة، مع البراعة التكنولوجية القوية من الجهة الأخرى، تتضخم التأثيرات المجتمعية وتمتد لتتجاوز اللحظة الراهنة والبيئة المحلية.
ويتطلب هذا الواقع الجديد تعزيز قدرات الحكم وتصميم آليات «فلترة» مؤسساتية أفضل ـ بتطبيق المزيد من الضوابط والرقابة ـ ليس فقط ضد الاستبداد قصير الأجل الذي تمارسه الإرادة الحرة، نتيجة لمفهوم «رجل واحد صوت واحد»، بل أيضاً ضد أقرب فترة انتخابية للحملة الدائمة، عملية الشراء الاستهلاكي الوشيكة، التقرير ربع السنوي وحتمية «شراء الانتباه بالنقود» في عصر الإعلام الجديد، عن طريق استبدال المداولات الديمقراطية بالبرمجة الحزبية وتلفزيون الواقع.
صحيح أنه ليس بمقدور أي نظام حكم البقاء بدون رضا المحكومين. لكن، كما أدرك كل الحكماء السياسيين من كونفوشيوس إلى أفلاطون، فليس بمقدوره أيضاً الديمومة إذا خضع بشكل مفرط إلى حكم «شهوات» الجماهير، بحسب تعبير أفلاطون.
وكما يحدث على الأغلب، فإن التطرف يظهر الجوهر. والجميع يرى الآن أن تجربة الديمقراطية المباشرة في كاليفورنيا، حيث يؤول الحكم للمبادرات التي تحظى برضى الجماهير، قد كانت لها نتائج تدميرية. وتظهر أزمة كاليفورنيا انحرافات حضارة ال«دايت كوك»، التي تريد حلاوة بدون سعرات حرارية، واستهلاكاً بدون مدخرات، وبنية تحتية حديثة ومدارس جيدة بدون ضرائب. وهذا الخلل الوظيفي الذي أصاب كاليفورينا، ليس إلا صدى عالياً للسياسة الأميركية ككل.
وحريّ بنا، في هذا السياق، أن نعيد النظر في افتراضاتنا في الغرب، عن طريق تفحص أفضل الممارسات في الصين، حيث يحتفظ الحكام بقدرات سياسية أكبر للحكم. وفي حين يتم إطلاق العنان لطاقات الجماهير في مجال تنظيم المشاريع التجارية في السوق الحرة، فإن يد الدولة الكونفوشيوسية الجديدة تقيد كل تلك المصالح، باسم التناغم الاجتماعي والأهداف طويلة الأمد.
وكما يدرك الآن غوغل وليو سياوباو جيداً، فإن نظام الصين، ملطخ، بالطبع، بصفات تعاكس توجهات الغرب، من حيث غياب الحريات الشخصية وحرية التعبير وضعف حكم القانون وضعف مساءلة السلطات، إضافة إلى شهوة تحول تلك اليد المسيطرة القوية إلى قبضة قمع أو راحة مفتوحة للفساد.
وبينما يتفاعل هذان النظامان (الصيني والأميركي)، اللذان يسميهما المؤرخ نيال فيرغسون «صيميركا»، مع بعضهما البعض عبر حوض الأطلسي ـ المركز الجديد للجاذبية العالمية ـ فسوف تتمخض احتكاكاتهما وانصهاراتهما عن فرصة مهمة لابتداع شيء جديد: فلسفة حوكمة توازن بين مصلحة الفرد والمصلحة العامة، وبين المنفعة الفورية والمنافع طويلة الأمد. نظام يكبح الرغبات الجماهيرية غير المدروسة، بدون أن يقتل ديناميكية الطموح الشخصي.
إذا كان العنوان الأبرز للقرن العشرين هو المنافسة بين الديمقراطية والشمولية السياسية، فإن عنوان القرن الواحد والعشرين سيكون المجابهة بين إفراط الديمقراطية الاستهلاكية من جانب، والحكم الذي يتمتع بقدر من الرسوخ ولا يخضع لكثير من المساءلة الديمقراطية، من الجانب الآخر.
-------------------------------------------------------------------
محرر نشرة «نظرة عالمية شاملة» وزميل في معهد نيكولاس بيرغروين
البيان - دبي
ربما حان الوقت لإعادة النظر في الديمقراطية كما نعرفها الآن، ليس فقط بسبب النجاح الاقتصادي للصين في ظل نظامها السلطوي، والذي يعتبر رمز الحداثة اللاغربية، بل لأن الغرب نفسه قد تغير.
ففي أجزاء كبيرة من العالم اليوم، لا سيما في الولايات المتحدة، لم نعد نعيش في ديمقراطيات صناعية، ناهيك عن الأرستقراطية القائمة على الزراعة، والتي انبثق عنها معظم أفكار الأنظمة السياسية ومؤسساتها. فنحن نعيش اليوم ديمقراطية استهلاكية.
في الديمقراطية الاستهلاكية، تنحو إشارات التغذية الرجعية من السياسة والإعلام والسوق، كلها إلى توجيه المجتمع نحو السعي إلى إشباع الرغبات الشخصية بشكل فوري، ويندر وجود قدرات سياسية للتفكير طويل الأمد، والتخطيط واستمرارية الحوكمة، على النسق الذي استطاع إلى الآن أن يرفع من شأن الصين ويدفعها إلى التقدم.
وعندما تجتمع ندرة القدرات السياسية والديمقراطية الاستهلاكية من جهة، مع البراعة التكنولوجية القوية من الجهة الأخرى، تتضخم التأثيرات المجتمعية وتمتد لتتجاوز اللحظة الراهنة والبيئة المحلية.
ويتطلب هذا الواقع الجديد تعزيز قدرات الحكم وتصميم آليات «فلترة» مؤسساتية أفضل ـ بتطبيق المزيد من الضوابط والرقابة ـ ليس فقط ضد الاستبداد قصير الأجل الذي تمارسه الإرادة الحرة، نتيجة لمفهوم «رجل واحد صوت واحد»، بل أيضاً ضد أقرب فترة انتخابية للحملة الدائمة، عملية الشراء الاستهلاكي الوشيكة، التقرير ربع السنوي وحتمية «شراء الانتباه بالنقود» في عصر الإعلام الجديد، عن طريق استبدال المداولات الديمقراطية بالبرمجة الحزبية وتلفزيون الواقع.
صحيح أنه ليس بمقدور أي نظام حكم البقاء بدون رضا المحكومين. لكن، كما أدرك كل الحكماء السياسيين من كونفوشيوس إلى أفلاطون، فليس بمقدوره أيضاً الديمومة إذا خضع بشكل مفرط إلى حكم «شهوات» الجماهير، بحسب تعبير أفلاطون.
وكما يحدث على الأغلب، فإن التطرف يظهر الجوهر. والجميع يرى الآن أن تجربة الديمقراطية المباشرة في كاليفورنيا، حيث يؤول الحكم للمبادرات التي تحظى برضى الجماهير، قد كانت لها نتائج تدميرية. وتظهر أزمة كاليفورنيا انحرافات حضارة ال«دايت كوك»، التي تريد حلاوة بدون سعرات حرارية، واستهلاكاً بدون مدخرات، وبنية تحتية حديثة ومدارس جيدة بدون ضرائب. وهذا الخلل الوظيفي الذي أصاب كاليفورينا، ليس إلا صدى عالياً للسياسة الأميركية ككل.
وحريّ بنا، في هذا السياق، أن نعيد النظر في افتراضاتنا في الغرب، عن طريق تفحص أفضل الممارسات في الصين، حيث يحتفظ الحكام بقدرات سياسية أكبر للحكم. وفي حين يتم إطلاق العنان لطاقات الجماهير في مجال تنظيم المشاريع التجارية في السوق الحرة، فإن يد الدولة الكونفوشيوسية الجديدة تقيد كل تلك المصالح، باسم التناغم الاجتماعي والأهداف طويلة الأمد.
وكما يدرك الآن غوغل وليو سياوباو جيداً، فإن نظام الصين، ملطخ، بالطبع، بصفات تعاكس توجهات الغرب، من حيث غياب الحريات الشخصية وحرية التعبير وضعف حكم القانون وضعف مساءلة السلطات، إضافة إلى شهوة تحول تلك اليد المسيطرة القوية إلى قبضة قمع أو راحة مفتوحة للفساد.
وبينما يتفاعل هذان النظامان (الصيني والأميركي)، اللذان يسميهما المؤرخ نيال فيرغسون «صيميركا»، مع بعضهما البعض عبر حوض الأطلسي ـ المركز الجديد للجاذبية العالمية ـ فسوف تتمخض احتكاكاتهما وانصهاراتهما عن فرصة مهمة لابتداع شيء جديد: فلسفة حوكمة توازن بين مصلحة الفرد والمصلحة العامة، وبين المنفعة الفورية والمنافع طويلة الأمد. نظام يكبح الرغبات الجماهيرية غير المدروسة، بدون أن يقتل ديناميكية الطموح الشخصي.
إذا كان العنوان الأبرز للقرن العشرين هو المنافسة بين الديمقراطية والشمولية السياسية، فإن عنوان القرن الواحد والعشرين سيكون المجابهة بين إفراط الديمقراطية الاستهلاكية من جانب، والحكم الذي يتمتع بقدر من الرسوخ ولا يخضع لكثير من المساءلة الديمقراطية، من الجانب الآخر.
-------------------------------------------------------------------
محرر نشرة «نظرة عالمية شاملة» وزميل في معهد نيكولاس بيرغروين
البيان - دبي