حبوب العودة إلى الوطن هي خليط من أدوية أخرى عديدة مثل: (مضاد الاكتئاب) الذي قد يتعرض له بعض المبتعثين بعد سنوات من العيش في مجتمعات خضراء وحيوية ثم تستقبلهم الرياض مثلاً بالغبار والكدر، وكذلك (مضاد الإحباط) الذي قد يتعرضون له إذا ما استثمروا توقعات عالية في قدرتهم على إعادة تشكيل المجتمع ثقافياً واجتماعياً وفق ما اكتسبوه من خبرات حضارية خلال فترة ابتعاثهم ثم يكتشفون أن المهمة أثقل مما يتصورون، وتتطلب مقومات حضارية بطيئة النمو، وكذلك (مضاد جلد الذات) في حال تحوّلهم، بمجرد نزولهم أرض المطار، إلى آلات نقد ذاتي حادة لا تبقي شيئاً في الوطن إلا وتسمه بالتخلف، وتقارن كل شيء هناك بكل شيء هنا، مستخرجاً عيباً أو قصوراً في كل ما يراه، سواءً كان رصيفاً، أو إجراءً، أو إنساناً. وكذلك ينبغي أن تحتوي حبوب العودة إلى الوطن إلى (مثبط للطموح) يهدف إلى إعادة مستويات الطموح في الدم على معدلاته الطبيعية لدى أولئك الذين يعودون للوطن عودة الفاتحين وكأنهم فتحوا دولة الابتعاث فتحاً ولم يعودوا منها بشهادة فحسب، فيتصرفون وكأن بقية أبناء الوطن الذين لم يجربوا الابتعاث لا يفقهون شيئاً من علوم الدنيا. ويفترض أن تحتوي الحبوب على (مضاد للانفصام)، ينوء بالمبتعث من التحول إلى شخصين، أحدهما ما يزال يعيش ذهنياً في سان دييغو وهيوستن، والثاني يمارس كدحه اليومي في شوارع الرياض والدمام، ولكي يخفف على نفسه وطأة الفارق الجغرافي، تجده يكثر التردد على الأمكنة المتشابهة بين المدينتين، مثل ستاربكس!
يقترح الطبيب النفسي أن تحتوي الحبوب أيضاً على مضاد للصدمات الحقوقية، لاسيما لمبتعثي الدول التي تتمتع بمستوى عال من العدالة المجتمعية، عندما يفاجؤون بكثرة المشاهد والمواقف التي تعودوا على اعتبارها كارثية في دول الابتعاث، بينما هي يومية وعادية في السعودية ولا يرفّ لها جفنٌ من أجفان مواطنيها بسبب الاعتياد، ابتداءً من طريقة التعامل مع العامل الأجنبي البسيط، معنوياً ومادياً وحقوقياً، وانتهاءً بالمحسوبية المتوقعة في الوزارة والعمل والشارع. أما الذين نما في قلوبهم حب البيئة والقلق على مصيرها أثناء تواجدهم في دول الابتعاث، فالأحرى أن تحتوي جرعتهم اليومية من حبوب العودة إلى الوطن على مضاد للحسرة، ونسبة من الأملاح المستخلصة من دموع (آل غور)، لاسيما وهم يكتشفون أن عادات البيئة الحسنة التي اكتسبوها أثناء الابتعاث، مثل إعادة التدوير، وترشيد استخدام الطاقة والمياه، كلها قد بدأت في الانسحاب تدريجياً من قائمة العادات الحميدة، ودخلت في قائمة العادات (القديمة) بسبب صعوبة الإبقاء عليها في الوطن. أما مهووسو النظام والترتيب، فعليهم تناول حبة من هذه الحبوب قبل كل مشوار بالسيارة في شارع التخصصي، أو دخول فرع بنك من البنوك المحلية، أو مراجعة دائرة الأحوال المدنية لإضافة مواليدهم الذين ولدوا في الخارج. ومن الضروري أن تمنح الحبوب متعاطيها من حالة (النوستالجيا القهرية) التي أصابت كثيراً من مبتعثي السبعينات، وجعلتهم يعيشون بقية حياتهم في السعودية على إيقاع أسطوانة مشروخة اسمها (عندما كنتُ في أمريكا..).
حبوب العودة إلى الوطن قد تستخدم لفترة قصيرة بعد العودة مباشرة، وقد تستخدم لسنوات طويلة في حالة المبتعثين الذين تتحول أعراضهم إلى حالة مزمنة. كما أنها صالحة للجنسين، ولربما اضطرت المبتعثات إلى استخدام جرعات أعلى منها لأن الفارق الاجتماعي بين ما كنّ عليه في دولة الابتعاث، وما صرن إليه بعد العودة إلى الوطن أكبر وأشقّ وأصعب. فبعد أن اعتادت المبتعثة في دولة الابتعاث على الحياة كفرد اجتماعي كامل الصلاحيات، تكتشف في السعودية أن صلاحياتها الاجتماعية قد اقتطعت أكثر من النصف، وتحولت المبتعثة بمجرد نزولها إلى المطار من فرد مستقل، إلى فرد مُعال، ومعتَمِد على ذَكَر ما، أياً كان، لتسيير شؤون حياتها اليومية البسيطة. وستكتشف المبتعثة التي كانت تخرج من باب شقتها في بلد الابتعاث، لتتسوق في السوبرماركت، وتستقل المواصلات العامة، أو تقود سيارتها، وتنهي اجراءتها المدنية، وتذهب إلى جامعتها، وتجتمع مع صديقاتها، وتسهر في مكتبة الجامعة، وتقضي بعض الوقت في مقهاها المفضّل، أن كل هذه الشؤون، رغم بساطتها المفرطة، ستصبح أكثر تعقيداً في السعودية، ولن تفهم كما لن يفهم أحد لماذا يجعلها السعوديون بهذا التعقيد. لماذا تحتاج المبتعثة جزئياً أو كلياً إلى رجل ما يساعدها في قضاء شؤونها اليومية. لماذا لا يمكنها أن تخرج من باب منزلها في الرياض، وتتجه إلى المقهى الذي في طرف الشارع لتشتري كوب قهوة، ثم تشتري حاجياتها اليومية من البقالة، وتسدد فاتورة الكهرباء، ثم تعود إلى البيت مثل أي إنسان طبيعي فوق الأرض؟ ولمثل هذه الأسئلة (السهلة الممتنعة) تحتاج المبتعثة إلى كمية مضاعفة من حبوب العودة إلى الوطن عن تلك التي يحتاجها المبتعث!
حبوب العودة إلى الوطن صالحة أيضاً لأولئك الذين كان يفترض أن يستغلوا تجربة الابتعاث للتعالق مع الثقافات الأخرى، وتعلم لغة الحوار مع الآخر المختلف، فإذا بهم يعودون أكثر انغلاقاً وأحادية مما كانوا عليه من قبل. الحبوب يمكن تحويلها إلى قطرة للأعين التي رأت السيئ والمعيب في تجربة الابتعاث، ولم تر الحسن المشرق، أو تلك التي رأت الثانية، ولم تر الأولى، وفي الحالتين يعاني المبتعث من هذا الحَوَل في تجربته الابتعاثية، وتقل استفادته منها إلى حد الصفر أحياناً. وما أعظم خسارة الذي ابتعث إلى بلد متنوع المذاهب وظلّ طائفياً، أو بلد المساواة الاجتماعية وظلّ عنصرياً، أو بلد العدالة الحقوقية وظلّ طبقياً، أو بلد الانفتاح الثقافي وظلّ مؤدلجاً.
في حبوب العودة إلى الوطن إذن خليط من الحكمة الثقافية والفلسفية والاجتماعية والعملية والروحية والعقلية التي كان يجب أن تترسب جيداً في شخصية المبتعث والمبتعثة بعد تجربة غنية جداً كهذه. ولكن قدرة المبتعثين على ترسيب هذا الخليط النافع بشكل فعّال تختلف من مبتعث لآخر، فالمرور بالتجربة شيء، واستخلاص المفيد منها ذاتياً شيء آخر تماماً، ولذلك كان لا بد من حبوب كهذه، يستثمر فيها صديقي الطبيب النفسي عصارة طبه، ويبدأ معي أنا، ولعلها تفيد.. وعسى!
----------------------
* كاتب سعودي
يقترح الطبيب النفسي أن تحتوي الحبوب أيضاً على مضاد للصدمات الحقوقية، لاسيما لمبتعثي الدول التي تتمتع بمستوى عال من العدالة المجتمعية، عندما يفاجؤون بكثرة المشاهد والمواقف التي تعودوا على اعتبارها كارثية في دول الابتعاث، بينما هي يومية وعادية في السعودية ولا يرفّ لها جفنٌ من أجفان مواطنيها بسبب الاعتياد، ابتداءً من طريقة التعامل مع العامل الأجنبي البسيط، معنوياً ومادياً وحقوقياً، وانتهاءً بالمحسوبية المتوقعة في الوزارة والعمل والشارع. أما الذين نما في قلوبهم حب البيئة والقلق على مصيرها أثناء تواجدهم في دول الابتعاث، فالأحرى أن تحتوي جرعتهم اليومية من حبوب العودة إلى الوطن على مضاد للحسرة، ونسبة من الأملاح المستخلصة من دموع (آل غور)، لاسيما وهم يكتشفون أن عادات البيئة الحسنة التي اكتسبوها أثناء الابتعاث، مثل إعادة التدوير، وترشيد استخدام الطاقة والمياه، كلها قد بدأت في الانسحاب تدريجياً من قائمة العادات الحميدة، ودخلت في قائمة العادات (القديمة) بسبب صعوبة الإبقاء عليها في الوطن. أما مهووسو النظام والترتيب، فعليهم تناول حبة من هذه الحبوب قبل كل مشوار بالسيارة في شارع التخصصي، أو دخول فرع بنك من البنوك المحلية، أو مراجعة دائرة الأحوال المدنية لإضافة مواليدهم الذين ولدوا في الخارج. ومن الضروري أن تمنح الحبوب متعاطيها من حالة (النوستالجيا القهرية) التي أصابت كثيراً من مبتعثي السبعينات، وجعلتهم يعيشون بقية حياتهم في السعودية على إيقاع أسطوانة مشروخة اسمها (عندما كنتُ في أمريكا..).
حبوب العودة إلى الوطن قد تستخدم لفترة قصيرة بعد العودة مباشرة، وقد تستخدم لسنوات طويلة في حالة المبتعثين الذين تتحول أعراضهم إلى حالة مزمنة. كما أنها صالحة للجنسين، ولربما اضطرت المبتعثات إلى استخدام جرعات أعلى منها لأن الفارق الاجتماعي بين ما كنّ عليه في دولة الابتعاث، وما صرن إليه بعد العودة إلى الوطن أكبر وأشقّ وأصعب. فبعد أن اعتادت المبتعثة في دولة الابتعاث على الحياة كفرد اجتماعي كامل الصلاحيات، تكتشف في السعودية أن صلاحياتها الاجتماعية قد اقتطعت أكثر من النصف، وتحولت المبتعثة بمجرد نزولها إلى المطار من فرد مستقل، إلى فرد مُعال، ومعتَمِد على ذَكَر ما، أياً كان، لتسيير شؤون حياتها اليومية البسيطة. وستكتشف المبتعثة التي كانت تخرج من باب شقتها في بلد الابتعاث، لتتسوق في السوبرماركت، وتستقل المواصلات العامة، أو تقود سيارتها، وتنهي اجراءتها المدنية، وتذهب إلى جامعتها، وتجتمع مع صديقاتها، وتسهر في مكتبة الجامعة، وتقضي بعض الوقت في مقهاها المفضّل، أن كل هذه الشؤون، رغم بساطتها المفرطة، ستصبح أكثر تعقيداً في السعودية، ولن تفهم كما لن يفهم أحد لماذا يجعلها السعوديون بهذا التعقيد. لماذا تحتاج المبتعثة جزئياً أو كلياً إلى رجل ما يساعدها في قضاء شؤونها اليومية. لماذا لا يمكنها أن تخرج من باب منزلها في الرياض، وتتجه إلى المقهى الذي في طرف الشارع لتشتري كوب قهوة، ثم تشتري حاجياتها اليومية من البقالة، وتسدد فاتورة الكهرباء، ثم تعود إلى البيت مثل أي إنسان طبيعي فوق الأرض؟ ولمثل هذه الأسئلة (السهلة الممتنعة) تحتاج المبتعثة إلى كمية مضاعفة من حبوب العودة إلى الوطن عن تلك التي يحتاجها المبتعث!
حبوب العودة إلى الوطن صالحة أيضاً لأولئك الذين كان يفترض أن يستغلوا تجربة الابتعاث للتعالق مع الثقافات الأخرى، وتعلم لغة الحوار مع الآخر المختلف، فإذا بهم يعودون أكثر انغلاقاً وأحادية مما كانوا عليه من قبل. الحبوب يمكن تحويلها إلى قطرة للأعين التي رأت السيئ والمعيب في تجربة الابتعاث، ولم تر الحسن المشرق، أو تلك التي رأت الثانية، ولم تر الأولى، وفي الحالتين يعاني المبتعث من هذا الحَوَل في تجربته الابتعاثية، وتقل استفادته منها إلى حد الصفر أحياناً. وما أعظم خسارة الذي ابتعث إلى بلد متنوع المذاهب وظلّ طائفياً، أو بلد المساواة الاجتماعية وظلّ عنصرياً، أو بلد العدالة الحقوقية وظلّ طبقياً، أو بلد الانفتاح الثقافي وظلّ مؤدلجاً.
في حبوب العودة إلى الوطن إذن خليط من الحكمة الثقافية والفلسفية والاجتماعية والعملية والروحية والعقلية التي كان يجب أن تترسب جيداً في شخصية المبتعث والمبتعثة بعد تجربة غنية جداً كهذه. ولكن قدرة المبتعثين على ترسيب هذا الخليط النافع بشكل فعّال تختلف من مبتعث لآخر، فالمرور بالتجربة شيء، واستخلاص المفيد منها ذاتياً شيء آخر تماماً، ولذلك كان لا بد من حبوب كهذه، يستثمر فيها صديقي الطبيب النفسي عصارة طبه، ويبدأ معي أنا، ولعلها تفيد.. وعسى!
----------------------
* كاتب سعودي